أزمة الرواتب تهدد العقل قبل الجيب

2025-08-27 10:07:20

لم يكن بيان الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين بشأن تأجيل العام الدراسي لهذا العام لأيام قليلة وتقليص الدوام الأسبوعي مفاجئا لأحد، فقد سبقته الإشاعات التي ترددت على مدار الأسابيع الماضية حول عجز الحكومة الفلسطينية عن دفع الرواتب، مهدت ميدان التوقع، وفتحت الباب أمام القلق الذي تعيشه الأسر الفلسطينية.

أعرف عائلات لم يكن بمقدورها دفع أقساط المدارس الخاصة، لكنها اضطرت لتسجيل أبنائها فيها، لتفادي الارتباك المتوقع في التعليم الحكومي و لضمان تأسيس أبنائها في الصفوف الأولى في محاولة لتأمين مستقبل أبنائهم التعليمي.

أن قرار اتحاد المعلمين لا يمكن قراءته إلا كاحتجاج نقابي مباشر وفقا لما ذكره في بيانه الصحفي، فالغاية واضحة هي الضغط على الحكومة لتوفير الرواتب وضمان حقوق المعلمين وغيرها من المطالب التي ذكرها البيان.

ولكن خلف هذا البيان، مشهدان آخران، المشهد الأول يتمثل في أزمة احتجاز أموال الضرائب الفلسطينية (المقاصة) التي تحولت منذ عام 2019 إلى أداة إسرائيلية خانقة، فقد توقفت تحويلاتها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، مما أدى إلى عجز وزارة مالية، وتذبذب صرف الرواتب وتفاقم الارتباك في الحياة اليومية.

وقد انعكس هذا الارتباك اليومي على واقع الطلبة، الذين ينشأون في ظل غياب تعليم حقيقي، الأمر الذي يهدد بفقدان التأسيس التعليمي السليم، وبالتالي ضياع جيل كان يفترض أن يُبنى وفق أسس تعليمية متينة.

فعلى سبيل المثال، طالب اليوم في الصف الرابع أو الخامس الأساسي قد يكون منذ جائحة كورونا لم يحظَ بتعليم منتظم وسليم، نظراً لتوالي الأزمات، بدءاً من الانقطاع بسبب الجائحة، مروراً بإضرابات المعلمين للمطالبة بتحسين الرواتب، وانتهاءً بأزمة الرواتب المستمرة وغيرها.

دراسة صادرة عن الاتحاد الدولي للتعليم في أبريل 2025 كشفت أرقاماً لا يمكن تجاهلها، أظهرت بوضوح حجم الضرر، 62 % من المعلمين قالوا إن أداءهم تراجع وأكثر من نصفهم أقروا بأن علاقتهم بالطلاب تدهورت، حين يصبح الصف الدراسية باردا ومتوترا ً، فإن الخسارة لا تقع على المعلم وحده، بل على جيل كامل.

المعلم الفلسطيني لم يكن يوماً موظفاً فقط يتلقى راتبا ً، بل هو حامل لواء الوعي، وحارس الهوية الوطنية، في مجتمع يفاخر بنسبة أمية شبه معدومة، وبمستوى تعليمي يُضاهي الدول المستقرة، رغم شظف العيش واستمرار الاحتلال.

الاستثمار في التعليم يظل على الدوام أداة لحماية الوعي الجماعي وبناء المستقبل. اليوم، هذا الاستثمار مهدد. ومعه يتهدد الاستقرار النفسي للمعلمين، والتوازن الاجتماعي للعائلات، والفرصة الوحيدة للأجيال القادمة في أن تنشأ قادرة على الدفاع عن حقوقها.

ما يجري هو تهديد مباشر للمسيرة التعليمية وللمجتمع بأكمله، حين تنهار المنظومة التعليمية، تنهار معها البنية النفسية للطلبة والمعلمين، وتُفتح الأبواب أمام الجهل والتهميش وفقدان الانتماء، والسؤال اليوم ليس فقط " متى تحل الأزمة المالية؟ " بل كيف نضمن ألا يُصبح التعليم أول ضحاياها؟ " يجب ان يكون الاستثمار في التعليم ليس بنداً مالياً في موازنة، بل التزام وطني مستدام.

إلى متى سيظل التعليم ورقة ضغط في الأزمة المالية؟ أن خسارة يوم واحد من التعليم لا تعوض، وأن استمرار الازمة تعني تآكل البنية الأهم لمستقبل فلسطين؟ إنقاذ التعليم يبدأ من احترام المعلم وتأمين راتبه وصون كرامته. فبغير ذلك، لا يمكن أن ننتظر جيلا واثقا من نفسه قادرا ً على القراءة والوعي والمقاومة، و حاملا ً للسلاح الأهم في مواجهة الأزمات: المعرفة.

إن التعليم هو حجر الأساس في بناء وعي الأجيال وصناعة قادة المستقبل، ودون تعليم جاد ومستمر، ستواجه الأجيال نقصاً معرفيا يضعف قدرتنا على فهم ما يجري من حولنا، ويجعل الأجيال القادمة أقل استعدادا للدفاع عن حقوقها والانخراط في العمل الوطني والسياسي.

إن استمرار تأمين التعليم بما في ذلك إيجاد حلول مستدامة لرواتب المعلمين هو استثمار أساسي لاستدامة القضية على المدى الطويل، فالمعرفة هي السلاح الأهم وضمانها يعني أن الأجيال القادمة ستظل قادرة على النضال من أجل حقوقها ومستقبلها.