واشنطن والعداء السافر لفلسطين

لم يكن القرار الأميركي بمنع الرئيس الفلسطيني من دخول نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة مجرد إجراء بروتوكولي. إنه إعلان سياسي صريح بأن واشنطن لا يمكن التعويل عليها، فهي لم تعد تعترف حتى بالحد الأدنى من شرعية الوجود والتمثيل الفلسطيني، بما في ذلك أمام الأمم المتحدة.
هذه الصلافة لا يمكن عزلها عن طبيعة إدارة ترامب، التي قررت منذ اللحظة الأولى الاصطفاف الكامل مع إسرائيل، لا باعتبارها حليفًا استراتيجيًا فحسب، بل بوصفها الطرف الوحيد المخوّل بتحديد مستقبل المنطقة.
خرق صارخ للاتفاقيات الدولية
من الناحية القانونية، ما فعلته واشنطن يمثل خرقًا صارخًا لاتفاقية مقر الأمم المتحدة الموقعة عام 1947، والتي تلزم الدولة المضيفة بمنح تأشيرات دخول لجميع ممثلي الدول الأعضاء والمراقبين، بغض النظر عن الخلافات السياسية.
تجاهل هذه الالتزامات لا يسيء فقط لفلسطين، بل يطعن في مدى استقلالية المنظمة الأممية نفسها، ويجعلها رهينة لإرادة الدولة المضيفة. وإذا كانت المنظمة غير قادرة على ضمان وصول رئيس دولة مراقب إلى قاعتها العامة، رغم المجاهرة برهانه على واشنطن، فكيف يمكنها حماية حق هذا الشعب في تقرير مصيره وتمكينه من نيل حريته واستقلاله وعودة لاجئيه؟
واشنطن: من وسيط مزعوم إلى طرف متورط
قرار واشنطن يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنها ليست وسيطًا، بل طرفًا متورطًا في مشروع تصفية القضية الفلسطينية. فهل ستدفع هذه الحقيقة القوى الدولية الأخرى إلى إعادة التفكير في ضرورة كسر الاحتكار الأميركي وأن تتحمل مسؤولياتها، وتشجع الفلسطينيين على استعادة وحدتهم السياسية في مواجهة المخططات التي تستهدف شطب فلسطين، إذا كانت هذه الدول فعلًا مخلصة حتى النهاية في الاعتراف بدولة فلسطين، وتمكين شعبها من تقرير مصيره وتجسيد سيادته عليه، لتأكيد مصداقية مواقفها الأخيرة بأنها ليست مجرد إبراء ذمة أمام الرأي العام في بلدانها.
بين غزة ونيويورك : الهدف هو التصفية
الذريعة الإسرائيلية – الأميركية في غزة هي “اجتثاث حماس”، بينما الممارسة على الأرض هي إبادة جماعية تستهدف حياة البشر والحجر. وفي نيويورك، تبدو “الذريعة إجرائية”، بينما وظيفتها إقصاء فلسطين، بما يشمل إقصاء القيادة المزمنة في رهاناتها على واشنطن عن منبر الأمم المتحدة. هذا يؤكد أن فلسطين هي المستهدفة، بكل مكوناتها، سواء كانت سلطة خيارها الوحيد استرضاء واشنطن وتل أبيب، أو مقاومة لمخططاتهما.
فشل سياسة اللهاث وخيار الاسترضاء
لقد آن الأوان لاعتراف القيادة المهيمنة على القرار والمسار الوطنيين بأنها سلكت طريقًا لم يجلب سوى الكوارث الوطنية، وبأن اللهاث وراء سراب تسوية واشنطن وتل أبيب لم يجلب سوى المزيد من الشرذمة. فالرهان على واشنطن لم يكن فقط خاسرًا، بل مدمّرًا، لأنها لم تكن يومًا وسيطًا، بل طرفًا أساسيًا في مشروع التصفية.
فرصة للوحدة والنهوض الوطني الشامل
هذا السقوط لوهم الرهان على الدور الأميركي قد يكون لحظة مفصلية تفتح الباب لاستنهاض الحالة الفلسطينية؛ إذا أحسنت القيادات الفلسطينية قراءته واستخلاص عبره من خلال: أولًا: العمل فورًا على تطبيق اتفاق بكين لاسترجاع دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بنائها كجبهة وطنية جامعة لكل الفلسطينيين.
ثانيًا: صياغة برنامج وطني يقوم على التحرر والحقوق، لا على إدارة أزمة أو انتظار “مكرمات أو هبات” أميركية.
ثالثًا: تفعيل أدوات القوة الشعبية والدبلوماسية بالتحالف مع القوى الدولية والشعوب التي ترفض الإبادة كما ترفض تحويل الأمم المتحدة إلى ملحق بالبيت الأبيض.
الكل الفلسطيني أمام استحقاقات عاجلة لطي صفحة الانقسام ومواجهة المخاطر الماثلة أمام المصير الوطني برمته. الأمر الذي يستدعي البدء الفوري بتشكيل حكومة وفاق وطني مخوّلة بمعالجة كل آثار الإبادة، وما لحق بالنظام السياسي على عِلاته المعروفة سابقًا لمواجهة المخاطر الكبرى، وبما يشمل التحضير الجدي لانتخابات عامة شاملة في مدى زمني يتفق عليه كي تُرد الأمانة للشعب التي لا يؤتمن عليها غيره.
هل نحن جادون في استخلاص العبر
لم يعد ممكنًا الاستمرار في اللعبة الإسرائيلية بأن المشكلة مع “حماس” أو مع “السلطة”. فالاستهداف الأميركي – الإسرائيلي يشمل الكل الفلسطيني. هذه الحقيقة يجب أن تكون نقطة الانطلاق لتجاوز الانقسام وإعادة الاعتبار للمعركة الكبرى لنيل الحرية والانعتاق من الاحتلال.
تحويل الفضيحة الأميركية إلى فرصة وطنية
قرار البيت الأبيض قد يبدو هزيمة دبلوماسية جديدة لسياسة القيادة المهيمنة، لكنه في الحقيقة مرآة كاشفة لمدى عُري الرهان على واشنطن. فهذا القرار الفضيحة يمكن أن يتحول إلى فرصة، إذا امتلكت هذه القيادة الشجاعة الكافية للعودة إلى شعبها وطي صفحة الوهم، على قاعدة أن فلسطين لن تُسترد من البيت الأبيض، بل أولًا وأخيرًا من إرادة شعبها وصموده وقدرته على البقاء، وما يستدعيه ذلك من بلورة تحالف دولي يضع العدالة فوق الصفقات والابتزاز.
فجوهر الشرعية هو الشرعية الوطنية، ومدى الالتفاف الشعبي حول قيادته نحو الحرية والخلاص من الاحتلال.
أي خطة دبلوماسية نريد؟
بات من الواضح أن استراتيجية الارتهان للخارج على حساب عوامل استنهاض الداخل ليس لها أي رصيد في الواقع، وأن أي خطة دبلوماسية لا تنطلق من عناصر قوة البيت الداخلي، سيما في مرحلة التحرر الوطني في مواجهة المشروع الصهيوني وظهيرته البيت الأبيض، لا بد أن تكون جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية عمل مستندة إلى طاقات الشعب الفلسطيني وتوفير كل عناصر قدرته على الصمود، ومرتكزة في تحالفاته الدولية على القوى التقدمية والإنسانية التي غطت تحركاتها عواصم العالم، بل وأجبرت الأغلبية الساحقة من هذه العواصم على تغيير مواقفها، فالجريمة أكبر من أن تحتملها الإنسانية. إن هذا الدرس وغيره يؤشر إلى أن العالم، الذي يعيش على خيط رفيع من مضمون العدالة، لا يحترم سوى الأقوياء الذين يكرسون حياتهم لصون كرامة شعوبهم.
لو لم تكن منظمة التحرير قوية وتتمتع بالتفاف الأغلبية الساحقة من شعبها في الوطن والشتات، لما سارعت الجمعية العامة إلى الانتقال إلى مقرها الأوروبي في جنيف عندما مُنع الرئيس عرفات من مخاطبة العالم من على منصتها في نيويورك عام 1988. وعلينا أن نسأل: كيف تراجعت مكانة المنظمة رغم الانتفاضة الكونية التي تقف مع فلسطين وشعبها؟ وأن نستخلص العبر والدروس من تلك المقارنة. فالموقف الأميركي الأخير يظهر بما لا يدع مجالًا للشك أن واشنطن المنخرطة في هندسة الحالة الفلسطينية وفق المخططات الإسرائيلية، لم تعد تكتفي بدعم الاحتلال، بل صارت طرفًا أساسيًا ومعلنًا في مؤامرة محاولة محو فلسطين من الجغرافيا والتاريخ، وليس فقط من المنابر الدولية. لذا، فإن الرد الفلسطيني يجب أن يكون موحدًا ويرتكز في الوقت نفسه على استنهاض كل عناصر القوة الذاتية، وبما يصون وحدة التمثيل لاستعادة مكانة منظمة التحرير وتعزيز دورها كبيت جامع للكل الفلسطيني، وكونها الجبهة الوطنية العريضة لقيادة التحرر الوطني.كما يجب بناء شبكة تحالفات واسعة تستثمر القانون الدولي والتكتلات الدولية، وتحويل فضيحة واشنطن العدوانية إلى فرصة لإعادة الاعتبار للوحدة الفلسطينية، وللأمم المتحدة كمنبر جامع، وللقضية الفلسطينية كقضية تحرر وحقوق لا يمكن شطبها.