تفكيك الهيمنة المعرفية والكولونيالية لتحقيق العدالة المناخية...فلسطين أنموذجًا

برز خطاب العدالة المناخية إطارًا مركزيًا في الحوكمة البيئية، حيث يربط العمل المناخي بحقوق الإنسان والإنصاف والمسؤولية التاريخية.
إلا أن هذا الإطار الذي يبدو "تحرريا" يتطلب تفكيكا نقديا من منظور ما بعد الاستعمار والاقتصاد السياسي. يكشف هذا المقال التحليلي الديناميكي عن القيود المعرفية والمادية والبنيوية للسرديات السائدة حول العدالة المناخية، ويعيد تصور أزمة المناخ بوصفها متجذرة في الاستعمار ورأسمالية العرق (الرأسمالية الإثنية) وأنماط الاستغلال المستمرة بين الشمال والجنوب.
القصور النظري لمفهوم العدالة المناخية السائد
رغم أن العدالة المناخية تتناول اسميًا التوزيع غير المتكافئ للمسؤوليات والتأثيرات المناخية، إلا أن تجلياتها المهيمنة غالبًا ما تعيد إنتاج معارف استعمارية؛ إذ تختزل الأطر الحالية الأزمات الاجتماعية-البيئية المعقدة إلى مشكلات تقنية تتعلق بحسابات الكربون، متجاهلة التفاوتات التاريخية العميقة التي تؤسس للهشاشة المناخية. فعلى سبيل المثال، أقر التقرير السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ) IPCC( بأن "أنماط عدم المساواة المستمرة مثل الاستعمار" تشكل دوافع للهشاشة المناخية، إلا أن هذا الاعتراف نادرا ما يُترجم إلى تحول جوهري في السياسات الدولية. وبدلا من ذلك، تستمر الامتدادات الاستعمارية عبر مقاربات علمية وتقنية تبدو محايدة تجاه تغير المناخ.
يكشف البناء المفاهيمي للعدالة المناخية السائدة عن إشكالية معرفية جوهرية؛ إذ تعمم التصورات الليبرالية الغربية للطبيعة والمجتمع والمسؤولية والعدالة. هذا التعميم يخفي ما يسميه غونزاليس "الإقصاء الهاوي"، أي جعل أنماط المعرفة والوجود غير الغربية غير مرئية. والنتيجة هي إطار للعدالة المناخية يعيد إنتاج ما يسميه ويلكنز وداتشوا-تيرفاودي "استمرارية الاستعمار في إنتاج المعرفة" في الحوكمة المناخية. ولا يقتصر هذا العنف المعرفي على المستوى النظري، بل ينعكس في نتائج مادية، خاصة في تصميم السياسات المناخية وتنفيذها، حيث تتكرر علاقات الاستنباط الاستعمارية تحت غطاء الاستدامة.
رأسمالية العرق واستعمار المناخ: تناقضات بنيوية غالبا ما يفشل خطاب العدالة المناخية في معالجة الدور الجذري لرأسمالية العرق في أزمة المناخ. تشير غونزاليس بشكل مقنع إلى أن "المجتمعات العرقية حول العالم تحملت العبء الأكبر من الرأسمالية الكربونية من المهد (استخراج الوقود الأحفوري) إلى اللحد (تغير المناخ)". يكشف هذا التحليل كيف أن الاقتصاد العالمي القائم على الوقود الأحفوري والذي تسبب في الأزمة المناخية، تأسس فعليا على العبودية والاستعمار وأشكال الاستعمار الجديد المستمرة.
غالبا ما تعيد الحلول المناخية القائمة على اقتصاد السوق؛ مثل تسعير الكربون والتعويضات والإجراءات الطوعية للشركات، إنتاج هذه الأنماط التاريخية من عدم المساواة بدلا من تحديها. كما تشير سلطانة، فإن استعمار المناخ يتجلى "من خلال عمليات النيوليبرالية، ورأسمالية العرق، والتدخلات التنموية، ونماذج النمو الاقتصادي". ويتجسد ذلك في سياسات تضر بشكل منهجي بعالم الجنوب، كما توضح أبحاث Nature Sustainability حول "الاستيلاء الجوي"، حيث تتجاوز دول الشمال حصتها العادلة من ميزانية الكربون بثلاثة أضعاف، مستحوذة على نصف المجال الجوي لعالم الجنوب.
ويمثل هذا الاستيلاء تحويلًا اقتصاديًا هائلًا؛ إذ تبلغ قيمة التعويض عن هذا الاستحواذ على الموارد الجوية نحو "192 تريليون دولار... مستحقة للدول التي لم تتجاوز حصتها في عالم الجنوب"، أي بمعدل "940 دولارا للفرد سنويا" حتى عام 2050. ومع ذلك، ترفض المفاوضات المناخية الدولية باستمرار مثل هذا التعويض المادي، مفضلة تمويلا مناخيا قائما على العمل الخيري يكرس سيطرة الشمال على الموارد والتكنولوجيا.
خطاب العدالة المناخية يتعاطى غالبا مع مفهوم "العدالة" استنادًا إلى التعريفات السكولاستية التسطيحية، أي "التوزيع العادل في الأعباء والتکاليف المترتبة على أزمة المناخ بين الدول المتقدمة والصناعية والدول الفقيرة"، بحسب حجم ومسؤولية كل دولة في إنتاجها الحالي للانبعاثات الكربونية، وأيضا مسؤوليتها التاريخية بهذا الخصوص. وذلك انطلاقا من أن المجتمعات الفقيرة والضعيفة والأقل مسؤولية عن الانبعاثات، تدفع الفاتورة الأكبر لأزمة تغير المناخ، من حيث معاناتها من الانعكاسات المناخية المُدمِّرة، ما يعني تفاقم وتعمق عدم المساواة والظلم.
لو أردنا تجاوز التعريفات الغربية التقليدية لمفهوم العدالة المناخية، والغوص بعمق أكبر في المفهوم بأبعاده الاجتماعية والطبقية والاقتصادية والتاريخية، فهل يكفي الحديث عن الأعباء والتکاليف والمسؤوليات الحالية والتاريخية ومدى معاناة المجتمعات والشعوب المختلفة من الانعكاسات المناخية المدمرة؟
بداية لا بد من استحضار بعض الحقائق التاريخية والراهنة، التي تسببت إلى حد كبير في الأزمة المناخية الحالية، وتحديدًا كيفية نشوء الحضارة الغربية الحديثة. فالمدن والمباني الغربية الجميلة، والمنشآت والصروح الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية "المبهرة" و"المتقدمة"، والصناعات والتكنولوجيات المعقدة والمتطورة، ما كان لها أن تكون لولا الاستعباد الأوروبي للشعوب المستعمرة في آسيا وأفريقيا والأميركيتين، ونهب مواردها.
وهنا يحضرني قول المفكر والناقد الثقافي الألماني "والتر بنيامين": "كل نصب تذكاري حضاري هو أيضا نصب تذكاري للهمجية".
الدول الصناعية المتقدمة أصبحت غنية وراكمت ثرواتها الضخمة، بسبب استهلاكها الضخم للفحم والنفط والغاز، ونهبها للموارد الطبيعية في دول الجنوب الفقيرة، وبالتالي حرقها المتواصل والمتصاعد للوقود الأحفوري.
وبطبيعة الحال، تلك الدول لم تعوض الدول النامية عن الأضرار التي سببتها في الماضي وستسببها في المستقبل نتيجة لذلك.
الدول الرأسمالية الغربية تطاحنت فيما بينها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، على حصصها في الهيمنة العالمية والسيطرة على الأسواق ونهب موارد "العالم الثالث".
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، أنشأت الدول الرأسمالية المنتصرة الهياكل والمؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية، وبخاصة البنك وصندوق النقد الدوليين، استنادًا إلى اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، أداة تستخدمها
لتثبيت وتكريس سيطرتها على أسواق وموارد "العالم الثالث" ودعم شركاتها الاحتكارية لغزو واكتساح أسواق دول الجنوب وإغراقها بسلعها المدعومة، وبالتالي تعميق مديونيتها الضخمة وتبعيتها المالية والاقتصادية والسياسية للغرب الاستعماري وتخليد عملية إفقارها.
ولتثبيت وتعميق آليات النهب والإفقار والإلحاق، أنشأت الدول الرأسمالية الغربية، في العقود التالية للحرب العالمية، العديد من المنظمات والمؤسسات المالية والاقتصادية، من قبيل منظمة التعاون والتنمية، وبنوك التنمية متعددة الأطراف، ومنظمة التجارة العالمية.
النظام المالي والاقتصادي العالمي صممته الدول الرأسمالية الغربية الغنية ليخدم مصالحها بالدرجة الأولى، ويثبت استفرادها وهيمنتها على الاقتصاديات العالمية، وبخاصة اقتصاديات وأسواق دول الجنوب.
معظم شعوب الجنوب تواجه، منذ عقود، عملية إعادة استعمارها باسم "التنمية الاقتصادية" المنشودة التي تتفنن في صياغة أشكال النهب الذي تَجَسَّد في العقود الخمسة الماضية في سلخ رأسمال صاف بقيمة تريليونات الدولارات سنويًا، من دول الجنوب إلى دول الشمال، كخدمة ديون وأموال مهربة إلى المصارف الغربية وأخرى "مجهولة" الأصل.
هذه المبالغ في مجملها أكثر بأضعاف من الأموال التي نهبها الاستعمار التقليدي المباشر من مستعمراته السابقة طيلة قرون.
المفارقة أن الأنظمة الرأسمالية ذاتها (في عالم الشمال) التي قادت "الثورة الصناعية" الأوروبية في أواسط القرن الثامن عشر، والتي (أي الثورة الصناعية) يُعزى لها بداية زيادة الانبعاثات الكربونية والاحتباس الحراري، هي ذاتها التي استعمرت شعوب الجنوب (أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية) لضمان الاستيلاء على مواردها وأراضيها خدمة للرأسمال الغربي الصناعي وضمان "تطوره"، وتسبّبت في المجاعات واقترفت المذابح وعمليات الإبادة الجماعية، فشُحن أقنان وعبيد الجنوب إلى الموانئ الأوروبية واستُعبِدوا، وبالتالي مراكمة الأرباح والفوائض المالية والمادية الضخمة من دماء وثروات وموارد الجنوب، فامتُصت في كبرى المدن الأوروبية والأميركية، لازدهارها وتطورها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في أقل من قرنين (1765-1938) سرقت بريطانيا 45 تريليون باوند إسترليني (نحو 56 تريليون دولار أميركي بأسعار اليوم) من الهند التي رزحت تحت استعمارها، ودمرت أراضيها الطبيعية، وحتمًا، لم تتقاضَ الهند أجرًا مقابل هذا النهب.
وعندما طُرِدَ الاستعمار البريطاني من الهند (عام 1947) كانت نسبة الأمية في الأخيرة 87%، وذلك بعد أن رزحت لمئات السنين تحت نير الاحتلال البريطاني، وبالتالي مئات السنين من عمر الحضارة الغربية الحديثة.
وقد بلغ الصلف الغربي مبلغه في اتهام الهند بمواصلة استخراجها للفحم، وبالتالي مساهمتها في ضخ المزيد من الانبعاثات الكربونية، علما أن الاستعمار البريطاني هو من فرض بالقوة على الهند وغيرها من دول الجنوب استخراج الفحم والاعتماد عليه (لتغذية "ثورته الصناعية")، فأَرغموا الهنود والعديد من شعوب الجنوب بالاعتماد على الفحم؛ حيث لا يزال هذا القطاع يُشَغِّل (في دول الجنوب) عشرات ملايين العمال.
في إثر مغادرة الاستعمار الغربي دول الجنوب، واصلت منظومة رأسمال الشمال العالمي وتواصل ازدرائها لشعوب الجنوب، ويتجلى ذلك بأسطع أشكاله في استعلاء وعجرفة عديد من القيادات الغربية (جورج بوش الأب، جورج بوش الابن، دونالد ترامب، جو بايدن، إيمانويل ماكرون، بوريس جونسون وغيرهم).
غطرسة وازدراء رأس مال الشمال العالمي يتواصل بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا، ذلك أن الاستعمار ليس شيئا من الماضي، وبالتالي هُزِمَ إلى غير رجعة، بل هو، عند المنظومة الرأسمالية الغربية، حالة دائمة تتجلى بالعقلية الاستعمارية، حيث يُغرقون شعوب الجنوب بالدروس والمحاضرات بأنها مسؤولة عن جميع مشاكل التلوث البيئي، دون أن يعترفوا بأنهم هم المسؤولون أساسا عن تدمير النظام البيئي الطبيعي والمناخي.
ورغم أن الاتفاقية الإطارية للتغيرات المناخية الموقعة عام 1992 تحدثت عن "المسؤوليات المشتركة والمتباينة للدول"، إلا أن العديد من الدول الغربية "تعشق" الجزء المشترك في صيغة تلك الاتفاقية وتركز عليه، بمعنى "أننا جميعًا نتشارك في هذه الأزمة".
لكن، الحقيقة أننا (شعوب الجنوب الفقيرة والمهمشة) والمجتمعات الغربية لسنا على حد سواء في الأزمة المناخية، فالولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، تمثل نحو 4% من سكان العالم وتستهلك 25% من الموارد العالمية.
المسألة الجوهرية هنا، أن الدول الغربية الصناعية الأقوى نقلت جزءًا كبيرًا من إنتاجها إلى الدول النامية؛ فمساهمة الصين على سبيل المثال في انبعاثات غازات الدفيئة والتي تعد أكبر من أوروبا وأميركا الشمالية معًا، غير ناتجة فقط عن استهلاك الصينيين تحديدًا.
الصين تنتج حاليًا أعلى نسبة عالمية من غازات الدفيئة، إلا أن نسبة كبيرة من هذه الانبعاثات يعود إلى حقيقة أن جميع الدول الصناعية المتقدمة صدّرت وتصدّر صناعاتها إلى الصين، ثم مع ذلك، يتهمون الأخيرة بأنها الملوث الكربوني الأكبر.
الحقيقة أن الصين تنتج للدول الغربية جزءا كبيرا من فوائضها المالية ودولاراتها وآلياتها وماكناتها وبراغيها وهواتفها. فلو أَرجعت تلك الدول (إلى بلدانها) الإنتاج الصيني الضخم (المتراكم لصالحها ولصالح شركاتها العابرة للقارات)، فعندئذ ستتضخم الانبعاثات الكربونية في البلدان الغربية أضعاف مستوياتها الحالية.
جانب علمي هام تتجاهله عديد من الجهات الدولية والغربية، وهو أن تركيزها على مستوى الانبعاثات في الدول استنادا إلى الانبعاثات الكلية القائمة على الإنتاج الكلي مضللة، إذ من البديهي أن الانبعاثات الكلية للصين (لنحو مليار ونصف المليار نسمة) أكبر من الولايات المتحدة الأميركية (332 مليون نسمة)؛ لذا، المقياس العلمي الأكثر دقة وموضوعية هو ذلك المعبِّر عن مستوى الانبعاثات للفرد، وعندئذ سنجد أن الولايات المتحدة تنتج الانبعاثات الأعلى (حوالي 18 طن/فرد) ومن ثم الاتحاد الأوروبي (8 طن/فرد)، أما انبعاثات الصين فبلغت (6 طن/ فرد).
الأنكى من ذلك، يتهم الغرب جمهورية الصين الشعبية بأنها دولة توتاليتارية وديكتاتورية تنتهك حقوق الإنسان؛ فإذا كانت حقًا كذلك، لماذا لا تسحب منها استثماراتها وصناعاتها الضخمة؟ إنه النفاق بأوضح تجلياته.
الاستعمار البيئي: الأبعاد المادية والمكانية...فلسطين نموذجا
غالبًا ما يتجاهل خطاب العدالة المناخية الأبعاد المكانية والمادية للظلم المناخي، خاصة كيف يُعاد تشكيل البيئات المستعمَرة عبر مبادرات "خضراء" تعيد إنتاج علاقات القوة الاستعمارية. ويستخدم هذا "الاستعمار الأخضر" الحفاظ على البيئة والطاقة النظيفة كآليات لنهب الأراضي والموارد من المجتمعات الأصلية والمهمشة. من الأمثلة الإسرائيلية البارزة على ذلك قرية بئر هداج البدوية الفلسطينية في صحراء النقب، حيث يُعاني أهالي القرية (أكثر من 6 آلاف نسمة) من الحرمان الكامل للكهرباء بسبب سياسات الطاقة والتخطيط الإسرائيلية العنصرية؛ إذ نجد آلاف الدونمات من حقول الطاقة الشمسيّة تُقام على أراضيهم التاريخية المُصادرة لتأسيس "واحة الطاقة الشمسية" الأبرز في إسرائيل.
منازل القرية (أكثر من ألف منزل) لا تستفيد من الطاقة الشمسية التي تنتجها "الواحة الخضراء"، بل هي لخدمة آلاف منازل الإسرائيليين في التجمعات السكانية و"الكيبوتسات" اليهودية فقط. والمُفارقة، أن بيوت قرية بئر هدّاج المُجاورة غير موصولة بشبكة الكهرباء، كما حال سائر القرى البدوية في الجوار؛ بل إن حقهم في الكهرباء ووجودهم على الأرض أساسا مُقَيَّد. تجسد بئر هداج حالة نموذجية من العنصرية البيئية و"الغسيل الأخضر"، حيث يدفع أهاليها الكلفة البيئية والاجتماعية والسياسية لمشاريع الطاقة المتجددة. كما تكشف هذه الحالة أن الطاقة المتجددة في إسرائيل ليست للجميع، وأن العدالة الطاقية لا تُقاس بالميغاواط المنتجة، بل بمن يُمنح حق الوصول إليها. مثال إسرائيلي صارخ آخر يتمثل في قرية وادي النعم التي تُعد من أكبر القرى البدوية غير المعترف بها في صحراء النقب، ويبلغ عدد سكانها نحو 13 ألف نسمة هجرتهم إسرائيل من مناطق "الخزعلي والمرتبة" في النقب في الخمسينيات. ومنذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا لا تزال القرية محرومة من أبسط البنى التحتية، وعلى رأسها الكهرباء، علمًا أن واحدة من أكبر محطات الطاقة الإسرائيلية أُقيمت بين منازلهم وعلى أراضيهم وتُدعى "أوروت يوسف" ولا يحصلون منها إلا على تلوث الهواء. وفي الوقت ذاته، تشهد المناطق اليهودية المجاورة للقرية نهضة ضخمة في مشاريع الطاقة الإسرائيلية، خاصة في مجال الطاقة الشمسية.
إجمالا، تعد فلسطين نموذجًا بارزًا للاستعمار البيئي؛ إذ حولت السلطات الإسرائيلية "فلسطين إلى برميل بارود" من خلال زراعة أكثر من 250 مليون شجرة منذ عام 1948، معظمها من الأنواع الغازية (مثل الكينا والصنوبر والسرو) التي تغير النظم البيئية المحلية. وتخدم هذه الغابات غرضين: تغطية أنقاض القرى الفلسطينية المدمرة التي اقتُلِع منها أهلها الأصليون خلال نكبة عام 1948، ومُنع عودة الفلسطينيين إليها فعليًا. ويعد استحواذ الصندوق القومي اليهودي على نحو 13% من الأراضي الفلسطينية المحتلة مثالًا على كيف يمكن للبيئة أن تكون أداة للسيطرة الإقليمية. فهذه الغابات ليست مجرد تدخلات بيئية، بل تقنيات سياسية تعزز أهداف الاستعمار الاستيطاني تحت غطاء الحفاظ على البيئة.
دولة الاحتلال الإسرائيلي تحاول تسويق نفسها باعتبارها حارسة الطبيعة والمدافعة عن البيئة في الضفة الغربية، وهذا التسويق يتعارض مطلقًا مع مصالح المشروع الصهيوني الاستيطاني العدواني القائم على مبدأ الاستعلاء العنصري والتطهير العرقي ونهب أكبر قدر ممكن من الأرض والموارد، وإحلال المستوطنين الغزاة على أنقاض السكان الأصليين.
وبالتالي، الاعتبارات البيئية الإسرائيلية، إن وجدت، يتم إخضاعها دائمًا لاعتبارات ومفاهيم صهيونية عنصرية، مثل التفوق العرقي اليهودي الذي هو أساس المشروع الكولونيالي الاستيطاني الاقتلاعي. فعلى سبيل المثال، الاحتلال يستخدم ذريعة "المحميات الطبيعية" والأحراج كأداة لنهب الأراضي واقتلاع أصحابها الفلسطينيين منها وضمها إلى ما يسمى "سلطة الطبيعة" أو "أحراج إسرائيل"، أو تأجيرها لما يُسمى "مجلس الاستيطان الأعلى" الذي يبادر إلى اقتلاع الأشجار وبناء الوحدات الاستيطانية. أيضا، الينابيع التي يزعم المستوطنون أنهم هم الذين اكتشفوها، ويخترعون بالتالي أساطير وهمية حولها، هذه الينابيع استخدمها الفلاحون الفلسطينيون عبر الأجيال، منذ آلاف السنين. فالأذرع الإسرائيلية، مثل ما يسمى "سلطة الطبيعة"، وظيفتها هندسة فضاءات الاحتلال تحت ستار بيئي. كما أن ما يسمى الاستيطان الرعوي الذي تعاظم خلال السنوات العشر الأخيرة على مئات آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية، وتكثف بشكل خاص منذ أكتوبر 2023؛ هذا الشكل من الاستيطان ابتكره الاحتلال للاستيلاء السريع على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والسيطرة عليها وعلى كل ما تحويه من موارد طبيعية ومائية، وبخاصة في مناطق الأغوار، حيث يُخصص للبؤرة الاستيطانية الواحدة آلاف الدونمات من الأراضي المنهوبة من أصحابها الفلسطينيين، أو أن هذه الأراضي مصنفة إسرائيليا "محميات طبيعية"، والهدف النهائي تعزيز الوجود الاستيطاني اليهودي. وقد تستوطن هذه الأراضي الشاسعة أحيانا حفنة قليلة من المستوطنين (لا يتجاوز عددها 3-4 مستوطنين)، بذريعة توفير مراع يرعى فيها المستوطنون قطعان أغنامهم وأبقارهم.
نهب الأراضي الفلسطينية من خلال التوسع الاستيطاني وما يسمى المزارع الاستيطانية، وتشريد الرعاة والفلاحين الفلسطينيين، عبارة عن عملية تطهير عرقي واسع النطاق. وفي المقابل، يتآكل الوجود الفلاحي والرعوي الفلسطيني باستمرار.
الاحتلال الإسرائيلي يواصل بلا رحمة تدمير الطبيعة والنظام البيئي في مختلف أنحاء الضفة الغربية، من خلال التسارع المتضخم في مشاريعه الاستيطانية، تحت ستار القوانين والأوامر العسكرية وما يسمى "قوانين حماية الطبيعة" المطبقة فقط على الفلسطينيين لإرغامهم على هجر أراضيهم الزراعية. واللافت أن منظمات "المجتمع المدني" والمنظمات البيئية الإسرائيلية لا تتدخل لمنع المظالم الإسرائيلية البشعة المقترفة بحق البيئة الطبيعية والبشرية في الضفة الغربية، بل هي شريكة للاحتلال في تعزيز وشرعنة المشهد الكولونيالي-الاستيطاني.
وكما كان حال الاستيطان الصهيوني في فلسطين قبل عام 1948، فبِهدف تثبيت وتكريس الوجود الاستعماري الاستيطاني ماديا ووجدانيا في الضفة الغربية تتم عملية تأصيل وتجذير الارتباط بين المستوطنين والأرض الفلسطينية المنهوبة؛ وذلك من خلال ممارسة العمل الزراعي ورعي المواشي؛ تلك الممارسة التي أصبحت من سمات الحالة الاستيطانية. ويتم تغليف الارتباط الاستيطاني بالأرض من خلال التعبئة التوراتية والرومانسية التاريخية، لمنح المستعمِر إحساسا بعضوية وأصلانية ارتباطه بالأرض.
ولا يقتصر هذا النمط على فلسطين؛ ففي أنحاء عالم الجنوب، غالبا ما تؤدي مشاريع الطاقة المتجددة ومناطق الحفظ إلى تجريد المجتمعات الأصلية من أراضيها دون معالجة عدم المساواة الأساسية في الوصول إلى الموارد. كما تشير الأبحاث إلى أن المشاريع "الخضراء" غالبا ما تعيد إنتاج تناقضات "رأسمالية العرق والعدالة المناخية"، حيث تعزز المبادرات البيئية الهياكل القائمة للعرق والطبقة الاجتماعية بدلا من تحديها.
الأبعاد الطبقية والعدالة الإجرائية
عادة ما يُغفل إطار العدالة المناخية الأبعاد الطبقية للأزمة المناخية. فوفقا للأبحاث حول "بناء حركات عدالة مناخية ما بعد الاستعمار"، تعكس الحركات المناخية أحيانًا أولويات الطبقات المهنية بدلا من المجتمعات العاملة الأكثر تضررا من التدهور البيئي. ويخلق ذلك ما تسميه إحدى الدراسات "توتر المقاييس" في حركات العدالة المناخية، أي الفجوة بين السياسات العالمية المجردة والنضالات المحلية الملموسة.
وتتضرر العدالة الإجرائية بشكل خاص من استبعاد الأصوات المهمشة من عمليات اتخاذ القرار. إذ تظل مؤسسات الحوكمة المناخية خاضعة لهيمنة الخبرة الشمالية، بينما تُهمش نظم المعرفة الأصلية والجنوبية إلى مجرد رمزية. ويؤكد ويلكنز وداتشوا-تيرفاودي أن هذا الاستبعاد الإجرائي يتطلب "مقاربة ما بعد استعمارية في البحث حول العدالة المناخية، تعترف بأنظمة المعرفة المتنوعة".
العديد من نشطاء حركة "العدالة المناخية" لا يدركون غالباً ما يرفعونه من شعارات برجوازية رأس مال العالم الشمالي، إذ يعبِّرون عن قلقهم بشأن "مستقبلنا"، وبالتالي ضرورة "الحفاظ على مناخ آمِن للأجيال القادمة".
فأي "مستقبل" ذاك الذي يتحدثون عنه؟ إذ أن مئات ملايين الأطفال في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية ليس لديهم مستقبل أصلا ولا حتى حاضر، وهم بالتأكيد ليسوا قلقين بشأن مستقبلهم، بل قلقين بشأن حاضرهم.
القلق في بلدان الجنوب يجب أن يتركز أساسًا حول وضعها الراهن (الآن)، علما أن عدد الجوعى حاليا، بلغ نحو المليار، أي حوالي 13% من سكان العالم، بل إن 2,7 مليار في العالم لا يجدون حاليًا طعامًا يوميًا يأكلوه. ورغم ذلك، عديد من نشطاء "العدالة المناخية" يَعِظون الناس بقولهم: "قلّلوا الاستهلاك".
ما معنى ذلك عند أطفال غزة المحرومين من الخبز والماء والدواء، ويتضورون جوعاً منذ أشهر طويلة، ويُحرقون ويُذبحون جائعين في الخيام أو في المشافي التي تعرضت للقصف عدة مرات؟
وما معنى ذلك عند الفلسطينيين في غزة، بينما المجازر البشرية تلاحقهم ويعانون الجوع والعطش والتشريد والقتل على مدار الساعة، مضافًا إلى ذلك سنين الحصار والتجويع والإذلال الطويلة حتى يومنا هذا، تحت سمع وبصر منظرّي حقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية والأمن الغذائي؟
هل تطبيق العدالة انتقائي، حسب ما تقتضيه مصالح وتحالفات منظومة رأس مال الشمال العالمي ومؤسساته ومنظماتها الإنسانية والقانونية والحقوقية والاقتصادية والمالية والبيئية؟ فدولة الاحتلال الإسرائيلي، بعدوانها على قطاع غزة، بما حمله من سلوك وحشي، ثبتت قوانين الغاب، وكأنها أصبحت فوق القوانين التي تعارفت عليها البشرية، والقانون الدولي الذي صنعته أصلا الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية؟ "السماح" بشن حرب تجويع على الفلسطينيين وقتل أطفالهم وقصف مستشفياتهم وتدمير حياتهم (على الهواء مباشرة)، وجعل موت الفلسطيني وتجويعه "مقبول" أو قد "يمر بسهولة" بالنسبة للمنظومة الدولية، بينما يصبح المساس بما يسمى "الأمن الإسرائيلي" أمرا شديد الحرمة؛ قد يؤدي ذلك إلى أن يصبح هذا النمط من التوحش غير المسبوق أسلوباً عاماً في الصراعات المستقبلية.
يضاف إلى كل ذلك، صمت "المنظومة الدولية" عن الآثار المدمرة على النظام المناخي في منطقتنا، الناتجة عن كميات ضخمة جدا من الانبعاثات الكربونية من الطائرات الحربية الإسرائيلية وقصفها المكثف الواسع والمتواصل لقطاع غزة منذ أكتوبر 2023، بالإضافة للعمليات العسكرية الإسرائيلية البرية المكثفة بالدبابات والآليات الثقيلة والمدفعية والقنابل والقذائف والصواريخ، بما تجاوز البصمة الكربونية لـعشرات الدول مجتمعة؛ فضلا عن تدهور النظم البيئية وتلويث الموارد المائية وزعزعة قدرات عزل الكربون في التربة.
لذا، حركة العدالة المناخية لا ركائز لها في مجتمعات "العالم الثالث" والمجتمعات الفقيرة والجائعة، بل والبلدان العربية والإسلامية التي دمرها الغرب الاستعماري وحلفه الأطلسي وميليشياته الظلامية والطائفية، وفتتها وفكّك بناها الاجتماعية والاقتصادية والإنتاجية والأمنية تحت ستار الشعارات الكاذبة، من قبيل "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" و"محاربة أسلحة الدمار الشامل" (فلننظر إلى ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن على سبيل المثال).
والمثير للاشمئزاز، أن أنظمة إمبريالية مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تزعم أنها تقود التغيير في المجال المناخي (كما في عهد الرئيس جو بايدن)، لكنها في ذات الوقت مصمّمة على مواصلة الحفريات واستخراج الوقود الأحفوري في أراضيها وفي الأراضي التي لا تزال تحتلها بالقوة العسكرية. فها هي القوات الأميركية المحتلة لشرق الفرات وشمال شرق سوريا، تسرق النفط والغاز والحبوب السورية في وضح النهار، وتبيعه في الأسواق السوداء.
وها هي المنظومة الإمبريالية ذاتها التي دمرت النظام المناخي، دمرت أيضًا دولًا عربية كاملة، تحت ستار الديمقراطية؛ فزرعوا فيها الفساد والطائفية الدموية، وحرموها من أبسط حقوق الإنسان الأساسية (المياه، الكهرباء، الصحة والتعليم)، كما حدث في العراق الذي يُعد من أغنى دول العالم نفطيًا. ومع ذلك، ما فتئوا يتحدثون عن الديمقراطية. فحالياً، أصبح الفساد في العراق الأعلى عالميًا (مئات مليارات الدولارات سرقها أعوان الاحتلال الأميركي).
مسارات ما بعد الاستعمار: ما بعد العدالة المناخية الليبرالية يتطلب تجاوز النقد إعادة بناء العدالة المناخية على أسس ما بعد استعمارية. وهذا يستلزم، وفقًا لسلطانة، "مواجهة استعمار المناخ" عبر "مسارات تفكيك الاستعمار لتحقيق العدالة المناخية". ويجب أن تعالج هذه المسارات الأبعاد الإجرائية والتوزيعية للعدالة المناخية، مع تحدي البنى التحتية لرأسمالية العرق التي تقود أزمة المناخ.
إجرائيًا، يعني ذلك مركزية أنظمة المعرفة الأصلية والجنوبية ليس كمكملات للعلم الغربي، بل كأطر متكافئة معرفيًا لفهم العلاقات الاجتماعية-البيئية. وتوزيعيًا، يتطلب الأمر تعويضات مادية عن الاستيلاء التاريخي والمستمر على المجال الجوي، تقدر بنحو "6.2 (4.5–9.6) تريليون دولار سنويًا، أو ما يقارب 8%" من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. أما على المستوى البنيوي، فتتطلب العدالة المناخية ما بعد الاستعمارية تفكيك ما تسميه غونزاليس "السمات الجوهرية لرأسمالية العرق: التراتبية العرقية للبشر من أجل الربح ومنطقها المدمر للبيئة". ويستدعي ذلك تحدي العقائد القانونية الدولية التي "تتعامل مع الطبيعة كملكية وتبرر إخضاع الشعوب غير الأوروبية". ودون معالجة هذه القضايا الجذرية، ستعيد السياسات المناخية إنتاج الأنماط الاستعمارية ذاتها تحت أقنعة خضراء.
الانعدام الصارخ للمساواة الكربونية، إذا صحّ التعبير، هو أحد اشتقاقات النظام الاجتماعي الطبقي القائم الذي يتميز بانعدام المساواة الاجتماعية الاقتصادية، والتفاوت والاستقطاب الطبقيين الكبيرين المتجسدين بالأرباح الحقيقية الضخمة الناتجة عن ما يعرف في الاقتصاد السياسي بـ "فائض قيمة العمل" الذي يتمتع به أساسًا الرأسمال.
النظام الاجتماعي الطبقي القائم على أساس اقتصاد السوق، يشجع الناس عمومًا، والشرائح الطبقية الميسورة والثرية خصوصًا، على ممارسة أعلى قدر من الاستهلاك (كل فئة اجتماعية بقدر إمكانياتها المادية)، دون وضع أي عقبات في طريق الحياة الاستهلاكية، ودون فرض ضرائب على الكربون بما يتناسب مع قيم الاستهلاك.
في النظام النيوليبرالي، يعد الإفراط في الاستهلاك المثل الأعلى، ويتفق نمط استغلال واستنزاف الموارد العامة مع هذا النهج.
كما أن الخصخصة تعد مكونًا أساسيًا من مكونات اقتصاد السوق؛ فعندما تتم عملية نقل أو تمليك مورد طبيعي إلى أيدي القطاع الخاص الرأسمالي، ينتهي عندئذ أي احتمال لضبط فوضى الاستهلاك الفاحش وبالتالي الانبعاثات المنفلتة من أي ضوابط صارمة، لأن همّ القطاع الخاص الرأسمالي، منذ البداية، هو تحقيق أكبر قدر ممكن من
الأرباح المالية في أقصر فترة ممكنة، الأمر الذي يتعارض مع التفكير الإيكولوجي والرغبة في حماية الموارد. المنطق النيوليبرالي يركز على مراكمة أعلى كم ممكن من الأرباح المالية، أما الموارد العامة والطبيعية فإلى الجحيم.
في المحصلة النهائية، المشكلة الحقيقية هي سياسية، وذلك مهما كانت الأبحاث العلمية حول المناخ رائعة وشاملة وعميقة وذات مصداقية ومقنعة.
إذ لا تكفي المعرفة في علوم المناخ والهندسة والتكنولوجيا والفيزياء، بل يجب معرفة كيفية مواجهة الهياكل الاقتصادية السياسية والاجتماعية الطبقية الجامدة التي تتحكم بها المصالح الرأسمالية الذاتية الأنانية الضيقة.
لذا، فإن تكرار مؤتمرات المناخ العالمية، منذ عام 1995 وحتى يومنا هذا لا معنى له، ذلك أن سلطة الشركات الاحتكارية العالمية الضخمة تمنع إحداث أي تغيير حقيقي؛ كما أن الصناعات الملوِّثة القوية القديمة والأشخاص المنتفعين من تلك الصناعات الذين يراكمون ثروات مالية خيالية على حساب وجود ومستقبل البشرية، تمنع التغيير.
مؤتمرات المناخ لم تسهم في بلورة تعهد غربي بكسر احتكار المعرفة العلمية والتقنية الخاصة بإنتاج السلع البيئية، وبالتالي التعهد المُلزم قانونيا بتقديم المعلومات عن التكنولوجيا النظيفة؛ بما يفضي إلى تحقيق الحد الأدنى من العدالة والمساواة في حرية الوصول إلى الطاقات المتجددة، بمشاريع مجدية إيكولوجيًا ومستدامة اقتصاديًا وبيئيا على الأرض.
والمفارقة أن الصفقات الكبيرة في مؤتمرات المناخ العالمية تُبرم في الغرف المغلقة بعيدًا عن الأضواء. فمن يُسمح له بالدخول إلى تلك الغرف لمناقشة سياسة المناخ العالمية؟ الرؤساء التنفيذيون لشركات الوقود الأحفوري والتعدين العملاقة، مثل British Petroleum و Rio Tinto و Shell، يليهم الوزراء. هؤلاء، أي شركات التنقيب عن النفط والسياسيون، هم من يتخذون القرارات المتصلة بانبعاثات الكربون!
شركات النفط والغاز الكبرى تتفنن في تشويه الوعي العلمي؛ فهي تؤثر بقوة على السياسات وعلى تطوير التقنيات بطريقة تناسب إستراتيجية أعمالها. وإحدى وسائلها المهمة تتمثل في التمويل المكثف للأنشطة البحثية التي تتمركز في العديد من مراكز الأبحاث والجامعات الرائدة في الولايات المتحدة الأميركية؛ وذلك بهدف إنتاج "أوراق بحثية" تساهم في تشويه الوعي العلمي، من خلال تزييف وتحوير المعطيات والحقائق.
الأزمة المناخية والإيكولوجية، كشأن سائر الأزمات، لن يدفع ثمنها الرأسماليون وطبقة الأغنياء، ولن تجد حلها على يد رؤساء الحكومات وأصحاب الشركات الاحتكارية وخبراء مراكز الدراسات الدولية، بل سيدفع ثمنها بالدرجة الأولى شعوب الأرض المقهورة والمعذبة.
الخلاصة: إعادة تشكيل العدالة المناخية
لكي تكون العدالة المناخية ذات معنى، يجب أن تتصالح مع تناقضاتها الداخلية وتواطؤها الاستعماري. ويتطلب ذلك تجاوز المقاربات التقنية نحو معالجة الجذور التاريخية والبنيوية والمعرفية لأزمة المناخ. كما تؤكد غونزاليس، "إن التحليل الواعي للعرق في تغير المناخ... يمكن أن يكشف أوجه التشابه بين أشكال الاضطهاد المختلفة ظاهريًا من أجل بناء التحالفات اللازمة لتحقيق نتائج عادلة وتحررية".
وبذلك، تصبح العدالة المناخية المعاد تصورها اعترافًا بأن تغير المناخ ليس مجرد تحدٍ علمي، بل أزمة عدالة متجذرة في التاريخ الاستعماري ورأسمالية العرق. وما لم تُعالِج الحوكمة المناخية هذه البنى الأساسية للسلطة والامتياز، فستستمر في إعادة إنتاج عدم المساواة التي تدعي معالجتها، مقدمة حلولًا تقنية لما يتطلب في جوهره تحولًا سياسيًا.
ويتطلب النهج ما بعد الاستعماري في العدالة المناخية إعادة تخيل علاقتنا ببعضنا وبالعالم الطبيعي، خارج منطق الاستخراج الاستعماري.
العدالة المناخية والتنمية المستدامة، كما العدالة الاجتماعية وسيادة الديمقراطية، لن تتحققا على يد الاحتكارات الملوثة والمدمرة للبيئة والمناخ، ولن تتحققا أيضًا على يد الحكومات والمؤسسات الراعية لمصالح الرأسمالية، بل تتحققا بمعركة تخوضها الشعوب المتضررة ذاتها.
إن تغيير النظام الاقتصادي السائد الذي يُمجد النمط الحياتي الاستهلاكي هو المقدمة الحتمية لمواجهة جذرية ونوعية لأزمة المناخ العالمية.
خلاصة القول، لا خيار أمام الشعوب الأصلية والشرائح الشعبية وحركاتها الاجتماعية وقواها الديمقراطية المكافحة، سوى الاتحاد في جبهة موحدة لإنهاء هيمنة اقتصاد السوق، والحد من تسلط وديكتاتورية المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، واستبدال السياسات التنموية القائمة على الزيادة المتواصلة لمعدلات النمو الذي يؤدي إلى تعميق استغلال العمال والمزارعين واستنزاف الطبيعة، واستبدال ذلك بنظام اقتصادي جديد عادل عماده تلبية الاحتياجات الأساسية للناس واحترام التوازنات الطبيعية والأنظمة الإيكولوجية، وتأمين شروط الحياة الكريمة المستدامة، وضمان "الحق في الحياة"، كما أشار، في تموز الماضي، الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (الخاص بتغير المناخ).