"بعجبهمش العجب": أزمة الاحترام في فضاء السوشال ميديا

2025-09-15 13:16:51

في السنوات الأخيرة، تحولت شبكات التواصل الاجتماعي من منصات للتواصل وتبادل الأفكار إلى ساحات مكتظة بالتعليقات السلبية والساخرة. لم يعد الأمر مجرد اختلاف في الرأي، بل أضحى حالة عامة من التقليل والاستهزاء، حيث لا يسلم أحد من موجة النقد الجارح، سواء كان مواطنًا عاديًا يشارك إنجازًا شخصيًا أو مسؤولًا يقوم بواجبه أو شاب يتناول قهوة "الجكر" على درجات باب العامود، او سائق عمومي يطلق زامور سيارته على حاجز احتلالي أو شاب يرقص فرحا في لحصوله على بقايا طحين في المكلومة غزة..وغيرها العديد من المشاهد.. والمفارقة أن هؤلاء الذين يهاجمون لا يرضيهم شيء؛ فإن تحرك المسؤول تعالت الانتقادات، وإن تقاعس نال النصيب ذاته من الهجوم، وإن حقق أحد إنجازًا سُرعان ما يواجه تقليلاً من جهده، وان ضحك الغزي سينال تعليقات انت مش سائل وغيرك يموت جوعاً، وذاك الشاب المقدسي يثقل بالانتقادات، وذلك المناضل على صهوة رزقه يقللون من سلوكه النضالي لرفض الحواجز.. الأغلبية تطلق كلمات محبطة أو أيقونة "أضحكني" التي تحولت من رمز للضحك إلى أداة للتقزيم والسخرية.
هذه الظاهرة تعكس أزمة عميقة في ثقافة الاحترام والتقبّل. كثير من الناس باتوا يتعاملون مع فضاء السوشال ميديا كمنبر للتفريغ، يطلقون فيه إحباطاتهم الشخصية على شكل تعليقات جارحة. غاب النقد البنّاء الذي يسعى للتصويب والإصلاح، وحل محله جلد الآخرين وإسقاطهم معنويًا. وفي الحالة الفلسطينية تحديدًا، تتضاعف خطورة هذه الظاهرة، فبينما يواصل الاحتلال سياساته في الانتقاص من السيادة الفلسطينية والتقليل من الإنجازات الوطنية، نجد أنفسنا أمام جوقة من التعليقات الداخلية التي تردد نفس النغمة، سواء بوعي أو بجهل. هنا لا يقف الأمر عند حدود السخرية الفردية، بل يتحول إلى إضعاف للرواية الوطنية وإسناد غير مباشر لخطاب الاحتلال. والأسوأ أن كثيرًا من الجهلاء يشاركون في هذه الموجة، فيعيدون إنتاج ما يريده الآخرون: صورة مجتمع مهزوم، لا يثق بمقدراته ولا يحترم منجزاته.
ولم يتوقف الأمر عند حدود النقاشات العامة، بل تسلل أيضًا إلى مؤسسات التعليم. تلك التي كان يُفترض أن تكون منارات للوعي والنقد المسؤول، تحولت ساحاتها الافتراضية والعلنية إلى أماكن للتجريح والإساءة، حيث تصدر التعليقات المسيئة من طلبة وأحيانًا من أكاديميين، بدل أن تكون المؤسسة التعليمية فضاءً للحوار الراقي واحترام الرأي الآخر، باتت هي الأخرى مسرحًا لانعكاس ثقافة السخرية والاستهزاء، مما يعمّق أزمة القيم ويهدد البيئة التعليمية برمتها. والأمر لا يقف عند الطلبة، بل يمتد أيضًا إلى الموظفين في المؤسسات، والأخطر بينهم موظفو القطاع العام. هؤلاء الذين يفترض أن يكونوا واجهة للانضباط والالتزام بخدمة المجتمع، نجد بعضهم يغرق في ثقافة التعليقات المسيئة والاستهزاء، سواء عبر حساباتهم الشخصية أو في أوساط العمل. فبدلًا من أن يكونوا قدوة في نشر الاحترام والثقة، يسهمون في تكريس ثقافة اللامسؤولية والتهكم، وهو ما يفاقم من أزمة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
ولعلّ الخطر الأكبر يبدأ من المدارس والمنظومة التربوية. فالتعليم ليس مجرد مواد أكاديمية وامتحانات، بل هو في جوهره عملية لبناء القيم والاتجاهات السليمة. وحين تعجز مدارسنا عن ترسيخ قيم الاحترام وتقبّل الآخر، فإنها تُنتج أجيالًا ترى في السخرية والاستهزاء وسيلة طبيعية للتعبير. المدرسة التي يُفترض أن تكون البيت الثاني للطلبة، تتحول أحيانًا إلى بيئة تستنسخ سلوكيات المجتمع السلبية بدل أن تُصلحها، وهنا تبرز الحاجة الماسّة إلى تطوير المناهج والأنشطة التربوية، وإعداد المعلّمين ليكونوا قدوة في الحوار البنّاء واحترام الاختلاف. ولا يمكن أيضًا تجاهل أثر الثورة التكنولوجية وتوافر الأجهزة الذكية في تضخيم هذه الظاهرة، فاليوم يملك معظم الأفراد هاتفًا ذكيًا يتيح لهم الوصول إلى منصات التواصل في أي وقت ومن أي مكان. ومع سهولة النشر الفوري والتعليق اللحظي، باتت الكلمات تطلق بلا تفكير، وكثيرًا ما تُستخدم هذه الأجهزة كسلاح للتجريح بدل أن تكون وسيلة للمعرفة والتواصل. هذا الانفتاح التكنولوجي غير المسبوق منح الناس مساحة واسعة للتعبير، لكنه في غياب الوعي والضبط التربوي والاجتماعي أدى إلى انفلات في الخطاب وغياب في المسؤولية. وفي ظل هذا المشهد، يبرز الذكاء الاصطناعي كعنصر محوري يمكن أن يكون سلاحًا ذا حدّين. فمن جهة، أسهمت تقنياته في تعزيز الفوضى الرقمية عبر الخوارزميات التي ترفع المحتوى الأكثر إثارة للجدل والسخرية على حساب الحوار البنّاء، ومن جهة أخرى يحمل فرصًا مهمة إذا ما استُخدم بشكل واعٍ، مثل تطوير أنظمة لمراقبة الخطاب المسيء، أو بناء منصات تعليمية وتوعوية تساعد على ترسيخ قيم الحوار والاحترام.
إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب وعيًا جماعيًا وإجراءات عملية، تبدأ من تعزيز التربية الإعلامية الرقمية في المدارس والجامعات لتعليم الطلبة كيفية استخدام وسائل التواصل بوعي، وتحديد الفارق بين النقد البنّاء والتجريح. وتحتاج المؤسسات الرسمية، خاصة في القطاع العام، إلى وضع سياسات واضحة لسلوك موظفيها على السوشال ميديا، ليكونوا قدوة في الخطاب المسؤول. كما أن للأسرة دورًا محوريًا في متابعة سلوك الأبناء على المنصات، وغرس قيم الاحترام والنقاش الراقي منذ الصغر. وعلى المستوى الفردي، يجب أن نتعلم ربط النقد بالحلول، وأن ندرك أن أيقونة ساخرة أو تعليقًا عابرًا قد يحمل أثرًا نفسيًا واجتماعيًا مدمرًا. ويمكن للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أن يلعبا دورًا إيجابيًا إذا استُخدما لتطوير أدوات لرصد التعليقات المسيئة والحد من خطاب الكراهية والاستهزاء.
إن استمرار هذه الحالة يهدد قيم الحوار، ويزرع في النفوس روح الإحباط والعزوف عن الإنجاز. نحن بحاجة اليوم إلى استعادة ثقافة النقد المسؤول، القائم على الحجة والاحترام لا على السخرية والاستهزاء. فوسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون أدوات للتغيير الإيجابي إذا أحسنا استخدامها، لبناء الثقة لا لهدمها، ولتعزيز الرواية الفلسطينية لا لإضعافها، ولتشجيع الإنجاز لا تحطيمه.