بريطانيا ومسؤولية انجازها لدولة فلسطين.

لطالما كانت بريطانيا اللاعب الأكبر في مأساة فلسطين ونكبتها ليس فقط منذ ورقة بلفور1917م التي أعطت من لا يملك لمن لا يستحق كما قال عن الورقة (الوعد) الرئيس جمال عبدالناصر بل لأن معظم التحركات لتفتيت المنطقة العربية والاسلامية لأهداف استخرابية (استعمارية) بريطانية جاءت من بريطانيا (ولا حقًا أمريكا) بشكل أساسي دون إعفاء دول الاستخراب أجمعين من المسؤولية.
يشار الى القرن 16 منذ نشوء الانشقاق الأكبر في المسيحية الغربية وطهور البروتستانت مع ما حملته من رواسب توراتية تنظر لخرافات "العودة لأرض الميعاد" ثم ما كان عبر مسار طويل لاحقًا لظهور المسيحية الانجيلية-الصهيونية التي تدعو لدعم الكيان اليهودي في نظرية عودة المسيح وما يتفق مع الأفكار الدينية اليهودية الإرهابية والمتطرفة اليوم.
في التاريخ إذ تركنا البدايات الدينية الأسطورية بالقرن 16 جانبًا، رغم أنها مازالت تفعل مفاعيلها حتى اليوم! فإن عملية تدمير المنطقة وزرع الكيان كان أبرز ارهاصاتها مؤتمر لندن عام 1840 والدعوة لقيام كيان يفصل شرق وغرب الأمة العربية أي في فلسطين وتقع المسؤولية العظمى على العقول الاستخرابية البريطانية التي تناوبت على طرح، ثم فرض هذه الفكرة (لاسيما بعد الاحتلال/الانتداب الانجليزي على فلسطين).
اللورد شافتسبرى كان مؤمناً بضرورة قيام دولة يهودية في فلسطين تحقيقاً للنبوءات التوراتية، الخرافية، حيث عبّر عن ذلك بقوله: "إن التطلع إلى المجيء الثاني للمسيح والإيمان بأنه سيحدث قد شكلا المبدأ المحرك والقوة الدافعة في حياتي..."، ويُعد أشهر ما كتب هو مشروع كذبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، الذي قدمه أثناء عقد مؤتمر الدول الأوروبية في لندن 1840، ودعا فيه لتبني لندن "إعادة" اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة خاصة بهم، ليس حبًا بهم وإنما كراهية، وتمهيدًا لعودة المسيح!؟
وقد تمخض عن هذا المؤتمر تبني اللورد «هنري بالمرستون»، وزير الخارجية آنذاك، ونسيب شافستبري مشروعًا يهدف إلى خلق كومنولث يهودي في النصف الجنوبي من سوريا (فلسطين). ولم يكتف أنتوني شافستبري بالصياغات النظرية الصهيونية، بل كان يكتب المذكرات التفصيلية المحددة لبالمرستون،حتى أن أول قنصلية إنجليزية في القدس تم افتتاحها نتيجة لإِلحاحه وبناءً على توجيهاته .
ثم ماكان لاحقًا من عمليات متواصلة لاقتطاع أراض من فلسطين بعهد الدولة العثمانية وتحكم الدول الاستخرابية (خاصة بريطانيا وفرنسا بها) ومشاريع الاستعمار الاستيطاني مع ظهور المستوطنات/المستعمرات الاولى ودور المال الانجليزي اليهودي واللورد روتشيلد وغيره، ثم مع تعاظم النظر لفلسطين مع صندوق استكشاف فلسطين (البريطاني) الممهد لمأساة فلسطين كغيره حتى وصلنا عام 1882 واتهام اليهود بقتل قيصرروسيا وأيذاء ثم انسياح مليون يهودي روسي في أوربا (الشرقية) والغربية وما حصل لاحقًا من منعهم دخول انجلترا بل والولايات المتحدة.
لم تتوقف الأهداف الاستخرابية (الاستعمارية ) فحولت المشكلة اليهودية بدلًا من الاندماج مع شعوبهم الأوربية الى طردهم تحت ادعاء إعطائهم "وطنًا قوميًا" فكانت حركة أحباء صهيون، ثم الحركة الصهيونية وهرتسل (عام 1897م)الذي قدم نفسه عقلًا استعماريًا موضحا في كتابه "دولة اليهود" أنه يمثل الحضارة الغربية في وجه البرابرة! تمامًا بنفس نمط تنظير الاستخراب الغربي العنصري الأبيض، وخيّرهم بين الارجنتين وفلسطين الى أن عرضت عديد المناطق والبلدان فكان قرار المؤتمر الصهيوني لاحقًا أن استقر على فلسطين.
الفكرة هنا وما نريد التأكيد عليه أن الخطيئة التاريخية الكبرى هي برقبة بريطانيا التي ظلمت اليهود بتصديرهم لغير بلادهم (خاصة بعد مذابح الألمان ضدهم، وقبلها اضطهاد الاوربيين لهم وهم من أهل البلاد تلك)، وبالتالي طردهم والتخلص منهم تحت ادعاء توفير "وطن قومي" لهم، ولما كانت الحركة الصهيونية وبقيادة حاييم وايزمان (أول رئيس للكيان) قد قدمت خدمات جليلة للانجليز في الحرب الأوربية المسماة العالمية فكان وضمن عوامل اخرى أن تم إهدائهم فلسطين على حساب الفلسطينيين الموجودين كحضارة هنا منذ ما لا يقل عن نصف مليون هام.
ظلم على ظلم، كان الظلم الانجليزي مغلفًا بسكر "الوطن القومي" ليهود دول أوربا أساسًا، والظلم للعربي الفلسطيني الأصيل باقتطاع أرضه حتى دون أدنى التزام بالنصف الثاني الضعيف من ورقة بلفور!
وما كان للتأصيل التوراتي الخرافي أن أخذ مكانه في فلسطين الا مع اليهودية الدينية ثم تحول جزء من الصهيونية العلمانية الى دينية لسبب انحسار أهمية المسببات الأخرى لقيام الكيان في أرض فلسطين، فكان اللجوء للخرافات التوراتية وأرض الميعاد والشعب المختارالخ، واصطناع تاريخ توراتي وعكسه على أرض فلسطين، لاسيما وأن الغرب بغالبه مؤمن بخرافات التوراة كما الحال مع بعض أصحاب الفكر الآسن من المسلمين الذين يفترضون انطباق الرويات التوراتية على قصص القرآن وشتان بين الثرى والثريا، لكنهم يكابرون!
المهم اليوم أن بريطانيا (العظمى سابقًا) التي احتلت فلسطين ثم دفعت باتجاه التقسيم 1947م، وامتنعت عن الموافقة عليه! تعود لفكرة أولية من أفكار الاعتراف بالظلم التاريخي والمأساة عبرالاعتراف بدولة فلسطين (على المتاح من الأرض)، ومازال الدرب طويل أمامها ما هو واجبها (والعالم) لتجسيد الدولة وتحقيقيها واستقلالها من تحت الاحتلال الذي قد يتم باستخدام الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة (التهديد بالقوة) أو/و الحظر الاقتصادي العربي والعالمي، والعسكري والمالي، ووقف كل العلاقات الأمنية والدبلوماسية مع الكيان، وتفعيل قرارات المحاكم الدولية، والدعم الاقتصادي لفلسطين وشعبها...الخ، والا فإننا ننفخ بقربة مليئة بالماء على أمل الزبدة ولن تكون! الحرب تبدأ من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين كما كان يردد الخالد ياسر عرفات.