الكلمة...

الكلمة هي أساس العلاقات بين الأفراد والمجتمعات، وهي أداة بناء الثقة وترسيخ القيم، أو وسيلة لزعزعة الاستقرار وتقويض السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي. فهي ليست مجرد أصوات تنطق، بل مواقف تعبر عن قناعات ومسؤوليات. بالكلمة تصاغ الاتفاقيات، وتدار السياسات، وتبنى الجسور بين الشعوب، كما يمكن أن تشعل الأزمات وتؤجج الصراعات.
في المجال السياسي والاجتماعي، للكلمة وزن كبير يتجاوز حدود التعبير الفردي، فهي تحمل أثراً مباشراً على وعي الجماهير وتوجهاتهم. فالكلمة الصادقة والمسؤولة تعزز الثقة بين القيادة والشعب، وتفتح آفاق الحوار والتفاهم، وتبني بيئة قائمة على الاحترام والشفافية. أما الكلمة الزائفة أو المضللة، فهي تهدم هذه القيم، وتزرع الشك والانقسام، وتخلق فجوة يصعب ردمها بين المواطنين ونظامهم السياسي، أو بين أفراد المجتمع الواحد.
الكلمة في التراث العربي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي رمز للالتزام والوفاء، ومؤشر على مصداقية الفرد ومكانته. كانوا يقولون "الرجل يُعرف بلسانه كما يُعرف بفعله". فكما يقاس أثر العمل على الأرض، تقاس مكانة القائد أو المسؤول بما ينطق به، وبمدى التزامه بما يَعِد به. لذلك، أصبحت الكلمة في المجال العام عهداً اجتماعياً وسياسياً، يحاسب الإنسان عليه كما يحاسب على أفعاله.
في المجالس والأسواق، كانت الكلمة عند العرب عقداً لا يكتبه قلم، بل يثبته الشرف، ويحرسه الضمير، حتى لو لم توثق على ورق أو يشهد عليها أحد. فإذا قال: "لك عليّ" أو "أعاهدك"، كان ذلك أقوى من أي وثيقة، لأن الكلمة عنده أمانة، ومن خان الكلمة خان نفسه وقومه. ولهذا نشأت بينهم الأمثال التي خلدت مكانة الكلمة مثل، "كلمته لا تُرد" و"كلمته سيف" و"كلمة الرجال عهد"، وأصبح الوفاء بالكلمة علامة على نقاء المعدن وصفاء الروح.
في عصرنا الحالي، ومع تعقّد التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أصبحت الكلمة أكثر حساسية وخطورة. فهي قادرة على توجيه الرأي العام، وحشد الطاقات نحو الإصلاح والبناء، أو إثارة الفوضى وهدم المؤسسات. ومن هنا، تبرز أهمية أن تكون الكلمة مسؤولة، نابعة من وعي حقيقي، ومترجمة لالتزام صادق تجاه المجتمع.
إن احترام الكلمة في الحياة السياسية والاجتماعية يعني احترام المجتمع ذاته، وحماية تماسكه، وبناء مستقبل قائم على الثقة والعدالة. فالكلمة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي أداة للتغيير وصياغة المصير، ولا بد أن تصان كما تصان القوانين والمؤسسات، لأنها الأساس الذي يقوم عليه الاستقرار السياسي والاجتماعي.
الكلمة الواحدة في اللغة العربية قد تحمل معاني متعددة، يحددها السياق وطريقة النطق، وذلك بفضل حيوية وغزارة اللغة العربية وثرائها الكبير. فاللغة العربية تمتاز بقدرتها على توليد المعاني من الجذر الواحد عبر تغيّر الحركات أو الصياغة، مما يجعلها لغة دقيقة ومرنة في الوقت ذاته. فعلى سبيل المثال، الحَكَم هو الشخص الذي يفصل بين الخصوم مثل حكم المباراة أو القاضي، والحُكم يعني القرار أو القضاء مثل الحكم في قضية أو حكم المحكمة، والحِكم تعني المعارف الرفيعة والعبر المستخلصة مثل الحكم والأمثال. ومَسكن بفتح الميم تعني البيت أو مكان الإقامة، ومُسكّن بضم الميم تعني الدواء الذي يخفف الألم. العَلَم الراية أو ما يُرفع ليدل على شيء، والعِلْم المعرفة والفهم، والعَلَمُ الشخص البارز أو المشهور في مجاله، والسَكَر حالة السكر أو فقدان الوعي، والسُكّر المادة المعروفة للتحلية، والعَدَل الذي لا يميل عن الحق أي الشخص العادل، والعَدل الإنصاف أو المساواة، والعِدل النظير أو المثيل.هذا التنوع في المعاني يعكس غنى اللغة العربية وقدرتها على التعبير بدقة عن الأفكار والمفاهيم المختلفة، فهو يجعل الكلمة الواحدة أداة قوية للتواصل، لكنه يتطلب أيضاً وعياً وفهماً عميقاً للسياق حتى تُستخدم بشكل صحيح، لأن اختلاف حركة واحدة قد يغيّر المعنى تماماً.
كما أن الكلمة الواحدة قد تحمل معاني مختلفة ليس فقط تبعاً للسياق أو طريقة النطق، بل أيضاً بحسب المجتمع أو الثقافة التي تُستخدم فيها. فقد تكون للكلمة دلالة معينة في بيئة أو منطقة ما، بينما تشير إلى معنى مختلف تماماً في مجتمع آخر، مما يعكس تنوع اللغات واللهجات وتداخلها. على سبيل المثال، كلمة ناموس في بعض المجتمعات تستخدم للدلالة على (البعوض)، بينما في مجتمعات أخرى تعني الشرف والرفعة والمكانة العالية. وهذا يبرز أهمية فهم السياق الثقافي والاجتماعي عند استخدام الكلمات، لأن المعنى لا يتحدد فقط باللغة، بل يتأثر أيضاً بالقيم والعادات والتقاليد التي تحيط بالكلمة وتمنحها دلالتها الخاصة.
أما في البعد الديني، فقد أولت الأديان السماوية أهمية كبرى للكلمة، وحثّت على الصدق والنطق بالحق، وحذرت من شهادة الزور والكذب. أي أن للكلمة مكانتها فعَنْ النبيّ ﷺ قَالَ "إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالى مَا يُلقِي لهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّه بهَا دَرَجاتٍ، وَإنَّ الْعبْدَ لَيَتَكلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقي لهَا بَالًا يهِوي بهَا في جَهَنَّم" رواه البخاري.
يبين هذا الحديث الشريف عِظَم أثر الكلمة وخطورتها في حياة الإنسان، فرُبّ كلمة يقولها المرء دون أن ينتبه لأهميتها تكون سبباً في رضا الله تعالى ورفعة درجاته في الدنيا والآخرة، لأنها تحمل خيراً ونفعاً وتؤثر إيجاباً في الآخرين. وفي المقابل، قد ينطق الإنسان بكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً، لكنها تحمل شراً وظلماً أو إساءة، فتكون سبباً في هلاكه وسقوطه في نار جهنم. وهذا يعلمنا
أن نزن كلماتنا قبل أن نتلفظ بها، وأن نحرص على أن تكون كلماتنا طيبة، لأن الكلمة مسؤولية عظيمة، وقد ترفع صاحبها أو تهوي به.
كما قال النبيّ ﷺ لزوجته عائشة "لقدْ قُلتِ كلِمةً لوْ مُزِجتْ بماءِ البَحرِ لمزَجَتْه" في هذا الحديث الشريف يبيّن النبي ﷺ خطورة الكلمة وأثرها العظيم ، أي أن الكلمة التي قالتها تحمل من شدة الذنب وسوء المعنى ما لو خُلطت بماء البحر لتغيّر طعمه ولونه. وهذا تصوير بليغ يوضح أن بعض الكلمات قد تكون ثقيلة جداً عند الله ، حتى وإن بدت بسيطة للإنسان، مما يعلمنا الحذر الشديد في أقوالنا، وتجنب الغيبة أو الإساءة أو أي كلام يضر بالآخرين، فالكلمة قد تهدم ما لا يهدمه القنابل، وقد تكون سبباً في سخط الله وعقابه.
في الموروث والثقافة الشعبية الفلسطينية، تحتل الكلمة مكانة سامية، فهي ليست مجرد حروف تُقال، بل هي عهد وميثاق يعكس القيم الأصيلة والهوية الوطنية. يقال في الأمثال الشعبية "الكلمة مثل الطلق إذا طلعت ما بترجع""، في إشارة إلى أن ما ينطق به الإنسان لا يمكن استرجاعه، وأنه مسؤول عن أثره ونتائجه. ومن كان "كلمته كلمة" أصبح موضع ثقة واحترام بين الناس، إذ تقاس مروءته بصدق كلامه، وتبنى العلاقات والعهود على أساس كلمته. وتوصف الكلمة القوية بأنها مثل "حد السيف" فهي قادرة على قطع الباطل ونصرة الحق، تماماً كما أن الكلمة التي "ما بتنزل الأرض" هي كلمة الشرفاء الذين إذا وعدوا أوفوا، وإذا تعهدوا صدقوا، فلا تهتز أمام المصالح ولا تنكسر تحت الضغوط."ووعد الحر دين" كناية عن شرف الكلمة والالتزام بالعهود.
فالكلمة في المجتمع الفلسطيني ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي رمز للشرف والكرامة، فهي "كلمة إزلام" تعكس الثبات على المبدأ وحفظ الوجه مرفوعاً والسمعة نقية. ومن الأمثال الشائعة التي تجسد هذه المعاني قولهم "وعد الحر دين"، أي أن الوعد التزام لا يُنقض، و"الزلمة بكلمته" في دلالة على إن مكانة الرجل بين قومه تقاس بمدى صدقه وثباته على عهده. كذلك يقال"الكلمة ما بتنشرى ولا بتنْباع "، تأكيداً على أن الشرف لا يُقايض بالمصالح أو الأموال.
وفي الثقافة الفلسطينية، تعتبر الكلمة ركيزة أساسية في حل النزاعات وإبرام الصلح، فهي أحياناً تساوي حياة كاملة، إذ يمكن أن توقف دماء أو تحقن أرواحاً بمجرد أن يقول أحد وجهاء العشيرة أو زعماء الإصلاح كلمة تعهد أو "عطوة". وهنا تظهر مكانة الكلمة كأداة لتحقيق العدالة المجتمعية وحماية النسيج الاجتماعي. ولذلك، يظل الموروث الفلسطيني متمسكاً بفكرة أن الكلمة ليست مجرد صوت، بل هي تاريخ، ومبدأ، ووسيلة لحفظ الكرامة، حتى لو كانت الكلمة "بت ولا عشرة لت"، فهي رمز للثبات والوفاء مهما كان الثمن.
وفي الموروث الشعبي الفلسطيني أيضاً، تستخدم عبارة "كلمة بت ولا عشر لت" للتعبير عن الحزم والحسم وعدم التلكؤ أو التردد في اتخاذ القرار. فالكلمة "البت" تعني القرار القاطع والواضح الذي لا يقبل المساومة أو التراجع، بينما "العشر لت" ترمز إلى التردد وكثرة الأقوال بلا فعل. وعندما يقال
عن شخص إن كلمته "بت ولا عشر لت"، فهذا يعني أنه صاحب قرار واضح، إذا قال فعل، ولا يترك مجالاً للتشكيك أو المراوغة.
هذه العبارة تعكس أهمية القوة في الموقف والصدق في القول في الثقافة الفلسطينية، حيث تعتبر الكلمة مرآة للشخصية ومقياساً للشرف. فالكلمة الحاسمة تمنح صاحبها هيبة واحتراماً بين الناس، وتشير إلى أنه قادر على تحمل مسؤولية ما يقول. لذلك، تستخدم في مواقف الإصلاح، أو إبرام العهود، أو حتى في النزاعات، للتأكيد أن التعهد ليس مجرد كلام، بل التزام راسخ لا يُنقض.
وفي المواقف السياسية يقال إن الكلمة موقف، فهي في القضايا السياسية والوطنية ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي إعلان واضح عن الانحياز والالتزام بالمبادئ. فالكلمة التي تقال في لحظات مصيرية تحدد مسار الأحداث، وترسم ملامح المواقف التاريخية، لأنها تعكس إرادة الشعوب، وتكشف حقيقة القادة وصناع القرار. في السياسة، الكلمة ليست عابرة، بل هي وعد أو تهديد، دعم أو إدانة، اعتراف أو رفض، وهي بذلك تحمل وزناً يعادل الفعل وربما يتجاوزه، إذ يمكن أن تشعل حرباً أو تحقق سلاماً، توحد شعباً أو تقسم أمة.
وعلى المستوى الوطني، تمثل الكلمة تجسيداً للثوابت والقيم العليا التي تقوم عليها الحركة الوطنية، فهي تعبر عن الانتماء والهوية، وتعلن بوضوح الموقف من قضايا التحرر والسيادة والعدالة. فالقادة والمسؤولون عندما يتحدثون، فإن كلماتهم من المفروض أن تترجم إلى مواقف سياسية مؤثرة، تعكس قوة المبدأ أو ضعف الإرادة. وفي هذا السياق، تصبح الكلمة التزاماً أخلاقياً وقانونياً، لأنها تُحمِّل صاحبها مسؤولية أمام شعبه وأمام المجتمع الدولي.
وفي أوقات الأزمات والنزاعات، تتضاعف أهمية الكلمة، إذ يمكن أن تكون الكلمة موقفاً يغيّر مجرى التاريخ، كأن تعلن دولة تضامنها مع قضية عادلة، أو يرفض زعيم التنازل عن حق سيادي، أو تتبنى حركة سياسية خطاباً يعزز الوحدة الوطنية ويحفز المقاومة الشعبية. ومن هنا، تصبح الكلمة جزءًا من معركة الوعي والسيادة، فهي تشكل جبهة من جبهات النضال، وتؤكد أن السياسة ليست فقط أفعالاً على الأرض، بل أيضاً خطابات ومواقف تُبنى عليها القرارات والتحالفات.
لذلك، في القضايا السياسية والوطنية، الكلمة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي رمز للمبدأ وصوت للحق، وأداة لتعبئة الشعوب، وتحديد الاتجاهات، وصياغة المستقبل. ومن يدرك قيمة الكلمة، يدرك أنه حين يتكلم، فإنه يكتب فصلاً جديداً في التاريخ، قد يرفع الأمة إلى قمم المجد، أو يهوى بها إلى هاوية التبعية والانقسام.
شرف الكلمة هو قيمة إنسانية وأخلاقية عميقة، تعكس التزام الإنسان بالصدق والوفاء ونقاء السريرة. فالكلمة التي ينطق بها المرء ليست مجرد أصوات عابرة، بل هي مرآة لشخصيته ومقياس لمصداقيته أمام نفسه وأمام الآخرين. ومن يحافظ على شرف كلمته يحافظ على شرفه واعتباره، لأن الكلمة في جوهرها عهد ووعد لا ينبغي الإخلال به ، والحادثة الأشهر في التاريخ عندما دار حوار بين الوليد
بن عبد الملك والإمام الحسين، حيث قال الوليد (إنه لا يطلب سوى كلمة واحدة من الإمام الحسين ، أن يقول "بايعت"، ليحقن بذلك الدماء ويذهب بسلام إلى جموع الفقراء، معتبراً أن الأمر بسيط ولا يتعدى كلمة. لكن الحسين انتفض قائلاً "كبرت كلمة"، موضحاً أن البيعة ليست مجرد لفظ ، فقال ما دين المرء سوى كلمة، وما شرف الرجل سوى كلمة، وما شرف الله سوى كلمة. فقال الوليد بغلظة فقل الكلمة واذهب عنا. فرد الحسين أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة في كلمة، ودخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة. الكلمة لو عرفت حرمتها لوجدتها زاداً مذخوراً، فهي نور، وبعض الكلمات قبور، وبعضها قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري. الكلمة فرقان بين نبي وبغي، وبالكلمة تنكشف الغمة، وهي نور ودليل تتبعه الأمة. عيسى ما كان سوى كلمة أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم. الكلمة زلزلت الظالم، وهي حصن الحرية، والكلمة مسؤولية، فالرجل هو الكلمة، وشرف الرجل هو الكلمة، وشرف الله هو الكلمة. فقال الوليد: وإذن؟ فرد الحسين، لا رد لدي لمن لا يعرف ما معنى شرف الكلمة).