الإعتراف بدولة فلسطين ، بين القانون الدولي والسياسة والمفارقات

2025-09-23 16:19:23

منذ إعلان وثيقة استقلال دولة فلسطين في دورة المجلس الوطني لمنظمة التحرير بالجزائر عام ١٩٨٨ ، وبدء الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، كان الطريق محفوفاً بالتباين بين الاعترافات القانونية والسياسية، وبين الرمزية والالتزام الفعلي . فقد كان اعتراف الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي آنذاك واضحاً ومباشراً محدداً بحدود معترف بها دولياً تمثلت بما قبل الرابع من حزيران عام ١٩٦٧، وعاصمتها القدس الشرقية . لقد شكّل ذلك الاعتراف شهادة تاريخية على الالتزام بمبادئ القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ووضع فلسطين على خارطة الدول ذات السيادة منذ اللحظة الأولى كحق لشعبنا الفلسطيني .

ومع مرور السنوات ، شهدت الاعترافات تفاوتاً ملحوظاً، خصوصاً بين الدول الغربية التي فضلت الاعتراف الجزئي أو الرمزي . ففي التسعينيات، ومع بداية عملية أوسلو ، أصبح الاعتراف مرهوناً بمسار سياسي . فتكفي بعض الدول ببعثات تمثيلية دبلوماسية تحت مسميات متفاوتة لا تحمل مكانة سفارة ودون منح فلسطين الاعتراف الكامل كدولة . كما أن الاعتراف الأممي في ٢٠١٢ بفلسطين كدولة مراقب غير عضو عزز البعد القانوني والسياسي ، لكنه لم يحل محل الاعترافات الثنائية، التي تظل أساساً لتكريس السيادة على الأرض بوجود شعب وحكومة كمقومات للدولة الطبيعية .

اليوم ، نحن أمام موجة جديدة من الاعترافات الأوروبية المتصاعدة، مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا، التي وضعت نصوصاً واضحة تربط الاعتراف الفلسطيني بحدود ١٩٦٧ وقرارات الشرعية الدولية، مؤكدة على القدس الشرقية كعاصمة مستقبلية. في المقابل ، جاءت اعترافات أخرى ، مثل بريطانيا، ذات طابع سياسي ورمزي، لم تحدد حدود الدولة ولا العاصمة، مما يترك مجالاً للتأويل السياسي والقانوني خاصة انها لم تقوم على اساس مبدأ حق تقرير المصير لشعبنا . لكن الجديد في هذه المرحلة أن الاعترافات صدرت عن دول غربية كانت تاريخياً حليفة تقليدية لإسرائيل ودعمت انشائها وتوسعها غير القانوني ، ما يضعف شبكة الدعم السياسي لها، ويُعزل الولايات المتحدة كقوة كبرى وحيدة تقف في مواجهة الإرادة العالمية المتنامية لإيجاد حل سياسي .

وفي أحدث التطورات ، أعلنت فرنسا رسمياً عن اعترافها بدولة فلسطين، معتبرة هذه الخطوة دعماً لحل الدولتين وتعزيزاً للسلام العادل والدائم في المنطقة. ويأتي الاعتراف الفرنسي في سياق خطة شاملة تشمل وقف إطلاق النار، إطلاق سراح "الرهائن" دون الإشارة إلى الأسرى الفلسطينيين، وتهيئة الظروف لاستئناف المفاوضات . ورغم أن البيان الفرنسي لم يوضح بشكل صريح حدود الدولة أو القدس الشرقية كعاصمة، إلا أن هذه الخطوة تمثل دعماً سياسياً مهماً وتعكس تحوّلاً في المواقف الأوروبية، وقد تُحفز دولاً أخرى في الاتحاد الأوروبي على اتخاذ خطوات مماثلة .

وإلى جانب هذه الاعترافات ، جاء مؤتمر نيويورك الذي عقد برعاية فرنسية–سعودية في مقر الأمم المتحدة ليكشف عن صورة أوسع للواقع السياسي الدولي . فقد عبّرت دول مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وإسبانيا وإيرلندا والنرويج ، إضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ، عن مواقف مبدئية تعتبر الأحتلال تهديداً للسلم والأمن الدوليين وتؤكد الحقوق التاريخية لشعبنا الفلسطيني بل وقد اشارت الى القرار ١٨١ الذي انتهكته اسرائيل وفق أهدافها الكولنيالية مستندة في ذلك ايضا الى السردية التاريخية الفلسطينية ، التي كان على الآخرين الاشارة اليها والتمسك بها كما وبوحدة الأرض والشعب والقضية . 

وفي المقابل ، برز اتجاه آخر يسعى إلى هندسة حلول تُبقي على إسرائيل ضمن معادلة إقليمية جديدة ، من دون التطرق الجدي لمحاسبتها على جرائمها ، الامر الذي يتيح لها استمرار سياساتها . لكن الموقف الإسرائيلي الإستعماري المتعنت ، ومواصلة المحرقة في غزة والعربدة الاستيطانية في الضفة ، أكد أن تل أبيب ليست بصدد منح أي فرصة لمسارات التسوية ، وأنها ماضية في استكمال مشروعها الإستعماري حتى النهاية .

إن مشاهد الدم المتفجّر في غزة، والإبادة الموثقة على الهواء مباشرة، كانت الشرارة التي دفعت الحكومات الغربية إلى خطوات لم تكن لتُقدم عليها لولا ضغط الشارع الغاضب في عواصمها . لقد فقدت إسرائيل رواية  "الضحية" التي ابتزت فيها العالم لعقود . وأصبح الرأي العام العالمي يرى بوضوح الضحية الحقيقية ، وهو ما فجّر حركة تضامن واسعة عابرة للحدود ، أجبرت الحكومات الغربية على الاستجابة ولو عبر اعتراف سياسي غير مكتمل الاركان . ومع ذلك ، فإن هذه الاعترافات تظل في كثير من جوانبها أقرب إلى "حل وسط" بين الحق الشرعي والتاريخي للشعب الفلسطيني ، وبين الممكن السياسي في موازين القوى الدولية ، فيما اكتسبها من اهمية كبيرة في محاولة وقف مخططات التهجير وتنفيذ رؤية "أسرائيل الكبرى".

إن الاعترافات بدولة فلسطين حق قانوني وليس مِنّة من أحد ، لكنه بصيغة بعضه الراهنة يظل اعترافاً ناقصاً ، غامضاً في جانب منه ، دون حدود ودون سقف زمني ودون آليات ملزمة لإنهاء الأحتلال وتجسيد الإستقلال الوطني لدولة فلسطين التي تروح تحت الأحتلال . بل إن المفارقة تكمن في أن بعض الدول سارعت إلى الاعتراف لكنها لم تتحرك بالقدر نفسه لإيقاف المذبحة الجارية ضد شعبنا ولا ضد التوسع الاستيطاني وفرض الضم الكولنيالي كأمر واقع ، وهو الأمر الأكثر إلحاحاً وأولوية اليوم لحماية تجسيد مستقبل الدولة الفلسطينية . من هنا ، فإن المطلوب فلسطينياً ألا نكتفي بالاحتفاء بالاعترافات والتي جاءت عبر تراكم محطات مسيرة طويلة من الكفاح الوطني بمختلف الاشكال منذ انطلاق ثورتنا المعاصرة عام ١٩٦٥ ، بل أن نعمل على تحويلها إلى التزامات فعلية عبر :
*صياغة وثائق ثنائية واضحة مع كل دولة تعترف بنا تحدد الحدود والعاصمة والتعاون الدبلوماسي.
*تصنيف الاعترافات بين de jure و de facto وربطها بالشروط السياسية والقانونية.
*مراقبة البرلمانات والتصريحات الرسمية لمعرفة مدى الالتزام الفعلي.

كما أن اللحظة تستدعي إعادة بناء بيتنا الداخلي بجرأة ووضوح ، بوحدة وطنية جامعة وإصلاح سياسي وديمقراطي تكون الانتخابات العامة اساسا له كما القرار الوطني المستقل ، حتى نستطيع تقديم الأدوات الفلسطينية الفاعلة القادرة على محاصرة الأحتلال ومقاضاته أمام العالم . فالعالم ، على أهميته متغير في زمن صعود قوى الشرق والجنوب العالمي وحركة الشعوب ، وهو متحرك باستجاباته لمقدار ما نُظهره نحن من وحدة وقوة وصمود وكاصحاب حق لا نُرهن مواقفنا لأشتراطات من هنا أو هنالك .

في نهاية المطاف ، يبقى الإعتراف الدولي خطوة أولى في استكمال طريق طويل من الكفاح الوطني ، لكنه لن يكتمل إلا بإنهاء الأحتلال الاستيطاني الإحلالي ، عبر أدوات المقاطعة والعقوبات والمحاسبة الدولية ، ومناصرة التضامن الشعبي الدولي غير المسبوق والبناء عليه بشكل صحيح ، وتعزيز المقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية والقانونية ، حتى تتحقق السيادة الكاملة لشعبنا على أرضه، وتقوم دولة فلسطين الديمقراطية   المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية مع حل قضية اللاجئين وفق القرار ١٩٤ ، وتسود في فلسطين ، الوطن الذي لا نملك سواه العدالة والمساواة التي تقترن بهزيمة المشروع الصهيوني الإستعماري .