هزيمة الجيش الذي لا يقهر ستكون إسبارطية بامتياز

في خطاب متلفز لنتنياهو منذ بضعة ايام تطرّق لموضوع إسبارطة حين شبّه إسرائيل بإسبارطة العظمى” في سياق إستراتيجي يتعلق بالعزلة الدولية والاقتصاد الذاتي (“أوتاركية”) وصف نتنياهو إسرائيل بأنها ستُضطر، نتيجة العزلة الدبلوماسية التي تواجهها، أن تتكيّف مع اقتصاد ذو سمات أوتاركية، أي سوق مغلقة تعتمد على الذات لتصبح إسبارطة العظمى، استخدم هذا التشبيه للإشارة إلى أن إسرائيل ينبغي أن تكون دولة محصنة ذات قدرات دفاعية وصناعية مستقلة، في مواجهة الضغوط الخارجية، فهل معركة فلسطين (غزة ، الضفة والقدس هي معركة ليوكترا؟ام ان المعركة الدبلوماسية هي ليوكاترا ام كليهما؟
على مدى قرون طويلة، ظلّت إسبارطة رمزًا للقوة العسكرية والانضباط الصارم في العالم الإغريقي القديم. فقد شكّلت نموذجًا فريدًا بين مدن اليونان، قائمًا على مجتمع محارب منغلق يعتمد على نخبةٍ قليلة العدد، لكنها مدرّبة على فنون القتال منذ الطفولة. هذا النموذج مكّن إسبارطة من التفوّق على منافسيها، خصوصًا خلال الحروب الفارسية والحروب البيلوبونيزية التي انتهت بسيطرتها على أثينا ومعظم بلاد اليونان في مطلع القرن الرابع قبل الميلاد، كما حدث مع الكيان الصهيوني الذي أقنع العالم بأن لديه جيشًا لا يقهر على مدى ما يزيد على سبعة عقود؛ أمّا اليوم فلن يكون مصير الكيان أفضل من مصير إسبارطة.
ومع ذلك، فإن القوة الإسبارطية لم تكن أبدية، فقد واجهت المدينة سلسلة من التحديات انتهت بهزيمتها المدوية في معركة ليوكترا عام 371 ق.م، ثم تراجعها المستمر حتى فقدت مكانتها تمامًا. هذا المقال يحاول أن يقدّم قراءة شاملة لأسباب هزيمة إسبارطة، مع التركيز على المعارك الحاسمة والظروف الاجتماعية والسياسية التي جعلت نموذجها العسكري غير قادر على الصمود على المدى البعيد.
خلال القرن الخامس قبل الميلاد، استطاعت إسبارطة أن تفرض نفسها كأقوى قوة برية في اليونان. فقد قاد الملك ليونيداس ورجاله الثلاثمائة ملحمة تيرموبايلاي ضد جيوش الفرس، ما رسّخ صورة الإسبرطي الشجاع المستعد للتضحية. وبعد عقود قليلة، خاضت إسبارطة الحروب البيلوبونيزية ضد أثينا وحلفائها، واستمرت هذه الحروب نحو ثلاثين عامًا انتهت بانتصارها سنة 404 ق.م.
في ذلك الوقت بدت إسبارطة في أوج قوتها: سيطرت على معظم مدن اليونان، امتلكت أسطولًا بحريًا قويًا بفضل الدعم الفارسي، وأخضعت أثينا وأزالت نظامها الديمقراطي. لكن هذا النصر حمل في طياته بذور التراجع، إذ دخلت إسبارطة في صراعات لا تنتهي مع الحلفاء المتمردين، كما تورّطت في سياسات خارجية استنزفت مواردها وأرهقت مجتمعها الصغير.
كان المجتمع الإسبرطي فريدًا من نوعه، قائمًا على ثلاث طبقات رئيسية: المواطنون المحاربون (الهوميويّون) هؤلاء هم الإسبارطيون المتساوون ويشكّلون الطبقة العليا ويحملون السلاح ويمارسون حقوقًا سياسية كاملة. عددهم لم يكن كبيرًا أصلًا، وكان يتناقص مع الوقت بسبب الحروب وشروط المواطنة الصارمة، (البيريويكويون) سكان المناطق المحيطة، أحرار لكن بلا حقوق سياسية، مارسوا التجارة والصناعة التي كان الإسبارطيون يرفضونها، (الهيلوت) وهم العبيد الزراعيون من سكان لاكونيا وميسينيا الأصليين. كانوا يشكّلون غالبية السكان، ويعملون في الأرض لتأمين الغذاء للمواطنين المحاربين.
هذا النظام القائم على نخبةٍ قليلة العدد وجيشٍ من العبيد كان هشًا للغاية. فأي هزيمة عسكرية كبرى أو تمرد للهيلوت كان يهدّد استقرار الدولة برمتها. ولهذا السبب كان الإسبارطيون يعيشون في حالة طوارئ دائمة، ويخضعون أبناءهم منذ سن السابعة لبرنامج الأغوجي الذي يحوّلهم إلى محاربين أشداء، لكن هذا التركيز على الانضباط العسكري جاء على حساب الابتكار والمرونة السياسية، وهو ما سيظهر أثره لاحقًا.
معركة ليوكترا كانت بداية النهاية: ففي عام 371 ق.م اندلعت الحرب بين إسبارطة ومدينة طيبة الصاعدة في وسط اليونان، قاد الجيش الطيبي القائد المبدع إبامينونداس حيث غيّر قواعد الحرب اليونانية بتكتيكاته المبتكرة. اعتادت الجيوش الإغريقية أن تصطف في تشكيل الفيلانكس الكثيف، حيث يقف الجنود كتفًا إلى كتف في صفوف متوازية. كان الإسبارطيون متفوّقين في هذا النمط التقليدي بفضل انضباطهم. لكن إبامينونداس قلب المعادلة حيث ركّز قوته على الجناح الأيسر بصفوف عميقة تصل إلى خمسين رجلًا، فهاجم مباشرة جناح الإسبارطيين الأيمن حيث كان الملك يقود النخبة، بينما شغلت قواته الأخرى بقية الجبهة لتأخير العدو دون مواجهة حاسمة.
النتيجة كانت صادمة، تحطّم الجناح الإسبرطي وقُتل عدد كبير من نخبة المحاربين بمن فيهم 400 من المواطنين الكاملين وهو رقم كارثي لدولة يعتمد جيشها على قلة قليلة من المحاربين، هذه الهزيمة لم تكن مجرد خسارة ميدانية، بل انهيارًا لأسطورة التفوّق الإسبارطي التي صمدت قرونًا.
أمّا النتائج المباشرة للمعركة فكانت على النحو التالي، تحرير ميسينيا حيث استغل الطيبيون الانتصار لإعلان استقلال ميسينيا ما أدّى إلى فقدان إسبارطة لآلاف العبيد الزراعيين الذين كانوا يمدّونها بالحبوب والزيت، هذا الحدث مثّل ضربة اقتصادية هائلة وأدى الى تفكّك التحالفات حيث مدن كثيرة في البيلوبونيز تمردت على الهيمنة الإسبارطية، فلم تعد إسبارطة قادرة على فرض سيطرتها بالقوة. إضافة إلى ذلك، أزمة ديموغرافية: تناقص عدد المواطنين الإسبارطيين القادرين على حمل السلاح، حتى صاروا أقل من أن يشكّلوا جيوشًا كبيرة في المستقبل.
حاولت إسبارطة بعد ليوكترا أن تستعيد جزءًا من نفوذها، لكنها فشلت في تحقيق انتصارات حاسمة، وفي عام 362 ق.م جرت معركة مانتينيا، حيث واجه الطيبيون مرة أخرى تحالفًا يضم إسبارطة وأثينا وآخرين، انتصر الطيبيون مجددًا بفضل قيادة إبامينونداس، لكن الأخير قُتل في المعركة حيث أدّت وفاته إلى أفول نجم طيبة أيضًا، لتدخل اليونان في مرحلة من التوازن السلبي، لا إسبارطة قادرة على استعادة هيمنتها، ولا طيبة قادرة على وراثتها، هذا الفراغ مهد الطريق لصعود مقدونيا بقيادة فيليب الثاني ثم الإسكندر الأكبر.
من أهم العوامل العميقة وراء الهزيمة، الأزمة الديموغرافية عدد المواطنِينَ الأحرار تقلّص بسبب الحروب والقوانين الصارمة التي حرمت الكثيرين من حقوقهم؛ الاعتماد على الهيلوت، فقدان السيطرة على ميسينيا مما يعني انهيار الأساس الاقتصادي للنظام؛ الجمود العسكري والسياسي ، تمسّك إسبارطة بالأساليب التقليدية ورفضها التكيّف مع التكتيكات الجديدة؛ العزلة الدبلوماسية ، سلوكها المتسلّط ، كل ما سلف جعل حلفاءها ينقلبون عليها عند أول فرصة؛ غياب الابتكار الاقتصادي والثقافي على عكس أثينا، لم تطوّر إسبارطة مؤسسات مرنة أو اقتصادًا متنوّعًا يسمح لها بمواجهة الأزمات.
في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، حاول بعض الملوك مثل أجيس الرابع وكليومينس الثالث القيام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية لإعادة توزيع الأراضي وزيادة عدد المواطنين ورغم بعض النجاحات الجزئية الا ان الضغوط الخارجية كانت أقوى ففي عام 222 ق.م وقعت معركة سيلاسيا، حيث هزم التحالف المقدوني الأخائي قوات كليومينس الثالث، ما أنهى آخر محاولة جدّية لإحياء قوة إسبارطة. بعدها دخلت المدينة تحت الهيمنة المقدونية ثم الرومانية، وبقيت رمزًا تاريخيًا أكثر منها قوة فاعلة.
رغم هزيمتها، تركت إسبارطة أثرًا عميقًا في الذاكرة الإنسانية. فقد أصبحت رمزًا للانضباط العسكري والتضحية في سبيل الوطن، وارتبط اسمها بالشجاعة والبساطة والتقشّف، فعبارة الأسلوب الإسبرطي ما زالت تُستخدم حتى اليوم للدلالة على الحياة الصارمة والبعيدة عن الترف.
لكن الدرس الأهم من سقوط إسبارطة هو أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لضمان البقاء. فالمجتمع الذي يفتقر إلى المرونة الاقتصادية والسياسية والديموغرافية محكوم عليه بالانهيار عاجلًا أم آجلًا، مهما بلغت قوته العسكرية.
هزيمة إسبارطة لم تكن مجرد حدثٍ عسكريّ عابر، بل تحوّلت إلى علامة فارقة في التاريخ اليوناني فقد كشفت معركة ليوكترا وما تلاها عن حدود النموذج الإسبرطي القائم على نخبة محاربة صغيرة تعتمد على نظام قمعي للعبيد الزراعيين، ومع فقدان هذا الأساس انهارت أسطورة التفوّق العسكري التي دامت قرونًا.
إن دراسة هزيمة إسبارطة تذكّرنا بأن أي قوة مهما بدت راسخة، يمكن أن تنهار إذا لم تستند إلى قاعدة اجتماعية واقتصادية متينة وإذا لم تتكيّف مع المتغيّرات السياسية والعسكرية، هكذا انتهت إسبارطة، لكن ذكراها بقيت حية كمثال على عظمة الإنجاز الإنساني وحدوده في آنٍ واحد، فعندما تدنو ساعة الدولة المارقة يُستشهد بإسبارطة تمامًا كما يفعل نتنياهو.