اللامركزية الرشيدة ... في مواجهة قيود الاحتلال وبيروقراطية الإدارة العامة

منذ السابع من أكتوبر 2023 تنتهج الحكومة الإسرائيلية سياسة الخنق والحصار لمدن وبلدات وقرى ومخيمات الضفة الغربية عبر سياسة البوابات والحواجز. ووفقًا لبيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، بلغ عدد الحواجز والبوابات 916 حاجزًا وبوابة تقطع أوصال الضفة الغربية ومحيط القدس. بعض هذه الحواجز مغلق بشكل كامل، وبعضها يُفتح في أوقات محددة، وأخرى بلا جدول زمني واضح، ما يزيد من حالة "اللايقين" لدى المواطنين، إضافة لعشرات الحواجز المتنقلة وإغلاقات الطرق من قبل مجموعات المستوطنين المتطرفين. هذا المشهد خلق واقعًا معيشيًا صعبًا ومعقدًا للفلسطينيين، وفرض تكاليف إضافية على تنقلاتهم وحياتهم اليومية.
الأثر الاقتصادي لهذه السياسات جسيم، إذ ترتفع تكاليف حركة التجارة الداخلية، ويتحملها المواطن في نهاية المطاف. كما يتأثر بشكل خاص الطلبة والموظفون الذين يقطعون مسافات طويلة للوصول إلى أعمالهم أو جامعاتهم، ما يزيد من الأعباء المالية والنفسية. الفئات الهشة مثل الأشخاص ذوي الإعاقة والمسنين يعانون أكثر من غيرهم، فيما تواجه النساء والفتيات قيودًا اجتماعية نتيجة غياب المواصلات العامة المنتظمة والخوف من المخاطر الأمنية على الطرق. وبهذا تصبح الأزمة متعددة الأبعاد، تتجاوز السياسة والأمن والاقتصاد لتطال الجوانب الاجتماعية والحياة اليومية والخدمات الأساسية.
هذا الواقع يحتم على صناع القرار التفكير بآليات جديدة للتخفيف من معاناة المواطنين، أبرزها التوجه نحو "اللامركزية الرشيدة" في الإدارة والخدمات العامة. فالبيروقراطية المعقدة لا تنسجم مع هذا الواقع، بل تزيد من صعوباته، وتتقاطع نتائجها مع إجراءات الاحتلال، لتجعل حياة المواطن معلقة بين قيود الاحتلال من جهة وتعقيدات الإدارة العامة من جهة أخرى. اللامركزية هنا لا تعني تفكيك السلطة المركزية، بل إعادة هندسة الإجراءات بشكل يتيح للهيئات المحلية مرونة أكبر، مع الالتزام بمبادئ الحوكمة والشفافية والمساءلة.
اللامركزية الرشيدة يمكن أن تتحقق عبر إعادة تصميم نظم وأساليب العمل بشكل يرفع من كفاءة الخدمات ويقلل التكاليف، مع تسريع الاستجابة للمواطنين. ويتطلب ذلك تبني الاتجاهات الحديثة في الإدارة مثل التحول الرقمي والأتمتة، الرشاقة الإدارية، القيادة التحويلية، والهندرة، بما يخلق إدارة عامة فعالة تستجيب للاحتياجات اليومية للمواطنين. هذا التوجه يجب أن يشمل ليس فقط مؤسسات السلطة الفلسطينية ووزاراتها، بل أيضًا القطاع الخاص، بما فيه القطاع المصرفي ومنشآت الأعمال ومؤسسات التعليم العالي، ليكون مسارًا وطنيًا شاملًا.
إضافة إلى ذلك، فإن تعزيز دور الهيئات المحلية أمر ضروري، خاصة في أوقات الأزمات والإغلاقات، حيث تصبح البلديات والمجالس المحلية خط الدفاع الأول أمام احتياجات المواطنين. هذه الهيئات تدير ملفات حيوية مثل المياه والكهرباء والنفايات والصرف الصحي، لكنها بحاجة إلى دعم إداري وفني ومالي، وتحديث الأطر القانونية التي تنظم عملها. كما أن بناء قدرات مجالسها ورؤسائها وموظفيها على أسس تشاركية وشفافة يعزز من جاهزيتها. بالتوازي، لا بد من تطوير نظم رقابية ومساءلة لضمان عدالة الخدمات.
أما على الصعيد المالي، فثمة حاجة لتوفير موارد إضافية للهيئات المحلية رغم الأزمة المالية الراهنة، سواء عبر توريد حصتها من الضرائب والرسوم المركزية بانتظام، أو تمكينها من جباية بعض الضرائب مباشرة كضريبة الأملاك، أو عبر مشاريع استثمارية وشراكات مع القطاع الخاص. هذه الإجراءات يجب أن تسير جنبًا إلى جنب مع أنظمة رقابية فعّالة تحمي من الفساد وتعزز النزاهة.
التوجه نحو اللامركزية لا يعني إضعاف السلطة المركزية، بل تخفيف الأعباء عنها وتوزيع المهام بشكل منظم يضمن استجابة أسرع وأكثر فاعلية لاحتياجات المواطنين. إنه توجه يعزز قدرة الفلسطينيين على الصمود في مواجهة سياسات الاحتلال، ويحسن وصولهم إلى الخدمات، ويحقق العدالة الاجتماعية، ويعمق الثقة بين المواطن ومؤسساته.