خطة ترامب ، بين إعادة تدوير الوصاية وتحدي الفلسطينيين

يوم أمس ، طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما قيل إنها خطة من واحد وعشرين بنداً بخصوص غزة ، وذلك في لقاء جمعه مع عدد من القادة العرب والمسلمين على هامش اجتماعات الأمم المتحدة وبتغييب قهري عدائي لمَن يمثل دولة فلسطين التي تتوالى الأعترافات الدولية بها رغم المعارضة الأمريكية وفي وقت تُستخدم فيه أطنان المتفجرات في عمليات القتل والتدمير في غزة وتتزايد فيه اعداد الشهداء يوميا . ورغم أن التفاصيل الكاملة لهذه الخطة لم تُعلن رسميا بعد ، إلا أن ما رشح عنها يكفي لفهم منطلقاتها السياسية وأبعادها الأستراتيجية، خصوصا أنها تتقاطع مع محاولات أميركية سابقة لفرض وصاية على القرار الفلسطيني وإعادة تشكيل الإقليم وفق مقاسات الهيمنة الأميركية–الإسرائيلية بما يسمى الشرق أوسط الجديد .
من الواضح أن ترامب يسعى عبر هذه المبادرة إلى استعادة زمام المبادرة عالميا التي بات يفقدها نتاج عقلية الهيمنة واشاعة السلام المزعوم بالحروب ، ومن اجل تكريس قيادة واشنطن وهيمنتها الأحادية لملف الشرق الأوسط ، وتقديم نفسه كمن يمتلك الحلول السحرية لأعقد أزمات المنطقة بل والعالم . غير أن تجربتنا الفلسطينية مع الإدارات الأميركية المتعاقبة تؤكد أن مثل هذه الخطط غالبا ما تكون مُصممة لخدمة المصالح الإستعمارية لواشنطن وتل أبيب أولاً ، مع ترك الفلسطينيين خارج معادلة صنع القرار أو فرض حلول تنتقص من حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف .
الحديث عن إشراك دول عربية وإسلامية في "إدارة غزة ما بعد الحرب" لا يخرج عن سياق تحميل الآخرين أعباء الأحتلال ، سواء عبر التمويل أو الأمن ، في حين تبقى اليد العليا لإسرائيل بدعم أميركي مطلق . إنها محاولة لإعادة تدوير مفهوم "الوصاية الدولية" ولكن بغطاء إقليمي ، بما يعفي واشنطن وتل أبيب من مسؤولية الجرائم والانتهاكات من التشريد والتجويع والتهجير بل والإبادة الجماعية .
فوفقاً لما تم نشره في وسائل الإعلام فأن الخطة برأئي تحمل عدة رسائل في توقيت حساس ومفصلي أمام قضيتنا الوطنية التحررية :
١. للغرب وأوروبا تحديداً : بعد نتائج مؤتمر نيويورك بالرعاية الفرنسية والسعودية وأقدام دول أوروبية وازنة بالأعتراف بدولة فلسطين خلال الأيام السابقة كما وغيرها من دول العالم ، الأمر الذي شكل خروجا عن التبعية للسياسة الخارجية الأمريكية . فأن الإدارة الامريكية تريد التأكيد انها ما زالت المُمسك الأساسي بخيوط المنطقة وخارطتها ، وأن لا بديل عن قيادتها لأي تسوية ، وان الأعترافات الأوروبية لن تجدي شيئا كما كان قد أعلن الأمريكان سابقا .
٢. للعرب والمسلمين : أن عليهم الانخراط في ترتيبات ما بعد الحرب بما يسمى أمريكيا باليوم التالي ، ولو على حساب سيادة الفلسطينيين الشرعية وحقوقهم التاريخية .
٣. لإسرائيل : أن واشنطن ستظل الضامن الأكبر لأمنها واستمرارية مشروعها الاستيطاني التوراتي ، مع محاولة تغليف ذلك بعبارات "السلام" والتعاون الاقتصادي و "التنمية".
إلا أن هذه الرسائل بأعتقادي تصطدم بعقبات كبرى ، أولها الرفض الشعبي الفلسطيني والعربي الواجب اليوم ، بل والدولي الشعبي وربما البعض الرسمي ايضا لأي خطة تنتقص من الحقوق الوطنية السياسية لشعبنا بالحرية والأستقلال الوطني ووقف عدوان الإبادة الجماعية فورا دون شروط ، وثانيها أزمة الثقة العالمية في حيادية الولايات المتحدة ، وثالثها تعنت إسرائيل ورفضها تقديم أي تنازلات حقيقية تتعلق بإنهاء الأحتلال أو وقف الأستيطان وأمعانها في جريمة المحرقة المستمرة في غزة وحصار الضفة الغربية وتقويض مكانة ودور المؤسسات الفلسطينية ، وذلك بإجماع صهيوني .
أمام هذه التطورات والتحديات ، يصبح من الضروري أن نرسم نحن الفلسطينيون استراتيجية واضحة للتعامل مع مثل هذه المبادرات تتمثل في :
١. تحديد خطوط حمراء : أولها الوقف الفوري للمحرقة دون شروط ، وان لا دولة فلسطينية ذات سيادة من دون القدس عاصمة ، ولا دولة دون غزة ولا حلول خارج إطار السيادة الفلسطينية الكاملة على الأرض الفلسطينية المحتلة( اراضي دولة فلسطين ) ولا بديل عن حق تقرير المصير وحل قضية اللاجئين وفق القرار الاممي ١٩٤ والأفراج عن كافة الأسرى الفلسطينين من سجون الأحتلال .
٢. توسيع المظلة الدولية : إشراك الأمم المتحدة ، الإتحاد الأوروبي ، ودول الشرق والجنوب العالمي مثل الصين وروسيا ودول البريكس ، لتقليص ما تسعى له واشنطن لأحتكار الملف كما فعلت سابقا في تحييد اطراف الرباعية الدولية .
٣. استثمار موجة الأعترافات الأوروبية: تحويلها إلى أوراق ضغط قانونية وسياسية في المحافل الدولية وفي مواجهة السياسات الأمريكية ، وتعزيز مكانة فلسطين كدولة تحت الأحتلال وفق القانون الدولي .
٤. إقامة آلية رقابة دولية : للتأكد من تنفيذ أي التزامات تتعلق بوقف عدوان الإبادة الجماعية والانسحاب الكامل من غزة ومنع انحرافها لصالح الأحتلال .
٥. توحيد البيت الداخلي الفلسطيني : عبر صياغة برنامج وطني تحرري شامل تحت مظلة منظمة التحرير باعتبارها جبهة وطنية عريضة والممثل الوحيد صاحبة المكانة الدولية ، واعتماد الديمقراطية الأنتخابية مساراً لاستنهاض دور منظمة التحرير ومؤسسات دولة فلسطين تحت الأحتلال بما فيها انتخاب برلمانها المنتظر وفق الاعلان الرئاسي ، بما يقطع الطريق على محاولات فرض حلول خارجية تتجاوز التمثيل الشرعي للشعب الفلسطيني والقرار الوطني المستقل والإجراءات الديمقراطية التي ستؤكد ان شعبنا هو مصدر السلطات في وجه محاولات الولايات المتحدة واعوانها بالمنطقة في مصادرة ذلك الحق .
قد تبدو خطة ترامب ذات ألـ ٢١ بنداً مبادرة سياسية لوقف المأساة في غزة للوهلة الاولى للبعض ، رغم الاهمية الإنسانية القصوى لوقف هذه الجريمة والمقتلة المستمرة ، لكنها في جوهرها السياسي ليست سوى محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة الأميركية ، وتفريغ التضحيات الفلسطينية من مضمونها ، وتحويل غزة إلى ساحة وصاية دولية جديدة وساحة للإستثمار الاقتصادي على حساب دماء ابناء شعبنا النازفة . بالنسبة لترامب ، هي وسيلة لتكريس زعامته الدولية واستعادة صورة أميركا المشوهة كقوة قائدة في مواجهة التحولات الدولية الجارية . أما بالنسبة لإسرائيل فهي طوق نجاة من العزلة الدولية المتصاعدة وازمتها البنيوية الداخلية الناتجة عن الانقلاب القضائي وعن عدوان التطهير العرقي والفشل في تحقيق الاهداف وفق رأي المؤسسة العسكرية الأسرائيلية ، كما والأستيطان الكولنيالي في غزة والضفة والقدس والتميز العنصري ضد ابناء شعبنا الفلسطيني في إسرائيل نفسها ، وأما بالنسبة لبعض القوى الاسلامية والعربية التي ما زالت عاجزة عن مواجهة الموقف الأمريكي ، فهي وسيلة لفرض تقاسم الأعباء عليها دون معالجة جذور الصراع ، ومحاولة برعاية أمريكية لمصادرة المقدرات الطبيعية مثل الغاز او من خلال مشاريع المدينة الذكية أو ريفيرا الشرق الأوسط لاستفادة الشركات والاحتكارات الأمريكية ومن يشاركها ، ولتفريغ مسألة الإعتراف بالدولة الفلسطينية من مضمونها .
لكن الحقيقة الثابتة هي أن أي خطة لا تنطلق من وقف المحرقة بشكل كامل و فوري وإنهاء الأحتلال الإسرائيلي الاستيطاني ومحاسبة مجرمي الحرب ورفع الحصار عن غزة والضفة الغربية اليوم بما فيها القدس بعد تقطيع أوصالها بالبوابات والحواجز وإغلاق المعابر الحدودية لن تكون سوى حلقة جديدة في سلسلة سراب الأوهام الأميركية . الشعب الفلسطيني ، الذي صمد عقوداً طويلة أمام المجازر والمخططات التي استهدفت حقوقه وصموده ووجوده وهويته ، يُدرك أن حقوقه الوطنية لا تُختزل في بنود مرقمة أو تفاهمات فوقية ، بل تُنتزع بالنضال السياسي والشعبي والقانوني وفي موقف عربي مشترك واضح وجريء بالضغط على الإدارة الامريكية بما يهدد مصالحها ، وبدعم أحرار العالم الذين باتوا منتشرين في مياه المتوسط وشوارع وازقة العالم بما فيها المدن الأمريكية يغيرون من التوجهات الرسمية للعديد من الدول ويفضحون حقيقة صورة إسرائيل كدولة أستعمار وابادة مارقة غير ديمقراطية .
باعتقادي اليوم وبعد المتغيرات الجارية بالعالم وبالراي العام العالمي إن لحظة الحقيقة أمام المجتمع الدولي قد حانت ، إما الاعتراف الفعلي بدولة فلسطين وتجسيد واقعها على الارض ومحاسبة اسرائيل وفرض عقوبات عليها وانهاء أحتلالها ، أو التواطؤ في إعادة إنتاج نظام أستعماري لا مستقبل له في عالم يتجه إلى تعددية قطبية وشرعية إنسانية أوسع ، وان خطة ترامب مهما بدا صخبها لن تغير هذه الحقيقة المتسارعة .