توم البراك.. الدبلوماسية العدوانية

يسيء إلى الجميع، لسانه منفلت ولا يحافظ على برودةالدبلوماسي أو حذر السياسي، مندفع في تصريحاته ولا يبالي بما يقول، يتجاوز مهمته ويتخطى الحدود المرسومة لوظيفته، إنهتوماس البراك، المبعوث الأمريكي للبنان وسفير الولايات المتحدةفي تركيا، عمره الآن 78 عاماً، يحمل الدكتوراه في القانون،وينحدر من عائلة لبنانية مارونية هاجرت إلى أمريكا أوائل القرن الماضي، قربه من ترامب في المشاريع التجارية والاستثمارات الدولية خوله لأن يشغل منصب رئيس اللجنة التي نصبت ترامب رئيساً للبلاد.
وتوم البراك هو في نهاية الأمر سمسار عقاري تورط في شبهةالفساد خلال عمله في إحدى الدول الخليجية، ويبدو أنه تم إنقاذه بسبب علاقاته المتشابكة، فهو ملياردير لمن لا يعرف، وقد يسألسائل كيف أصبح هذا مليارديراً فيما بدأ أبوه بائعاً في بقالة، وقد يرد أحد على هذا السؤال بالقول إن أمريكا هي بلد الفرص والعجائب معاً، وهو جواب محير في بلد لا يملك هوية وطنية بقدر ما يملك هوية مصلحية، في أمريكا فإن ما يجمع الناس رغبتهم في الثروة وليس الثقافة أو المزاج أو اللون أو الدين، وهذا كلام مهم نسوقه قبل أن نتحدث عن إساءات البراك واتهاماته التي يطلقها شمالاً وجنوباً.
لا يخفي البراك احتقاره لأهل هذا الإقليم بكل ما فيه، أنظمةوشعوب وثقافة، ولم يتردد في القول إن كيانات هذا الإقليم هي كيانات ما قبل الدولة، وأن الدولة تنظيم مدني لم نستطع أن نحققه بسبب مشاعرنا وعواطفنا وعقلنا القاصر، ولهذا، يقترح الفيلسوف البراك أن السلام الاقتصادي، الذي يوفر الخبز، هو الكفيل بتهدئة المنطقة أو إخضاعها، بكلمات أخرى، فالرجل الذي يبدو كممثل لأدوار المكر والخديعة في هوليود يعتقد أن هذا الإقليممزدحم بالطوائف والعشائر التي لا يمكن لها أن تتوحد تحت أيشعار إلا شعار المصلحة الاقتصادية، والرجل عندما يقول ذلك فإنما يضع الولايات المتحدة نموذجاً إنسانياً نهائياً في التطور التاريخي، فالولايات المتحدة لم تطور هوية وطنية جامعة بقدر ما طورت عقداً اجتماعياً يقوم على المنافع الاقتصادية ضمن نظام عسكري قوي يعمل من أجل الحفاظ على المستوى العالي من البذخ.
ولهذا، فإن البراك، ومن خلال رؤية استعمارية واستعلائية، يرى في التنوع الأثني والطائفي والعرقي في بلادنا عوامل تفكيك وانحلال بدل أن تكون عوامل قوة وإبداع، وتناسى هذا الرجل عن قصد دور الاستعمار بكل أنواعه وتجلياته وأذرعه في إفقار البلاد ومنعها من التطور وتهيئة الظروف لتفجيرها من الداخل.
البراك في تصريحاته المهينة يغفل أو يتغافل عن دور الغرب في تقسيم البلاد والعباد، ويغفل أو يتغافل عن الدور المستمر لبلاده في منع عمليات التطور والتقدم في الإقليم حتى تظل إسرائيل هي الأقوى والأعلى.
كان الرجل من الوقاحة أو الصراحة بحيث قال إن أمريكا لا تسلح دولة ما لتقاتل إسرائيل بل لتقاتل شعبها، هل هناك أكثر من هذا صراحة؟ وقال أيضاً إن إسرائيل تستطيع أن تفعل ما تريد في جغرافيا الإقليم تغييراً أو تحويراً، وهذه تصريحات لا يقولها سفير أو مبعوث لنزع فتيل الصراع، بل هو رجل يأتي لخدمة هذا الأفكار وتطبيقها على أرض الواقع، رجل يمثل الاستعمار القديم والحديث، هدفه إخضاع الأطراف الأضعف وترتيب الأوضاع لخدمة الاستثمار والاستئثار دون الحفاظ على قناع من الكلمات اللطيفة أو الملتبسة.
يلاحظ في هذا الصدد أن العديد من الموظفين في إدارة ترامب الحالية يستخدمون اللغة العارية القبيحة في التعبير عن آرائهمالمتطرفة، دون الاكتراث بالأعراف الدبلوماسية أو الحساسيات الثقافية، وهذا يدل على مدى التطرف الديني والعقدي الذي يعتمل في صدور هؤلاء، وخير مثال على ذلك هو سفير أمريكا في إسرائيل، مايكل هكابي، وكذلك رئيس مجلس النواب، مايكل جونسون، عندما تستمع إلى أمثال هؤلاء، لا يمكنك التفريق بين تصريحاتهم وتصريحات مسؤولين إسرائيليين قد يعبرون عن تطرف أقل.
أخيراً، توم البراك إنما يقدم صورة فظة لإدارة أمريكية شعبويةتكسر كل الأواني في الداخل والخارج، وتغامر بالإرث الأمريكي من أجل رؤى متطرفة قد تؤدي بأمريكا ذاتها إلى الهاوية.