عودة ناصر القدوة إلى فتح: بين الرمزية والإصلاح المؤجل

يأتي الحديث عن عودة ناصر القدوة إلى حركة "فتح"، كما ورد في التحقيق الصحفي المنشور في صحيفة القدس بعنوان "عودة ناصر القدوة، رسائل تنظيمية وسياسية متعددة الأبعاد"، ليعيد إلى الواجهة أسئلة عميقة تتجاوز الحدث ذاته، نحو بنية الحركة وأزماتها الممتدة منذ سنوات. فهذه العودة، وإن بدت في ظاهرها خطوة تنظيمية محدودة، إلا أنها في عمقها مؤشر على مرحلة جديدة من المراجعة الداخلية ومحاولة ترميم ما تهشّم من تماسك الحركة وتوازنها السياسي.
إن القرار بعودة القدوة يُقرأ بوصفه رسالة داخلية وخارجية في آنٍ واحد؛ داخليًا تسعى "فتح" إلى القول إنها قادرة على مراجعة ذاتها واستعادة كوادرها التاريخية في إطار تصالح داخلي يرمم الشرخ التنظيمي، وخارجيًا تسعى لإظهار مرونة سياسية أمام القوى الإقليمية والدولية التي تضغط باتجاه إصلاح السلطة وإعادة هندسة بنيتها استعدادًا لمرحلة ما بعد الحرب. لكن هذا الخطاب، وإن اتسم بلغة التعافي، لا يخفي أن الحركة تواجه أزمة عميقة في البنية والوظيفة، أزمة تتعلق بمركزية القرار وتآكل الشرعية التنظيمية وانكماش الدور الجماهيري الذي شكل ذات يوم عماد قوتها.
العودة إذن ليست حدثًا فرديًا بقدر ما هي علامة على مأزق جماعي. فاستعادة شخصية مثل ناصر القدوة - بما يحمله من إرث تاريخي وحضور سياسي - تمثل محاولة لبعث رمزي للشرعية أكثر مما هي إصلاح فعلي في جوهر التنظيم. فالميل إلى استدعاء الرموز القديمة يعكس عجزًا عن إنتاج قيادة جديدة وخطاب فكري متجدد، وهو ما يجعل الخطوة أقرب إلى “تجميل الأزمة” منها إلى تجاوزها. فالتحليل السياسي الوارد في التقرير يؤكد أن فتح تدرك ضرورة ترميم صفوفها، لكنها تفعل ذلك بذات الأدوات التي صنعت الأزمة.
في جوهر الخطاب المرافق لهذه العودة، يمكن قراءة نزعة لتثبيت سردية الاستقرار تحت شعار الإصلاح، أي محاولة لإعادة إنتاج النظام السياسي الفلسطيني من داخل المنظومة ذاتها، دون مساس بطبيعة السلطة أو آلياتها. اللغة التي يستخدمها هذا الخطاب - مثل "الترميم" و"التعافي" و"التفاهمات" - هي لغة إدارية أكثر منها سياسية، تتعامل مع الأزمة كخلل فني لا كتحول تاريخي في مفهوم القيادة والمشاركة. إنها لغة “المحافظة على الشكل” في مواجهة الحاجة لتجديد المضمون.
لكن عودة القدوة تفتح أيضًا نافذة لتفكير جديد إذا ما أُحسن توظيفها. فالحركة اليوم أمام فرصة لإعادة صياغة علاقتها بالسلطة وبالمجتمع الفلسطيني معًا، عبر خطوات إصلاحية حقيقية تعيد الثقة وتؤسس لمرحلة جديدة من المشاركة والمساءلة. فالمطلوب ليس فقط استعادة الكوادر، بل إعادة بناء القواعد. إن تجاوز الأزمة الفتحاوية يستدعي أولًا إصلاح البنية التنظيمية عبر انتخابات داخلية شفافة تنهي ثقافة التعيين وتعيد الشرعية للمؤسسات، وثانيًا فصل الحركة عن السلطة التنفيذية لتستعيد دورها كحركة تحرر وطني لا كذراع إداري. وثالثًا تمكين الجيل الشاب الذي ظل مهمشًا لعقود وإشراكه في صياغة القرار، بما يضمن تداولًا حقيقيًا للقيادة.
كما أن استعادة الثقة مع المجتمع الفلسطيني تتطلب أن تتحول "فتح" من إطار بيروقراطي إلى مشروع وطني حيوي مرتبط بالناس، يتفاعل مع النقابات والجامعات والمجتمع المدني، ويستعيد لغتها الأصلية التي جمعت بين التحرر والكرامة والعدالة. فالمشكلة لم تعد في غياب القيادات، بل في غياب الرؤية الجامعة التي توحد الفلسطينيين حول مشروع سياسي واضح بعد عقود من التجزئة والانقسام.
إن عودة ناصر القدوة - مهما كانت دوافعها - لن تحقق أثرها المطلوب إن ظلت محصورة في لعبة التوازنات الداخلية، أو استُخدمت لترميم الصورة بدل إعادة بناء المشروع. فالمستقبل لن يُبنى بالرموز وحدها، بل بإرادة حقيقية لإصلاح المنظومة التنظيمية والسياسية التي شاخت وابتعدت عن نبض الشارع. المطلوب اليوم من فتح أن تمتلك الشجاعة لتخوض مراجعة جذرية تعيد تعريف ذاتها: من سلطة إلى حركة، ومن إدارة إلى قيادة، ومن ماضٍ يُستحضر إلى مستقبل يُصنع.
إن التحدي الحقيقي ليس في من يعود إلى فتح، بل في كيف تعود فتح إلى نفسها ؟