غزّة أولاً .. وليس آخراً ( إلى أصدقائي أدباء وكُتّاب ومبدعي غزّة )

***
اليوم ستبكي الأرضُ، فرحا وحزنا، غضبا وأسفا، معا! وستخبز قمحها بين الركام، الذي سيكون متراسا عنيدا، ينادي الحجارة لتعيد البيت إلى هيأته. ستنتصر إرادة البقاء وقوّة الحياة في غزّة، على كلّ العوائق وأشباح ألاعيب الساسة والفناء. ويثوب العاشق، الذي خسر الشجرة، ليقف منتظرا قمرَه العائد من الأعراس القديمة، ليكمل قصيدته المجروحة.
اليوم تبدأ المعركة، ليؤثّثَ، النازلُ من جحيمه، دارَه العارية المنعوفة، ويثبت أنه قمين بإعادة الجنّة إلى شكلها، ليبقى الموج جديرا باللّمّة والعرائش وتراتيل الهزيع والمواقد.
ربما انكسر الميزان، لكنّ حبّ المدينة هو الذي سيحرّك القلبَ، وليس كراهية الجنود، وتجّار الاحتكار، وباعة الأوطان.
ثمّة غمامٌ هلاميّ رخو فوق الرؤوس الشعثاء. وفنتازيا الجنون الذابح تؤوّب في الجنبات. ومحرقة الدوستوبيا، المقنّعة بدادائيّة بلهاء قاتلة، ما فتئت تستعين بالشيطان. وسوريالية لم تغادر الواقع الأشدّ غرابة! فهل وصلنا إلى الغموض الكامل أم الوضوح الكاسح؟ أم أن تعب القلب جعل الأمور تتداخل وتنصهر في بوتقة الرماد؟ وما أهمية هذا السؤال أو كلّ الأسئلة ما دامت غزّة قد قاربت الربع الخالي، الخالي إلا من الرمل والضباع وعساكر الكاوبوي ومندوبي
النخّاس الكبير؟ وأن نينوى، بعيدة.. مع أنها قابلة لتجديد الموسيقى، ولاستيعاب زفّات الجنون؟
وما قيمة اللغة إذا لم تضمن لك البقاء تحت عري الندى، ومفردات المذبحة التي ما فتئ دمها ينزّ من الأشداق، أو الزلزلة التي تتصادى حجارتها الطائرة في الجهات، أو النسيان الُمطْلق للشهوات؟ وماذا تنفع الغابات والأنهار إذا لم تطلق أعنتّها للظباء، وتشهد الرفيف الأخضر ساعة الضحى؟
الصمتُ كلامٌ مكتوم.
وثمّةَ متّسعٌ للكلام. فَلا بُدّ من رقبة الديك حتى يظلَ قادراً على الصياح، ولا بُدّ من سكين المتنبئ حتى يشخب دمُ الطير على خدّ العروس، لتكتملَ زينتها، ويعودَ بكامل ألوانه المزركشة بعد أن يرقص بقشعريرته، ويلفّ ويدور حول نفسه، ذبيحاً طازجاً معفّراً بإكليله الأحمر الساخن.
ولا بُدّ من تلك الهّزة العميقة التي تنشر برقَها المتشعّب في الأوصال، عند كل فجيعةٍ أو ذكرى، أو جَمال يبطش، أو دمعة رجراجة كاوية.. عندها تحسّ أن أحشاءك تغوص بعيداً، كأنك على عتبة التحوّل إلى كينونة أخرى.
ولا بُدّ من عافية الصراخ والبكاء والضحك المجلجل والشبق، والذهاب إلى آخر الملح، أو إلى كهف الغابة المسحور. ولا بُدّ من عَرقِ الخطيئة ونَهمِ اللذّة والعبث، حتى يكون للحسرة طعمها الجليل. ولا بُدّ من السجود العميق والصوم والتمسّح بأثواب النور، حتى يخفّ القلب ويجنّح مع النجمة اليتيمة الواعدة. باختصار؛ لا بُدّ من كلّ شيء حتى نسحب أوراق الجنون من الوردة الريّانة المحتشدة بالرقّة والشّهد والرّهام الرقراق.
ولم تَعُدِ الأفعى من وردتِها السَّوداء، لتلقيَ علينا السلامَ، فقد هيّأتْ لأبنائِها النّاعمينَ، أقفاصَ الفراخِ والدمِ الطفلِ الفائض. وبقينا، على شيخوختِنا، نستعيدُ النَّايَ الذي هربَ من حقولِنا.
فلا بأسَ من أن نقتسمَ التحيةَ على ما تبقّى من مشهدِ النهرِ الظامئِ، الذي كشفَ عُمْقَ العطشِ، أو الفيضانَ الأحمر سالفِ الذكرِ.
وقيل؛ لم تُكْمِلِ العَرُوسُ حِنّاءها، كما ينبغي، فماتَ القُرنفلُ والماء.
ولا جدوى من هذا الهروبِ الأنيقِ، أو التلهّي بهذه التسليةِ المضبوطةِ الراقية، لأنَّ الحوذيَّ أتقنَ ضربَ السياطِ، وأصبحنا مدجّنين كما يروقُ لأمسياتهِ العارية، ولا بأسَ من أن نقضيَ ما تبقّى من أيامٍ، فقد ردَّد النقّادُ إطراءَهم وتبريراتِهم بإتقانٍ شديدٍ، ولن يُغطّي نُحَاسُ الصنّاجةِ أسماءَنا العاليات، أو ما يقوله الرواةُ في الخانِ، أو على جسرِ الوادي الوحيد. فليمُت مَنْ يريد، ولينتحرْ مَنْ ينتحر، وليقدِّم حاكِمُنا قبّتَنا الخضراءَ المعتّقة إلى سادنِ الجحيمِ الوحيدِ..فماذا عسانا نفعلُ في هذا السقوطِ المخيفِ الواسعِ المجنونِ؟
ولغزّة إسْراؤها بأمرِ العليّ الجبّار. وللثكالى، أُمهاتِ الصغار المفجوعين بالفَقْد، معراجُهن في البياض الحصين، لترى كلُّ ثاكلٍ رجالَها، يومَ عيدٍ قريبٍ، يترون الواحد خلف الآخر، يقبّلون الزّغب والكفّ، وتنهمر دمعة الثلج التي كانت، قبل قليل،كاوية.
ويا أشجار النخيل الممتدة في صدر غزة! انطلقي، واخترقي كبد الشمس. واهزمي الظلام في آدم. واخلقي فارساً جديداً يحرّر حامل الصخرة، وابعثي دعوة الإيمان للسيّدة المكابِرة مثل أوثانها، وأعيدي الإنسان للمشوّهين القتلة، لعلّهم يتوبون كما تابت المجدليّة، وواصلي مدّ جذورك حتى ترهص بالليمون والزيتون، من الناقورة إلى رفح وأمّ الرشراش.
ويا أيتها الرجولة الفارعة كالأبنوس! توالدي على الطرقات كالنجوم الشاهدة على المخاض، لتسير فلذات أكبادنا نحو بيادر الفرح عند الفجر. وعلّميهم كيف يكسرون الوحوش الضارية، ليخرجوا الطير من بين أنيابها الكريهة. لتنطلق أغانينا، حافية كالأنهار، وعامرة كالخوابي والمشاوير والصلاة.
ويا أبانا الذي خرج من الجنّة وحطّ على الأرض! عليك أن تخلق جنّتك الوارفة الخلّابة هناك، بعيداً في القلب، لتعود علاقتك بأبواب الغزالة ممتلئة بالحكايا. ولا ذنب على الأرض إلا ذنب أولئك الذين فقدوا صلتهم بآدم.
لقد كانت الوردةُ بيضاءَ، والسماءُ سحابةَ ثوبِ عروسٍ، عندما كان الإقليم الهشّ صحراء، والحرب منافع وبلاءٌ وشظايا. ولمّا هرست دبابةُ الجنزير لحمَ رضيع في الطريق، كانت الدماء من أرجوان عسقلان، لكنّ النجوم غابت عن السماء. ومن لحظتها وقلب الأرض يستعر كالجمر، ويلوب من أوجاع الكراهية في الإنسان، ومن خراب نظرته لكثافة النوع البشري.
***
المرارة والحامض الكاوي والرمل الناشف في حلوقنا، مع شهقة التلقّي لعشرة آلاف مذبحة كاملة، وثلاثين هيروشيما، وخمسين هولوكست! كأننا لم نعد ننتظر تلك الطمأنينة والسكينة من الأخبار المكرورة الصافعة، كأن اليأس قد أفنى الصبرَ على ما يمور من خراب ودم وتشريد وفرقة واقتتال وفتن وضلالات وكوارث ومفاسد وجنون، على امتداد خارطتنا الكبيرة، التي يومض كلُّ شيء فيها سريعاً نحو هاوية مرعبة!
وها إنّي أتحسّس دبقَ الشريان المفتوح، مجّاناً، على الأصابع المضطربة، والسخونةُ تهمُّ بالتعالي الكاوي، والظمأُ عتيق.
ولا رعد فوق الخبب، يترنّح بجذعه، ليُنادي النازح من وراء دغل البلح، لأنه الفهد يتحسّس الموقدة المندلعة بشعاب الضوء، وخياله الجامح يجتاح صدره بالنار، ولا يرى زوابع الهلع التي تشلع المكانَ من مكانه!
أيّ موجة حارقة تلك المنداحة على سُكّرنا الأسود المرّ؟ وعمّتنا النخلة تكدّ جدائلها اليابسة، ليسقط عن ألواحها الحَبّ المترمّد المذرور، إثر الحريق المدوّي الذي أخذ أعذاقها للعدم، على مدى غزة المحترقة؟
وما للطير ببراءة الغموض، يلفّه الخوف، في غربة مجهولة، وشجرهُ يسيل على الحواف، كهرماناً من النسغ المشعوط؟
ليس للبلّور المجعّد في هذا المدّ البعيد من صوت آخر، سوى ما تدفعه الأعماق إلى البيوت المُرهقة المهدّمة العطشى، وللشبكة المقطّعة التي تنوء بمخلوقات الليل المتغضّنة.
أيها المتفّرد، المُعاكس للمشهد المتشقّق، العميق الواسع الشهيّ المخيف، أيها المبدع البحر! ستفقد ملوحتك الثقيلة إنْ وصلت الدماء إلى صفحتك، وصار لها لون غروب دميم، وسنكون أمام شواطئك المهجورة نبكي، فلا صدى، سوى ما يتهيّأ للمدّ من شراع يتهاوى في القيعان!
ويا ليتني ذالك الفارس الذي أنصف الخيول، وشرب من أعرافها عسل الكرامة والعدل. لكنني الموزّع في الملايين التائهة، المفرومة باستراتيجيات البرامج، ورغبات الكارتيلّات، وأطماع المؤسسات الغريبة، واستحقاقات تثبيت النير على الأكتاف، بعد أن صار المواطن المُسَرْنَم بلا رأس، أو يقع تحت اشتراطات العالَم المبهظة، التي تنازع الطفل دفتره، والرضيع حليبه، والمرأة شالها المسروق.
وما فتئت داحس، متعددة الألوان والأشكال الحداثية، تدقّ حافرها الشيطانيّ، على عتباتنا، وتجنّح بزعيقها المصنوع الشائخ الكريه، وقد تداخلت رماحنا المستوردة في نحورنا، وسال دم الرُضّع على أقدام الطريق الموحل..
وما زال الشبح على الأبواب، ولا أرى الحُرّاس، يا صديقي!
لا حُرّاس إلا أنتم والبحر والأغاني الجماعية والفجر وقصائدكم العارمة، لأن غزّة هي أوّل الأرض وآخرها.