بلا أسماء أو بيانات: عائلات غزة تبحث عن ملامح أبنائها بجثامين شهداء

داخل قاعة صغيرة في "مستشفى ناصر" جنوبي قطاع غزة، تنشط فرق وزارة الصحة إلى جانب الأهالي في محاولة مضنية للتعرف بدائيا على هويات الجثامين التي أعادتها إسرائيل إلى القطاع، بلا أسماء أو بيانات.
يتجمع الأهالي أمام شاشة عرض كبيرة وضعتها الوزارة، ويحدقون بتفاصيل صور صعبة تعرض وفق ترميز رقمي، علّهم يجدون خيطا واحدا يقودهم إلى من فقدوهم منذ أشهر طويلة.
النظر ثاقب نحو الشاشة، والعيون لا تغادرها وهي تتأمل الملامح المشوهة بفعل التعذيب والحرق، فيما يسود المكان صمت ثقيل يقطعه أحيانا صوت تنهيدة أم أو أب غلبهما الحزن والشوق.
مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة، يقول إن وزارة الصحة تسلمت عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، جثامين 120 فلسطينيًا مجهولة الهوية على 3 دفعات.
وأشار إلى إن بعضها يحمل آثار تعذيب وحروق وإعدامات ميدانية، دون أن تقدم إسرائيل أي بيانات أو أسماء، ما جعل التعرف على أصحاب الجثامين مهمة شاقة.
وفي 10 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، بدأت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، وفق خطة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث أفرجت الحركة عن 20 أسيرا إسرائيليا أحياء وسلمت جثامين 10 آخرين.
بالمقابل، أطلقت إسرائيل سراح 250 أسيرا فلسطينيا محكومين بالسجن المؤبد، و1718 اعتقلتهم من غزة بعد 8 أكتوبر 2023، وسلمت جثامين 120 فلسطينيا.
مشاهد قاسية
وفي قطاع الصحة الذي أنهكته الإبادة الإسرائيلية، لا يملك الأطباء سوى أدوات بسيطة وقلوب مثقلة بالألم، علّهم يساهموا بإطفاء نار تشتعل داخل قلوب آلاف الأسر التي فقدت أبناءها.
ورغم صعوبة ذلك، وقف هؤلاء أمام مشاهد قاسية لتلك الجثامين، التي بدت عليها آثار تعذيب وحرق وإعدام ميداني.
يذكر الثوابتة أن بعض الجثامين كانت مربوطة من العنق، ما يشير إلى إعدامها شنقا، فيما وجدت أخرى معصوبة الأعين، ومقيدة اليدين والقدمين.
ويؤكد أن هذه المشاهد تدلّ "على أن الاحتلال ارتكب مجازر وإبادة جماعية واضحة، بحق الشهداء الكرام".
ووسط هذه المشاهد الصادمة، يحاول أهالي المفقودين جاهدين التركيز في تلك الجثامين في محاولة للتعرف على أية علامة ترشدهم لأبنائهم.
المواطن الفلسطيني أكرم المناصرة نجح بعد جهد طويل في التعرف على جثمان أحد ابنيه المفقودين منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
يقول المناصرة والحزن والأسى يعتصران قلبه: "فقدت ابني عبد الله وخالد في 7 أكتوبر، وعندما سمعنا بوصول جثامين الشهداء، جئت إلى المستشفى لأحاول التعرف عليهما".
ويضيف وهو يحاول حبس دموعه: "ملامح الوجه تغيّرت بسبب التعذيب، ولكنني تعرفت على أحدهما من شامة عند الأنف وشكل الأسنان".
جثامين برموز
من جهته، يلفت مدير الطب الشرعي في "مستشفى ناصر" أحمد ضهير، إلى إن إسرائيل سلمت الجانب الفلسطيني عبر الصليب الأحمر الجثامين دون أسماء، واكتفت بوضع رموز عليها، دون توضيح طبيعتها.
ويذكر أن "الجثامين مرمّزة من 1 إلى 90"، مؤكدا أن التعرف عليها بالطرق البدائية يكاد يكون مستحيلا، "فلا نملك مختبرات أو أدوات فحص، ولا تصلنا أي بيانات من الجانب الإسرائيلي".
ويضيف ضهير: "وصلتنا أمس 3 أسماء فقط، اثنان منها غير واضحين، والثالث لم يتم التحقق منه حتى الآن".
ويشير إلى أنهم يلجأون إلى فحص الطول والبنية والإصابات المحتملة والأدلة الظاهرة للجثث، ثم توثيقها من قبل الأدلة الجنائية.
وبسبب غياب وسائل التعرف الدقيقة، لجأت وزارة الصحة إلى إطلاق رابط إلكتروني يتضمن صورا منتقاة للجثامين، "تراعي كرامة المتوفى ولا تمس خصوصيته"، لإتاحة الفرصة لذوي المفقودين للتعرف عليهم عن بعد، حسب ضهير.
ويقول: "في حال تطابق الاشتباه، يتم استدعاء العائلات إلى مجمع ناصر الطبي للتعرف الميداني عبر شاشة العرض، قبل استكمال الإجراءات لدى النيابة العامة والمباحث الطبية تمهيداً لتسليم الجثمان".
ويؤكد أن "الجثامين التي لا يتم التعرف عليها خلال 5 أيام من وصولها، ستدفن وفق إجراءات وزارة الأوقاف وبخريطة مكانية تحفظ موقع كل جثمان وفق الرقم المخصص له، لضمان إمكانية الاستدلال عليه مستقبلاً.
وقبل سريان وقف إطلاق النار، كانت إسرائيل تحتجز 735 جثمانا فلسطينيا فيما يُعرف بـ"مقابر الأرقام"، وفق "الحملة الوطنية الفلسطينية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين".
وبخلاف الجثامين الـ735، أشارت الحملة إلى تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" في 16 تموز/ يوليو الماضي، يفيد بأن الجيش الإسرائيلي يحتجز في معسكر "سديه تيمان"، نحو 1500 جثمان لفلسطينيين من غزة.
وقتلت إسرائيل منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في إبادة جماعية ارتكبتها بدعم أميركي في غزة، نحو 67 ألفا و967 شخصا، وأصابت 170 ألف و179 آخرين، معظمهم من النساء والأطفال، كما أزهق التجويع الممنهج أرواح 476 فلسطينيا بينهم 157 طفلا.
ودمرت إسرائيل قطاع غزة الذي يحتاج 70 مليار دولار لإعادة إعماره، وفق تقديرات أممية.
وتقدر الجهات الحكومية في غزة وجود نحو 9500 مفقود، يعتقد أن جزءا منهم لا يزال تحت الأنقاض، ولا يزال مصير آخرين مجهولا.