الحوار بشقيه الوطني والاجتماعي هو البوصلة الأخيرة لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني

مقدمة
تمر القضية الفلسطينية بمنعطف تاريخي هو الأخطر منذ عقود. لقد بلغ النموذج القائم ذروة إخفاقه، فالمشروع السياسي يعاني من جمود عميق وانقسام داخلي يهدد كيانية الوجود الفلسطيني، بينما يئن الاقتصاد تحت وطأة الحصار والاحتلال والتبعية، محققًا معدلات بطالة وفقر هي من بين الأعلى عالميًا. على الصعيد الاجتماعي، يزداد الشرخ عمقًا بين شقري الوطن، وتتراجع الثقة بين المواطن ومؤسساته، بينما يغيب أي أفق حقيقي للشباب الذي يعيش حالة من القلق الوجودي. بعد ثلاثة عقود من المسوحات والتقارير والمؤتمرات والمشاريع والبرامج والتدريبات الممولة وغيرها من وسائط التنمية والدعم الفني والمالي، لم تتغير معادلة هذا الواقع. فالوثائق ازدادت، لكن العدالة تراجعت واليوم، لا نحتاج إلى مزيد من الاستراتيجيات والخطط قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى البديلة، بل إلى إرادة سياسية حقيقية، ووحدة وطنية صادقة، وحوار بشقيه الاجتماعي والوطني الشامل لتوحيد الموقف والرؤية والجهد ويعيد الإنسان الفلسطيني إلى قلب ومركز تحديد المصير والقرار.
ومن منظور منظمة العمل الدولية، التي أعتبر مبادئها حجر أساس لأي عقد اجتماعي حديث، فإن هذا الحوار ليس مجرد جلسات للتوافق السياسي. إنه آلية مؤسسية دائمة وفاعلة، تقوم على مبدأ التمثيل الثلاثي: (الحكومة، ومنظمات أصحاب العمل، والنقابات العمالية) كممثلين أساسيين للقوى الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع. يجب أن يكون هذا الحوار قادرًا على مناقشة السياسات الاقتصادية الكلية، وإصلاح سوق العمل، وصياغة تشريعات اجتماعية عادلة تضع كرامة العامل والعاملة في قلب أولوياتها وتفتح المجال لحوار وطني شفاف وهذا هو الضمانة الوحيدة لتحقيق "العدالة الاجتماعية" التي ننشدها، والتي بدونها يبقى أي مشروع وطني مهددًا بالاختلال.
أولًا: غزة والقدس — وجها الحقيقة
غزة تحولت من جغرافيا إلى ضمير الأمة، تنهض رغم الركام ببطالة تتجاوز 80%【ILO, 2024】وانكماش اقتصادي بلغ 26%【World Bank, 2024】. أما القدس، فتبقى روح فلسطين ومحرار صمودها، تُعاني من الإقصاء الاقتصادي والتهميش المؤسساتي و هاتان المدينتان ليستا رمزًا للوجع فقط، بل بوصلتان لأي مشروع وطني حقيقي.
ثانيًا: عمال الداخل — عماد الاقتصاد المجهول
عمال الداخل الفلسطيني والذين شكلوا قرابة ٣/١ القوى العاملة في فلسطين قبل الحرب الأخيرة على غزة ، هم الذين كانوا يعبرون الحواجز فجرًا ويعودون ليلًا، هم الركيزة غير المرئية للاقتصاد الفلسطيني لكنهم الان بلا عمل وبلا حماية اجتماعية أو ضمان قانوني.
إن إنشاء نظام وطني شامل للضمان والحماية الاجتماعية بات واجبًا وطنيًا، لا خيارًا خاصة لهذه الفئة المهمشة دائما من معادلة التشغيل والضمان
ثالثًا: الضمان الاجتماعي والتشريعات المجمدة
• قانون العمل وتشريعاته بلا تحديث منذ اكثر من عقدين.
• قانون الضمان الاجتماعي مجمّد.
• قانون الحد الأدنى للأجور لا يُطبّق بعدالة.
• الصحة والسلامة المهنية غائبتان عن الرقابة والمحاسبة .
• صندوق التشغيل الفلسطيني يعاني من غياب الرؤية والتمويل والتكامل.
• ضعف الشفافية أفرغت القوانين من مضمونها
لم تزل التعاونيات والعمل التعاوني في حالة استرداد الثقة والطاقة من جديد
• عمالة الطفال ازدادت وخاصة بعد ظروف الحرب الأخيرة .
• لم تنل المرأة حتى يومنا هذا مكانتها من صنع القرار السياسي والتمثيل في الموسسة الحكومية والعامة والخاصة
• غياب مجلس تشريعي يراقب ويحاسب ويُقوِّم، بدل أن يبقى الغياب سيد المشهد
رابعًا: العمل النقابي والتعاوني والتطوعي
• العمل النقابي فقد روحه، والعمل التعاوني لا يزال محصورًا في مبادرات صغيرة.
• إن إحياء التعاونيات الإنتاجية والخدمية وإشراك الشباب فيها هو السبيل لبناء اقتصاد مجتمعي لا ريعي.
• كما أن العمل التطوعي ضرورة لاستعادة روح الانتماء والمسؤولية.
يجب أن نعيد الثقة للشباب بأن المشاركة في خدمة المجتمع ليست ترفًا، بل فعل وطني نبيل.
خامسًا: المشاريع متناهية الصغر والتشغيل الذاتي — من التمكين إلى الرقابة
• رغم انتشار مشاريع التمويل الأصغر، إلا أن غياب الرقابة جعل بعضها وسيلة لإفقار المقترضين لا تمكينهم.
• المطلوب اليوم إطار وطني يراقب المفاهيم والتطبيقات لضمان العدالة والمساءلة وتحويل هذه المشاريع إلى أدوات استدامة حقيقية.
• كذلك، فإن التشغيل الذاتي يحتاج بيئة قانونية ومصرفية تحفّز المبادرة لا تعرقلها.
سادسًا: تمثيل المرأة وتمكين الشباب وبناء المهارات
• لا نهضة بدون مشاركة فعلية للمرأة في صنع القرار، ولا مستقبل بدون تمكين الشباب في السياسة والاقتصاد والمجتمع.
• كما أن على الدولة إعداد جيل جديد مهيأ لـ عصر الذكاء الاجتماعي والاقتصاد الرقمي، عبر برامج تدريب ومهارات مهنية وتقنية تواكب المستقبل.
• المستقبل ملك من يستعد له، لا من ينتظره.
سابعًا: التكامل بين القطاعات — بديل الفوضى التنظيمية
• بدل التنافس بين الوزارات والمؤسسات، نحن بحاجة إلى تكامل وطني بين القطاعات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني.
• التنمية لا تُبنى بالانقسام، بل بالتنسيق والتخطيط المشترك.
• الحكومة تُخطّط، القطاع الخاص يُنتج، النقابات تراقب، والمجتمع المدني يُحاسب — هذه معادلة الدولة الحديثة.
ثامنًا: ثقافة قبول الآخر — الأساس الأخلاقي للوحدة
• كل إصلاح سياسي أو اقتصادي يبقى ناقصًا دون ثقافة قبول الاختلاف والتنوع.
• فالوحدة لا تعني التطابق، بل الاحترام المتبادل.
• المجتمع الفلسطيني بحاجة إلى تجديد منظومته القيمية على أسس التسامح والتعاون، لا الإقصاء والانقسام.
تاسعا :، منذ أوسلو تدفقت مليارات المساعدات من معظم دول العالم لكنها لم تبنِ دولة بل رسّخت التبعية وموّلت البيروقراطية بدل التنمية بحيث تحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد “صمود مؤقت” بدل “اقتصاد إنتاجي مستدام”.
عاشرا : التكنوقراطية الوطنية والكفاءة قبل الولاء
لكم نحتاج إلى تكنوقراط وطنيين حقيقيين يمتلكون النزاهة والشجاعة لا القدرة على التكيّف مع المانحين فالقيادة ليست وجاهة بل أمانة ومسؤولية خاتمة
الخاتمة
بعد اكثر من ثلاثون عامًا من العمل الدولي، أقولها بصراحة:
لقد أخطأنا حين راهنّا على المانحين بدل الإنسان الفلسطيني، لكن الأمل لم يمت وما زال في فلسطين عمال ونساء وشباب ومؤمنون بالعمل، لا بالشعارات وباختصار، فان الطريق إلى تحقيق ادنى درجات العدالة الاجتماعية وتحسين ظروف سوق العمل الفلسطيني هي :
• قوانين وتشريعات عملية ومطبقة .
• نظام حماية اجتماعية وضمان اجتماعي شامل.
• نقابات عمالية وتعاونيات مفعلة وحرة.
• تمكين للمرأة والشباب ولذوي الاعاقة .
• تعليم مهني وتقني مواكب للمستقبل.
• حوار وطني واجتماعي جامع.
إما أن نبدأ هذا المسار الآن بشجاعة،أو نستمر في الدوران حول أنفسنا، حتى نفقد آخر ما تبقّى من الوطن