المشروع الوطني الفلسطيني بين أخطاء الذات والوصاية الأمريكية .

2025-10-27 09:33:42

في ظل الأنقسام الفلسطيني الضار والممتد حتى اليوم بفعل الأنقلاب وتغييب الانتخابات وعدم تنفيذ التوافقات الوطنية بحكم إملاءات خارجية متعددة وارتباطات بجهات دولية ، وتداعيات ذلك على النسيج الإجتماعي والسياسي دون مبرر وطني ، ولمخطط الوصاية الأمريكية المتصاعد ، يقف المشروع الوطني التحرري الفلسطيني على مفترق طرق حاسم . فالأخطاء الداخلية ، والأنشغال بالمصالح الشخصية أو الفؤية وأستغلال البعض للمواقع العامة ونشؤ مراكز نفوذ على حساب المصلحة الوطنية العامة ، وضعف الشفافية والرقابة ، واللهث خلف سراب حلول سياسية منقوصة لم تُثمر عن شي سوى مزيداً من الضغوط والابتزاز السياسي . كل ذلك وغيره ترك شعبنا عرضة لمشاريع خارجية تسعى لإعادة إنتاج الأحتلال وتكريس الهيمنة الإسرائيلية الأستيطانية على الأرض والهوية . المطلوب اليوم وعي وطني متجدد يرفض الإملاءات ويميز بين الحق والوصاية ، ويعيد بناء الشرعية الوطنية بالأنتخابات قبل أن تُكتب فصول قضيتنا بأيدي الآخرين من الخارج .

ورغم ما تحقق من انجازات سياسية على المستوى الدولي ، الا اننا أرتكبنا خلال مسيرتنا الوطنية أخطاء كثيرة دون مراجعة نقدية حقيقية منذ أوسلو وما قبل مروراً بالسابع من أكتوبر وحتى اليوم رغم حق شعبنا بمقاومة الأحتلال ، ما أدى إلى ضعف النظام السياسي وترهل مؤسساته واتساع الفجوة بين القيادة والقاعدة وإلى ما وصلنا له من حالة ضعف وتشرذم امام المشروع الإستعماري والتوسع الكولنيالي والضم بالأمر الواقع الى جانب تقسيم غزة ، فيما يواجه شعبنا الأحتلال والأستيطان والإبادة في ظل ضيق الأفقين السياسي والاقتصادي ومعيقات الوحدة الواسعة التي تشكل ضرورة انتصار حركات التحرر .

ويأتي الإعلان الدستوري الأخير للرئيس محمود عباس بشأن تولي مهام رئيس السلطة في حال شغور المنصب ، ليعكس جزءًا من الأزمة المستمرة في النظام السياسي الفلسطيني وغياب المسار الديمقراطي الواضح . هذا القرار ، ربما رغم أهميته التنظيمية ، يطرح أسئلة حول الشرعية الداخلية ويعيد إلى الواجهة النقاش حول أدوات القيادة وتوازناتها داخل حركة "فتح" ومنظمة التحرير والسلطة ، في ظل ضغوط وصاية خارجية متزايدة .

اليوم تتقدم الوصاية الأمريكية  بوضوح ، من خلال محاولة إعادة إنتاج الأحتلال عبر ما يُسمى بـ“اليوم التالي للحرب على غزة”، مستفيدة من الأنقسام الفلسطيني وغياب الإرادة السياسية الواضحة وظهور سياسات الانتظار ، وفي محاولة لاستخدام الولايات المتحدة مجلس الأمن من اجل تدويل الخطة كأداة لحماية إسرائيل وفك عزلتها تحت ذريعة الحماية الدولية لشعبنا ، وذلك في إطار سعيها لتثبيت تفوقها في المنطقة وتجاوز أزماتها ببؤر التوتر التي تفتعلها حول العالم في تهديدٍ للسلم والأمن الدوليين ، ومن خلال الإلتفاف على تعاظم التضامن الدولي الشعبي غير المسبوق وسلسلة الأعترافات الدولية ونتائج مؤتمر نيويورك للمبادرة الفرنسية السعودية ولمجريات القضاء الدولي في تجريم دولة الأحتلال وعلى عظمة صمود شعبنا .

أما الإجتماعات الأخيرة التي جرت في القاهرة لعدد من الفصائل دون مشاركة حركة "فتح" وعدد من قوى منظمة التحرير فيها ، في وقت ما زالت اسرائيل تقتل وتدمر ، فقد عكست استمرار حالة الأنقسام الضار الذي بات ينعكس على مجتمعنا بشكل عام  ، إذ ان ذلك اللقاء لم يُفضي إلى اتفاق نهائي ولا الى إجماع وطني . حيث اقتُرح خلالها تشكيل لجنة من الكفاءات الفلسطينية "التكنوقراط" لإدارة غزة مؤقتاً وفق الخطة الأمريكية المفخخة ، ما جعلها عرضة للوقوع بالفخ الامريكي وأقرب ان تكون إلى إدارة تحت وصاية خارجية منها إلى مدخلٍ لوحدة وطنية حقيقية وعريضة . هذا في وقت تُظهر استطلاعات الرأي تراجع الثقة بالفصائل التقليدية ، ورغبة متزايدة بتمثيل وطني مستقل يضم جميع مكونات الشعب من فصائل ومستقلين وقطاعات المجتمع المدني ، ولا سيما الشباب والمرأة والأسرى ، وهو الأساس الذي قامت بالأصل عليه منظمة التحرير بالقدس عام ١٩٦٤ .

وفي هذا السياق ، برز حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن دراسة أمر الإفراج عن القائد الأسير مروان البرغوثي ، في محاولة خبيثة لتوظيف رمزيته السياسية لخدمة مصالح ترامب نفسه ، أكثر من كونها مبادرة حقيقية تتعلق بحرية الأسرى او تخدم مشروعنا الوطني التحرري . فمروان ، الذي ينتظر حريته كل أبناء شعبنا ومعه رفاقه من الأسرى القادة ، هو رمز للوحدة والمقاومة ، لا يقبل بان يكون جزء من أي صفقة أو توظيف سياسي تنتقص من حقوق شعبنا . إن الإفراج عنه يجب أن ينظر له ليُعد فقط انتصاراً للإرادة الوطنية ولقضية الأسرى وتفاعلتها الأممية ، لا ورقة للمساومة أو التوظيف وفق رغبات الإدارة الامريكية في مخططاتها لهندسة الواقع الفلسطيني على جانبية من الضفة وغزة وفق محاولات فرض سلطات "متجددة" .

إنّ إدراك جوهر الصراع مع إسرائيل يمثل شرط أساس للتحرر من أحتلال أستيطاني إحلالي اقصائي يسعى لشطب الوجود والهوية الفلسطينية وتحويل الأرض إلى معازل جغرافية لتجمعات سكانية في الضفة وغزة دون دولة ذات سيادة وفق المقررات الأممية ، في إطار مشروع صهيوني استعماري متجذر في العقلية الغربية الإستعمارية القائمة على القوة والعنصرية والفوقية . لذلك ، فإن أي حديث عن “سلام” دون إنهاء الأحتلال الأستيطاني كاملاً وأولاً والأعتراف بحقوق شعبنا التاريخية السياسية وبالمقدمة منها حق تقرير المصير وحقوق اللاجئين يظل زائفاً ، ما لم يتم اسقاط جوهر مشروع أسرائيل الأستيطاني التوسعي والفوقية اليهودية التي قامت عليها سنداً لرؤية الفكر الصهيوني العالمي ، ويبنى على ذلك حدوث متغيرات بالمجتمع الإسرائيلي الذي ما زال يجنح للتطرف العنصري  .

ان الوعي الوطني الفلسطيني اليوم هو سلاحنا الأساس . الوعي الذي يميّز بين الحق والوصاية ، ويرفض خطط “اليوم التالي” و“خطة ترامب” المفخخة ، التي تهدف إلى تصفية القضية تحت غطاء "الإعمار" أو “السلام الاقتصادي” بصمت إقليمي ، وتحويل السلطة إلى إدارة محلية بلا سيادة وتقويض مكانة "فتح" و منظمة التحرير التي اكتسبتها بفعل تضحيات شعبنا الجسام وتراثه الكفاحي ودورها التحرري  .

إنّ الرد الوطني المطلوب يبدأ بأحياء الوعي واستعادة الدور التاريخي لحركتنا الوطنية ، وفي مقدّمتها “فتح”، عبر تجديد مؤسساتها ديمقراطياً وعقد   مؤتمرها العام الثامن بمشاركة و مدخلات شفافة ، كما ايضا تكمن الضرورة نفسها عند كافة القوى الوطنية . أنّ إجراء انتخابات عامة تعيد الثقة بين الشعب وقيادته هو ما يضمن وحدة القرار الوطني المستقل ، ويُعد مدخلاً ضرورياً لإحياء الشرعية الوطنية وتجديدها . ويتطلب ذلك عقد المجلس الوطني الفلسطيني بالسرعة الممكنة على أسس تمثيلية حقيقية لإعادة بناء منظمة التحرير واستنهاض دورها كممثل شرعيّ ووحيد لشعبنا لحين اجراء الإنتخابات العامة لكافة المؤسسات الوطنية ومن اجل وضوح وتجسيد الإرادة السياسية والرؤية الوطنية .

فالسيادة لا تُمنح من الخارج ، والشرعية تُبنى من داخل البيت الوطني بالتفاف شعبنا حولها ، عبر وعي ديمقراطي مقاوم للهيمنة ، وبأستثمار مستمر للمتغيرات الدولية وتعاظم التضامن الدولي بما يخدم مشروعنا التحرري ويحمي الأرض والهوية ومبدأ الأستقلال الوطني .