حين يصبح السلام ضرورة لا خيارًا
بعد نشر مقالي، قبل بضعة أيام، بعنوان "إسرائيل بين الانهيار وإعادة التموضع" وذلك بعد توقيع "اتفاقية شرم الشيخ لوقف إطلاق النار"، تلقيت تعليقات وملاحظات كثيرة من القرّاء، كان معظمها مشيدًا، وقليل منها ناقدًا بشدة.
وقد ركّزت معظم الانتقادات على ما اعتبره البعض تغافلًا مني عن الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني منذ قيامها، وبالأخص خلال العامين الماضيين بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023؛ بل ذهب بعضهم إلى القول بأنني بدعوتي إلى إدماج إسرائيل في منظومة التعاون الإقليمي، أقدّم نوعًا من «المكافأة» لمن ارتكبوا المذابح والجرائم بحق الفلسطينيين والعرب.
ولأولئك أقول: إن السلام ليس غفرانًا للجرائم ولا نسيانًا للحقوق؛ بل هو وعيٌ بالتاريخ ودرسٌ مستفاد من تجاربه المرة. إنني أُفرِّق بوضوح بين الدولة والنظام، وبين الشعوب والحكومات؛ فالشعوب لا تُؤخذ بجريرة أنظمتها، ولا يمكن معاقبتها على سياسات متطرفة لم تصنعها. إسرائيل اليوم، شئنا أم أبينا، دولة قائمة، عضو في الأمم المتحدة، وتحظى بدعم أقوى قوة على وجه الأرض: الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب دعم واسع من دول أوروبا التي لا تزال حتى اليوم تحاول، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، التكفير عن ماضيها الدموي تجاه اليهود، من مذابح القرون الوسطى إلى أفران الغاز النازية. هذا الدعم منح إسرائيل حصانة سياسية واقتصادية وعسكرية غير مسبوقة، وجعلها حقيقة واقعة في النظام الدولي.
بل إن الفلسطينيين أنفسهم، من خلال اتفاقيات أوسلو وغيرها، اعترفوا بإسرائيل كدولة ذات سيادة ضمن حدود ما قبل عام 1967، ومعظم الدول العربية والإسلامية اليوم ترتبط بعلاقات مباشرة أو غير مباشرة معها. فهل يبقى مجديًا أن ندفن رؤوسنا في الرمال، وأن نطالب بالقضاء على دولة يعترف بها العالم، ويقيم معها علاقاتٍ سياسية واقتصادية وأمنية؟
إن التمسك بالشعارات القديمة ورفض الاعتراف بالواقع لا يخدم القضية الفلسطينية، بل يطيل أمد معاناة الشعب الفلسطيني. فالقضية اليوم ليست في حاجة إلى خطابٍ تعبويٍّ عاطفي، بل إلى موقفٍ عقلاني واقعي يختار من الوسائل ما يحقق الممكن من الحقوق بأقل قدرٍ من الخسائر، ومن دون أن يتنازل عن المبدأ أو الهدف.
لقد علمنا التاريخ أن السلام ليس ضعفًا؛ بل هو ذروة القوة. وبعد الحرب العالمية الثانية، لم تُعاقَب الشعوب الألمانية واليابانية على جرائم قادتها؛ بل عوقب المسؤولون وحُوسبوا، ثم ساعد المجتمع الدولي تلك الشعوب على النهوض من رماد الحرب، حتى أصبحت ألمانيا واليابان نموذجين في التنمية والازدهار. الدرس هنا واضح: المحاسبة شيء، وبناء المستقبل شيء آخر.
إن استمرار الصراع المسلح لا يخدم إلّا المتطرفين في الجانبين؛ فالحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بقيادة نتنياهو وحلفائه، تستمد شرعيتها من استمرار التوتر والعداء، وتختنق كلما اقتربت فرص السلام.
السلام الحقيقي يُضعف دُعاة الكراهية في كل طرف؛ لأنه يُسقط ذرائعهم، ويعيد الإنسان إلى موقعه الطبيعي: باحثًا عن الأمن والحياة لا عن الموت والانتقام.
ومن هنا، فإنَّ المطلوب اليوم من الفلسطينيين والعرب هو التمسك بوسائل النضال السلمي، وتوحيد الصف الفلسطيني المنقسم على ذاته منذ سنوات طويلة؛ فالانقسام أضعف الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية، وسمح للخصوم بالتلاعب بأوراق الخلاف الداخلي. كما إن تحويل القضية إلى صراعٍ دينيٍّ لا يخدمها؛ بل يضرّ بها. القضية الفلسطينية ليست قضية إسلامية ضد اليهودية أو المسيحية؛ بل قضية شعبٍ يُطالب بحقوقه المشروعة وفق القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة. إدخال الدين في الصراع يمنح إسرائيل الفرصة لتصوير نفسها ضحيةً لـ«صراعٍ ديني»، فتستجلب دعم الصهاينة المسيحيين وتُحرّك مشاعر الغرب الدينية بدلًا من ضميره الإنساني.
القضية الفلسطينية أقوى من أن تُختزل في الشعارات أو الأيديولوجيات. إنها قضية أخلاقية وإنسانية وقانونية قبل أن تكون دينية. وكلما كان خطابها عقلانيًا، ازدادت مساحة التعاطف الدولي معها. لقد تغيّر العالم، ولم يعد الرأي العام يُستثار بالشعارات، بل يُقنع بالحقائق والبرهان والإنسانية المشتركة.
إن السلام، في جوهره، ليس تنازلًا عن الحق؛ بل وسيلةٌ لاستعادته. فالسلام الممكن خيرٌ من الحرب المستحيلة، والاتفاق الجزئي خيرٌ من القطيعة الشاملة، والحوار مهما طال خيرٌ من طلقة واحدة تُزهق بها الأرواح وتُدمر بها الأوطان.
ولا يعني ذلك القبول بالإملاءات أو التغاضي عن العدوان؛ بل اختيار الطريق الأكثر نجاعة لإنهاء المأساة. الطريق الذي يحفظ الدماء ويعيد الحقوق بوسائل القانون والسياسة، لا بالانتقام الذي يورّث الحقد جيلًا بعد جيل.
لقد جرّب العالم مرارة الحروب، ثم تعلّم أن السلام، مهما بدا صعبًا، هو الطريق الوحيد للحياة. أوروبا التي تقاتلت قرونًا، وحُرقت مدنها في الحربين العالميتين، أصبحت اليوم قارةً واحدة بلا حدود داخلية، لأن شعوبها أدركت أن الأمن الجماعي أهم من الكبرياء القومي. وكذلك يمكن للمنطقة العربية أن تنتقل من دوائر الصراع إلى فضاء التعايش إذا امتلكت الشجاعة للمصارحة والمصالحة.
إن السلام ليس خيارًا بين بدائل متعددة؛ بل هو البديل الوحيد المتبقي أمامنا جميعًا: الفلسطينيين، والعرب، والإسرائيليين، والعالم أجمع. فكل الطرق الأخرى تؤدي إلى مزيدٍ من الخراب وسفك الدماء.
وحين يصبح السلام ضرورةً لا خيارًا، علينا أن نمتلك الشجاعة للسير فيه، وأن نفهم أنه لا ينقص من كرامتنا؛ بل يضيف إلى إنسانيتنا، ويُمهّد لأجيالنا المقبلة طريقًا نحو حياةٍ تستحق أن تُعاش.