مشروع القرار الأميركي حول غزة، تكريس للهيمنة بوجه جديد بين الوصاية "الدولية" وتقويض السيادة الوطنية الفلسطينية
يأتي مشروع القرار الأميركي حول غزة امام مجلس الأمن في لحظة إقليمية دقيقة ، ليكشف عن محاولة جديدة لإعادة إنتاج الهيمنة والسيطرة على شعبنا الفلسطيني بصيغة أممية ناعمة ومختارة وفق مواصفات الولايات المتحدة ، تحت شعارات «الاستقرار والإعمار» ، في ظل صمت فلسطيني مقلق اعتمد الترحيب بخطة ترامب المفخخة منذ الاعلان عنها ، الامر الذي يعيد إلى الأذهان اتفاق أوسلو الذي تفاوتت الآراء حوله وما تلاه من تداعيات وصولاً الى ما نحن عليه اليوم ، بالإضافة الى التخوفات المرتبطة بعدم سقوط مشروع التهجير والتطهير الذي ما زالت دولة الأحتلال تسعى له بعد تقسيم قطاع غزة بخطوط ملونة كما كانت الضفة قد قًسمت الى مناطق ومعازل جغرافية .
حيث كشفت منصة «أكسيوس» وصحيفة «القدس» عن مسودة مشروع قرار أميركي تم تداوله بين عدد من أعضاء مجلس الأمن الدولي دون التمكن من معرفة مواقف كل الأعضاء حتى الان ، يتضمن إنشاء "قوة دولية مختارة " في غزة تتولى "تأمين الحدود" مع إسرائيل ومصر ، و"حماية المدنيين والممرات الإنسانية" ، وفق ما جاء من ادعاءات بالمسودة المذكورة ، إضافة إلى منح الولايات المتحدة والدول المشاركة تفويضا واسعا لحكم القطاع وتوفير الأمن حتى نهاية عام ٢٠٢٧ ، وفق ما جاء بالمسودة .
ويشير المشروع إلى أن هذه القوة ستكون "قوة إنفاذ" وليست قوة حفظ للسلام ، وأنها ستعمل على ضمان عملية نزع السلاح ومنع إعادة بناء البنية التحتية العسكرية في غزة بعض النظر عن نقاش ضروراتها أو تجاوزاتها وأخطائها ، رغم الحق الطبيعي في مقاومة المُحتل ، بالتنسيق مع ما يسمى بـ«مجلس السلام» الذي سيُنشأ لإدارة المرحلة المقبلة برئاسة ترامب وبادارة تنفيذية قد يترأسها طوني بلير أو غيره ، دون اي ضمانات في وقف جرائم الأحتلال .
-- بين إدارة دولية وولاية أميركية مقنعة .
من يقرأ تفاصيل المسودة يدرك أن واشنطن تسعى لتأسيس نظام وصاية جديد على غزة تحت غطاء «الاستقرار الإنساني» و«إعادة الإعمار». فالحديث عن تفويض دولي حتى عام ٢٠٢٧ يعني عمليا وضع القطاع تحت إدارة أجنبية مباشرة ، تحكمه قرارات أمنية واقتصادية وحتى تشريعية من خارج الإرادة الوطنية الفلسطينية ، دون أي أفق لحل سياسي يضمن السلام الحقيقي بإنهاء الأحتلال كجذر لكل المشاكل والانسحاب الكامل .
هذه الصيغة ليست إدارة انتقالية محايدة كما يُروج لها وربما لن تكون مؤقتة كذلك ، بل تجسيد لواقع الأحتلال بصيغة دولية أمريكية المنشأ ، تنزع عن شعبنا الفلسطيني حقه في تقرير مصيره وتفرغ قضيتنا الوطنية من جوهرها التحرري . فبدلاً من أن يكون الحل قائماً على إنهاء الأحتلال الإستعماري وتحقيق اقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة ومتواصلة جغرافيا وفق القرارات الأممية ، يُعاد إنتاج السيطرة بأدوات جديدة تحت شعار «السلام والتنمية» .
-- خطر تقويض المشروع الوطني .
الخطة المقترحة التي وصفناها بالمفخخة سابقا والتي لم تكن تستدعي الترحيب بها ، وما يرتبط بها من مسودة مشروع القرار اليوم ، رغم مظهرها الإنساني المزيف ، تمثل في جوهرها تقويضاً لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني ، وللوحدة الجغرافية والسياسية لأراضي الدولة ، التي تتولى الولاية عليها منظمة التحرير وفق القرارات الدولية والاتفاقيات . فهي تفصل غزة عن الضفة الغربية وتحولها إلى كيان خاضع لإدارة أمنية خارجية بإشراف أمريكي ، ما يمهد لواقع سياسي جديد ينسف فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة ذات السيادة ، مع خطورة انتقال النموذج ذاته لاحقا إلى الضفة الغربية بعد الواقع الديمغرافي بفعل التوسع الأستيطاني المستمر حتى اليوم وبتصاعد غير مسبوق .
كما أن الحديث عن «نزع السلاح» و«تدمير البنية العسكرية» ، رغم الضرورة بان يكون تحت سيطرة سلطة وحكومة الدولة الفلسطينية الواحدة ، دون أي التزام موازٍ بإنهاء الأحتلال ووقف جرائم الاعتداءات وضمان الحقوق الوطنية ، يجعل من غزة منطقة منزوعة السيادة ومفتوحة أمام النفوذ الإسرائيلي والأميركي بحجة الأمن والأستقرار .
-- استبدال الأحتلال بالوصاية .
المسودة الأميركية لمشروع القرار لا تبشّر بـ«سلام اقتصادي» كما يدّعي البعض ، بل بفرض الهيمنة الإستعمارية . إنها مشروع لإدارة الأزمة لا لحلها ، وإعادة إنتاج نظام السيطرة بأدوات دولية جديدة . وحتى لو شاركت فيها دول مثل قطر أو مصر أو تركيا لأسباب متعلقة بسياساتهم بالمنطقة وعلاقاتهم مع الأطراف المختلفة لأعتبارات عدة عقائدية ومصلحية ، فإن الدور الأميركي المهيمن سيحولها إلى أداة تنفيذ لرؤية واشنطن وتل أبيب ، لا إلى شراكة متكافئة .
التجارب السابقة بالعديد من الدول أظهرت أن أي إدارة خارجية بلا أفق سياسي وطني تتحول إلى بديل عن التحرر ، لا إلى طريق نحوه . غزة ليست بحاجة إلى مجلس وصاية جديد ، بل إلى إرادة دولية حقيقية لإنهاء الأحتلال ورفع الحصار وفتح الطريق أمام وحدة الأرض والشعب والقرار الفلسطيني .
-- من أوسلو إلى غزة ٢٠٢٧ ، تكرار للمأساة .
المشهد الحالي يعيد إلى الأذهان تجربة «أوسلو» وما ترتب عليها من أوهام الدولة بعد توقيع الاتفاقيات المؤقتة ، التي تحولت إلى إدارة شبه ذاتية دائمة بلا سيادة . المسودة الأميركية ليست إلا إعادة إنتاج لتلك الصيغة ، ولكن بغطاء أممي مُختار هذه المرة وبصمت إقليمي مريب .
وكما أدى أوسلو إلى تجزئة الأرض وإضعاف السلطة الوطنية وجعلها جهاز اداري ذاتي ، فإن هذا المشروع الأميركي سيؤدي إلى تجزئة غزة بخطوط ملونة وتحويلها إلى كيان منفصل تُدار شؤونه وفق شروط أمنية واقتصادية مفروضة ، بينما يُدفن مشروع الدولة الفلسطينية تحت رماد «الإعمار» و«الاستقرار».
إنها النسخة الأحدث من أشكال الاستعمار الحديث ، مشروع سرقة غزة ومواردها من الغاز والموارد بالمياه الإقليمية ، وابتزاز الفلسطينيين تحت وطأة الحاجة ، وخطوة على طريق مشروع «الريفييرا» الترامبي ، مع تكريس "دولة غزة المشوهة" وتبادل أدوار واضح بين ترامب ونتنياهو . وكما في الماضي ، يصبح المؤقت دائم ، وتُطمس قرارات الشرعية الدولية في ضجيج المبادرات الإنسانية المزعومة .
-- السيادة تبدأ بالكرامة لا بالوصاية.
ما نحتاجه نحن الفلسطينيون ليس سلطة مؤقتة تُدار من الخارج ، بل ضمان كرامة شعبنا وحقه في تقرير مصيره بنفسه . الحماية الحقيقية لا تأتي من جيوش أجنبية ، بل من العدالة السياسية ووقف العدوان وتمكين الشعب من بناء مؤسساته الوطنية بحرية .
أخطر ما في هذا المشروع أنه يحول المأساة إلى مختبر تجارب دولي ، ويختزل القضية الفلسطينية في ملف إداري وإنساني وأستثماري ، وبذلك تضيع البوصلة بين من يملك القرار ومن يُدار به .
-- نحو مشروع وطني جامع .
غزة لا تحتاج إلى ولاية جديدة أو مجلس وصاية ، فالولاية الجغرافية والسياسية عليها تعود لمنظمة التحرير وفق الإرادة الأممية ، بل إلى تحرر فعلي من الأحتلال كما تحتاج الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة ، وإلى مشروع وطني جامع يوحد الفلسطينيين على قاعدة المقاومة السياسية المتكاملة على اسس القانون الدولي والقرارات الأممية ، والبناء الوطني الشفاف والإجراءات الديمقراطية الأنتخابية .
أما تحويلها إلى منطقة تحت «إدارة استقرار» حتى عام ٢٠٢٧ ، فهو وصفة لتكريس الانقسام والسيطرة ، لا للسلام ولا الى الاستقرار او الازدهار ، رغم الحاجة الماسة لشعبنا في غزة الى ذلك تحديدا . من لا يرى في ذلك امتدادا للأحتلال بوسائل أكثر نعومة ، إنما يشارك بوعي أو بغير وعي في شرعنته .
ختاما فان مشروع القرار الأميركي المتوقع أمام مجلس الامن الدولي يكشف عن نية لتكريس الهيمنة والسيطرة على غزة ، بينما يبقى الموقف الرسمي الفلسطيني غائبا أو صامتاً ، ما يفاقم الأزمة ويضع مستقبل المشروع الوطني التحرري الفلسطيني على المحك الفعلي . غزة تحتاج إلى تحرر حقيقي ووحدة وطنية متكاملة كما الضفة الغربية وإلى استنهاض مؤسساتنا الوطنية وضرورات ارتقائها الى مستوى مسوؤلياتها الوطنية التاريخية امام ما يتهدد شعبنا ، وذلك بسرعة تشكيل حكومة توافق وطني وإعلان الدولة تحت الأحتلال وانتخاب برلمانها واستمرار عزل أسرائيل والدعوة الى مقاطعتها ومعاقبتها وإلى استمرار الانتفاضة الدولية الشعبية تضامنا مع قضيتنا التحررية العادلة ، لا إلى إدارة خارجية مؤقتة باسم «السلام والإعمار» او الى الصمت تجاه ما يجري.