قراءة في التحولات القادمة: الانتخابات الأميركية في ظل حرب غزة
استحقاق أخلاقي على أبواب صناديق الاقتراع
تتجه الولايات المتحدة نحو انتخابات عامة تُعدّ من أكثرها حساسية في العقود الأخيرة، في ظل حالة غير مسبوقة من المراجعة الأخلاقية. فالحرب على غزة، وما صاحبها من صورٍ مروّعة ومعاناة إنسانية متواصلة بثّتها وسائل الإعلام ومنصّات التواصل على مدار الساعة، كسرت الحاجز التقليدي الذي كان يحمي السياسات الأميركية تجاه إسرائيل من المساءلة الشعبية.
للمرة الأولى منذ عقود، أصبحت فلسطين جزءاً من الخطاب الأخلاقي والسياسي في الداخل الأميركي. وليس ذلك عبر القنوات الدبلوماسية الرسمية، بل من خلال تحولات اجتماعية وجيلية عميقة. من الجامعات إلى الشوارع، بدأ الأميركيون، وخصوصاً الشباب، يتساءلون عن التناقض بين خطاب بلادهم عن الحرية والديمقراطية وبين دعمها المستمر لاحتلالٍ وحصارٍ طال أمدهما. إنها ليست ثورة سياسية بعد، لكنها بالتأكيد تحوّل في الوعي.
تحوّلٌ جيليٌّ عميق: الشباب يرفعون الصوت
تُظهر استطلاعات مركز بيو للأبحاث (2024–2025) وغالوب (2025) وجود فجوةٍ جيليةٍ واسعة في الموقف من الصراع. ففقط 16 في المئة من الأميركيين دون الثلاثين يؤيدون تقديم دعمٍ عسكريٍّ غير مشروط لإسرائيل، بينما تؤيد الغالبية وقفاً فورياً لإطلاق النار ومساواةً في الحقوق بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أما بين الديمقراطيين، فقد أصبحت الفئة الشابة الأكثر انتقاداً لإسرائيل في تاريخ استطلاعات الحزب.
ولا يقتصر الأمر على الموقف الأخلاقي؛ فالشباب الأميركيون باتوا يرون في غزة امتداداً لواقع الظلم الاجتماعي داخل بلادهم — من العنصرية إلى أزمة السكن وتفاوت الفرص الاقتصادية. لقد تحوّر الشعار الذي رفعوه يوماً: «من فيرغسون إلى فلسطين»، من مجرد هتاف تضامني إلى رؤية سياسية متكاملة تُوحّد قضايا العدالة في الداخل والخارج.
تأثير مامداني: انتصار محلي ورسالة وطنية
يتجلّى هذا التحول الأخلاقي بشكل واضح في نجاح السياسي ظهران مامداني، عضو مجلس ولاية نيويورك، الذي خاض حملته الانتخابية على قاعدة العدالة للفلسطينيين والمساواة الاقتصادية وتمكين المجتمعات المحلية.
مثّل فوزه نموذجاً جديداً في العمل السياسي التقدمي، قائماً على التمويل الشعبي الصغير والتنظيم الميداني، بعيداً عن نفوذ المال التقليدي. جمع بين وضوحٍ أخلاقي في الموقف من غزة وبرنامجٍ ملموسٍ يعالج قضايا الإيجارات والمواصلات والتعليم في منطقته.
هذا الدمج بين الضمير الإنساني والسياسات المحلية الواقعية لم ينفّر الناخبين كما توقّع خصومه، بل أكسبه مصداقية لدى جيلٍ سئم الغموض السياسي. نجاحه ألهم مرشحين آخرين في شيكاغو، وسياتل، وبوسطن، ممن بدأوا يرون في الموقف الأخلاقي من فلسطين عنصراً من عناصر المصداقية السياسية، لا مغامرة انتخابية.
إعادة تموضع "إيباك": السلطة تواجه التحدي
لا تزال لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك – AIPAC) من أقوى اللوبيات في واشنطن، بقدرتها المالية والتنظيمية الهائلة. فقد أنفقت عام 2024 وحده أكثر من 25 مليون دولار في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، استهدفت خلالها مرشحين مؤيدين لوقف إطلاق النار في غزة.
إلا أن سطوتها بدأت تواجه تحدياتٍ غير مسبوقة. فأن تكون هدفاً لحملات إيباك لم يعد يُعدّ نهايةً سياسية كما في الماضي، بل أصبح عند البعض وسام شجاعةٍ وموقفٍ مبدئي. فقد نجحت الحركات القاعدية في موازنة قوة المال بنفوذ التنظيم الشعبي وجمع التبرعات الرقمية. وهكذا تآكلت الهيبة الأخلاقية لإيباك، حتى وإن بقي نفوذها المؤسسي قائماً.
إنه ليس انهياراً للوبي المؤيد لإسرائيل، لكنه إعادة توازن بين المال والتأثير الشعبي، وبين الصوت الأعلى والمؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، وجيلٍ جديدٍ لم يعد يخاف من "التابوهات" القديمة.
الديمقراطيون عند مفترق طرق
يقف الحزب الديمقراطي أمام امتحان هوية حقيقي. فبينما تلتزم قيادته بالمواقف التقليدية الداعمة لإسرائيل، يزداد ضغط القاعدة الشعبية — خصوصاً في المدن الكبرى وبين الأقليات — للمطالبة بإعادة تعريف الموقف الأخلاقي للحزب.
التوتر واضح: القادة يحرصون على عدم خسارة المناطق المتأرجحة التي لا تعبأ كثيراً بالسياسة الخارجية، في حين يرى الناخبون الشباب أن الصمت على غزة خيانة للقيم التي يرفعها الحزب نفسه.
ومن المرجّح أن نشهد تعديلاً تدريجياً في الخطاب أكثر من انقلابٍ كامل: لغة جديدة تتحدث عن "حقوق الإنسان" و"حماية المدنيين" و"المساواة في الكرامة"، تمهيداً لتفكيك الخطاب التقليدي الذي ميّز الموقف الأميركي منذ عقود.
جمهوريون أكثر يقيناً... لكن أقل انسجاماً مع المستقبل
أما الحزب الجمهوري فيواصل تمسّكه المطلق بإسرائيل، مستنداً إلى قاعدةٍ أيديولوجيةٍ وإنجيلية ترى في دعمها واجباً دينياً واستراتيجياً. يمنحه ذلك تماسكاً داخلياً، لكنه يُبعده عن الأجيال الشابة والمجتمعات المتعددة الثقافات التي بدأت تنظر إلى القضية الفلسطينية بعيونٍ أكثر إنسانيةٍ وشمولية.
إن وضوح الموقف الجمهوري يمنحه الاستقرار اللحظي، لكنه يجعله أيضاً يبدو وكأنه صوت الماضي في زمنٍ يتغيّر، حين يتحوّل الوعي الأخلاقي إلى معيارٍ سياسيٍّ جديد.
سيناريوهات محتملة (2026–2028)
السيناريو الوصف الاحتمال التقريبي
موجة تقدمية حضرية توسّع نموذج مامداني في 10–15 دائرة حضرية كبرى، مع صعود ممثلين جدد لخطاب العدالة. 40 %
توازن تعبئة مضادة احتفاظ إيباك والديمقراطيين الوسطيين بمواقعهم، مع انتصارات رمزية محدودة للتقدميين. 45 %
نقطة تحوّل جيلية ارتفاع غير مسبوق في مشاركة الشباب بالتصويت، ما يغيّر لغة الحزب الديمقراطي على المدى الطويل. 15 %
ورغم أن السيناريو الثاني يبدو الأقرب حالياً، فإن الانتصارات الرمزية — وإن بدت محدودة — قادرة على إعادة تشكيل الإطار الأخلاقي للخطاب السياسي الأميركي في المستقبل.
مؤشرات تستحق المتابعة
لرصد مدى تأثير قضية فلسطين في الانتخابات القادمة، يمكن التركيز على مؤشرات رئيسية:
1. نسبة تسجيل وتصويت الشباب، خصوصاً في الولايات التي تضم جامعات كبرى.
2. نتائج الانتخابات التمهيدية بين مرشحين تدعمهم إيباك وآخرين تقدميين.
3. اتجاهات التمويل الانتخابي، وخاصة نسبة التبرعات الصغيرة كمؤشر على الدعم الشعبي.
4. مكانة غزة في استطلاعات الرأي، وهل تبقى قضيةً مؤثرة بعد انحسار الحرب.
5. طبيعة التغطية الإعلامية، وتحليل المفردات المستخدمة حول “وقف إطلاق النار” و“الاحتلال” و“حقوق الفلسطينيين”.
هذه المعطيات مجتمعة ستكشف ما إذا كانت غزة مجرد شرارة أخلاقية مؤقتة، أم بداية تحولٍ دائمٍ في الوعي الأميركي.
فلسطين كمرآةٍ لأميركا
لن تحسم غزة نتائج الانتخابات الأميركية من حيث الأرقام، فالقضايا الاقتصادية والأمنية ستبقى الأهم. لكن فلسطين تحولت إلى مرآة يرى الأميركيون من خلالها صراعهم الداخلي بين الضمير والمصلحة، وبين الخطاب الأخلاقي والممارسة السياسية.
إنها تمتحن قدرة الدولة الأقوى في العالم على التوفيق بين خطابها القيمي وسلوكها العملي، وتختبر جيلاً جديداً لم يعد يقبل أن تكون حقوق الإنسان انتقائية.
فالسؤال الحقيقي في الانتخابات المقبلة ليس كم من المرشحين سيتحدث عن غزة، بل كم من الناخبين سيتصرف كما لو أن الحقيقة هناك تهمّه حقاً.