بعضٌ منه في ذكرى رحيله

2025-11-11 11:48:58

كانت حياته سلسلة من المآزق، منها ما كان مكرراً تعود عليه وتعايش مع مؤثراته، ومنها ما هو جديدٌ تماماً. لم يكن ليستأثر بقرارٍ سياسيٍ للخروج من مأزق أو يتخذه على عاتقه وحده. فلقد كان حريصاً على أن يكون القرآن من ضمن مستشاريه الأكثر تأثيراً. وكلما صار في حاجة ماسّة لرأي أو مشورة أو تشجيع، كان يجمع أكبر عدد ممكن من القادة وأهل الرأي، يستمع للكل، ويجادل حتى يتبلور التوجه والقرار. لم يكن ذلك يجري وفق ما يوصف عادة بالتزام مبدأي بالديمقراطية، وإنما كي يشرك معه أكبر عدد من الأشخاص والمفاتيح والقوى في تحمل ردود الفعل على القرار. وحين يكون الأمر صعباً أو ما يسمى عادة في المنابر الإعلامية مصيرياً ويحتاج إلى مبادرة، كان ينفق وقتاً طويلاً في إقناع من معه، ولا يطرح الأمر قبل أن يضمن غالبية كافية، لا توافق فقط، بل وتلتزم أيضاً بخوض المعركة المترتبة على القرار. ولم يحدث أن اتخذ قراراً سياسياً كبيراً، دون أن تكون قد سبقته معركة داخلية، ودون أن تترتب عليه فيما بعد معارك أكبر وأطول للدفاع عنه. كان يفعل ذلك كله كي يحيط نفسه وقراراته بسياجٍ من الحلفاء الفعالين. ومن ضمن طقوس اتخاذ القرار ما يعرف بالاستخارة.

كان يغادر الاجتماع إلى غرفةٍ مجاورة، يغمض عينيه ويفتح المصحف عشوائياً، ويقرأ. وحين تتجلى له أقرب آية لما هو فيه، كان يتخذ من الآية قرينة على أن ما اختاره وعزم عليه مُشجَّع من الله. كانت نكهة الإسلام ظاهرةً في كلامه وسلوكه وتقربه من الناس على مختلف مستوياتهم وحتى لغاتهم وجنسياتهم، وهو الذي ما حل في بلد إسلامي، إلا وكان الاستقبال الشعبي أكثر دفئاً وقوةً وحماسةً من الاستقبال الرسمي. ولقد وضع عرفات هذه الورقة الثمينة في رصيد قوته المعنوية، دون الاضطرار لدفع أثمانٍ خطرة لها.

ومن يقين انتمائه الإسلامي – ثقافياً وعقائدياً- (وليس سياسياً)، كره الاستخدام المتعنت للدين في السياسة. كان يقول: لو كان العالم كله إسلاميا لكان بديهياً أن يتخذ الصراع الداخلي منحى الخلاف الاجتهادي، في أمر تطبيق الشريعة وجعلها مصدر التحليل السياسي، وميزان الاتفاق والاختلاف. 

وكان يقول:" أمّا ونحن نعيش عالماً مختلطاً، يكتظ بالديانات والمعتقدات حتى الوثنية منها، فلنأخذ من الدين ما يساعدنا على التقدم نحو هدفنا".، ولنحاذر أن تفرز قوانا على أساسٍ ديني أو طائفي.

لقد مارس إسلاميته بانفتاحٍ حضاريٍ مشهودٍ له. طبّق هذا على نفسه، فاقترن بمسيحية، وعلى مكتبه، وثورته، وشعبه، وأمته. كان قلبه يتفتت ألماً كلما سمع بتفجير في مصر تحت عناوين إسلامية، ويتألم بالقدر ذاته حين يسمع ولو همسة عابرة تمس المسيحيين في مجتمعه وبلاده.. فهو الذي رأى على الدوام أن المسيحية الفلسطينية والعربية بريئة من آثام الحملات الصليبية. لم يستخدم مرة واحدة مفردة الصليبية، فالحملات التي الصقت بها هذه الصفة الدينية كانت كما يرى ويعتقد ويلتزم، حرباً استعمارية، يفضل هو وصفها بحرب الفرنجة.