في ذكرى ياسر عرفات، "فتح" بين الذاكرة وضرورة الأستنهاض والتجديد
يا أيها الماضي لا تُغيرنا كلما أبتعدنا عنك ، أقول ذلك في الذكرى الحادية والعشرين لرحيل القائد الرمز ياسر عرفات ، حين نستحضر الإرث ونقرأ الحاضر بعين الوعي والمسؤولية الوطنية . فلا تزال فلسطين تتلمس طريقها بين الحلم والخذلان ، بين الذاكرة التي تجمعنا حول رمزية القائد المؤسس ، والواقع الذي يضع حركة "فتح" أمام مراجعة نقدية جادة لهويتها وواقعها ودورها ومسوؤلياتها في قيادة مسيرة الكفاح الوطني التحرري ، على طريق تجديد هياكل الحركة الوطنية والنخب السياسية ونظامنا السياسي المتعثر .
لقد كانت "فتح" منذ انطلاقتها عام ٦٥ التعبير الأصدق عن إرادة الفلسطينيين في التحرر بهوية مستقلة بعيدا عن الوصاية ، إذ نقلت القضية من ظلال النكبة والشتات إلى ميادين الثورة والأعتراف الدولي بالكيانية الوطنية ، وأعادت بناء الهوية الفلسطينية المستقلة على قاعدة النضال السياسي والمقاومة واستقلالية القرار . فمن خلال مسيرة طويلة من الكفاح ، قادت "فتح" المشروع الوطني التحرري إلى جانب فصائل وقوى العمل الوطني الأخرى ، وكرست حضور الشعب الفلسطيني كفاعل صاحب هوية سياسية وسردية تاريخية ، لا كلاجئ في المنافي بل كصاحب حقوق غير قابلة للتصرف . هذا الدور التأسيسي هو ما يمنح اليوم مسؤولية مضاعفة للحفاظ على جوهر الحركة الثوري وتجديده بروح المرحلة ومتغيراتها .
إن إعادة استنهاض "فتح" تتطلب توازناً بين المسارين الفكري السياسي والتنظيمي ، فلا يمكن للنهوض أن يتحقق دون رؤية سياسية واضحة وموحدة تُعيد تعريف دور "فتح" كحركة تحرر وطني ووضوح المشروع التحرري ، ولا دون إصلاح بنيوي يُفعل الأطر القاعدية والقيادية ويُنهي حالة التردد السياسي والتشظي الحركي .
وفي هذا السياق ، تبرز ضرورة أن تستعيد "فتح" دورها في بلورة استراتيجية وطنية جامعة تتعامل مع تعقيدات المرحلة الراهنة خاصة بعد تداعيات عدوان الإبادة الجماعية والمحارق بحق شعبنا في غزة ، الى جانب تصاعد مشروع تفكيك السلطة الوطنية وفرض السيادة الإسرائيلية ومخططات التهجير القائمة ، وبالتالي تقويض اي مشروع يقوم على فكرة السلام وحل الدولتين ، خاصة مع ما يجري اليوم من محاولات إعادة صياغة وهندسة الواقع الفلسطيني عبر اعادة مشاريع الوصاية الإقليمية والدولية بخطط أمريكية تُستبدل فيها مفاهيم القانون الدولي والقرارات الأممية والسيادية الفلسطينية .
لقد كان ياسر عرفات يُدرك أن التحرر لا يقوم على الشعارات ولا على أستجداء المواقف ، بل على الوعي والمعرفة والإرادة السياسية الجريئة ، بل وعلى فرض المواقف . واليوم ، فإن أي استنهاض للحركة لا يمكن أن يكون شكلياً أو انتخابياً محدوداً ، بل يجب أن يكون أستنهاضاً جذرياً يُعيد الثقة بين القيادة وقواعدها الشعبية ويجدد الفكر الوطني التحرري بشأن طبيعة العلاقة مع السلطة الوطنية التي كان مفترض ان تكون طريقا للدولة ، ودورها وأدائها من جهة ودور "فتح" فيها ، ومع طبيعة ومفهوم وادوات الصراع مع مكونات الأحتلال الأستعماري من جهة أخرى ، ومع مكونات النظام العربي من جهة ثالثة ، اضافة الى فهم تناقضات النظام الدولي ومتغيراته التي نعيشها اليوم من جهة رابعة . كما واهمية وضرورات وضوح الرؤية والبرنامج الإجتماعي والإقتصادي "لفتح"، وتحديداً بشأن قضايا التنمية والاقتصاد المقاوم وايجاد فرص العمل والعدالة الإجتماعية وواقع الشباب والمرأة والأسرى وعائلات الشهداء والفئات المهمشة ، كما وقضايا فصل السلطات والرقابة في ظل أستمرار تحديات الأحتلال وتبعاته على قضايا مجتمعنا بكل القطاعات .
لقد أثبتت التجربة أن "فتح" حين كانت أقرب إلى نبض الجماهير وأبعد عن البيروقراطية بمفهوم حزب السلطة في ادوارها الإدارية والأمنية ، كانت أكثر قدرة على إبداع أدواتها في الميدان والسياسة معاً . فهي الحركة التي جمعت بين كل اشكال المقاومة والكفاح الوطني ، بين الوطنية الفلسطينية والانتماء القومي ، واستطاعت أن تبقي القضية في صدارة الوعي الإنساني كجزء منه رغم كل التحولات .
ومن هنا ، فإن أي محاولة لحصر دور "فتح" إلى مجرد إطار إداري أو كمكون ضمن هياكل معادلة السلطة فقط ، هي إلغاء لجوهرها التاريخي ومعناها الثوري ، وإفراغ لدورها الذي حمله عرفات ورفاقه المؤسسين في ميادين الثورة والشتات ، وفي بناء الكيانية الوطنية الفلسطينية الحديثة كطريق للدولة ذات السيادة .
إن المؤتمر العام الثامن لحركة "فتح"، الذي يتوجب ان يعُقد بالسرعة الممكنة وفق مدخلات شفافة ونقاش حقيقي وجاد حول كافة الأوراق التي يجب اعدادها ، يمكن أن يشكل لحظة استنهاض حقيقية لمخرجات جادة وتجديدا للهياكل ، حين يتسم بواقع وشروط مؤتمر لحركة تحرر وطني تناضل من أجل دحر الأحتلال الأستيطاني وتجسيد حق تقرير المصير وحل قضية اللاجئين ، لا أجتماعاً صورياً أو انتخابياً فقط أو مؤتمراً لحزب ليبرالي كما يريده البعض أن يكون . وأن يُقدم المؤتمر الثامن رؤية سياسية فكرية وتنظيمية تواكب متطلبات المرحلة بعيداً عن مصالح مراكز النفوذ والإملاءات الخارجية في ظل المتغيرات المتسارعة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية التي يتوجب قراءتها بعناية ، وفهم أدوار كافة اللاعبين والتموضعات الجارية فيها وموقعنا نحن منها ، وتحديداً مع القوى الدولية الصاعدة والجنوب العالمي ، بالإضافة إلى تصاعد حراك الشعوب العالمي غير المسبوق في مواجهة السياسات الأمريكية والتضامن مع قضية وكفاح شعبنا الوطني باعتبارها قضية تحرر إنساني أصبحت جزءاً من مطالب الحقوق المدنية والديمقراطية لدى القوى التقدمية حول العالم ، التي يتوجب أن تكون "فتح" جزءاً منها كأمتداد لحركات التحرر العالمية ، خاصة وأننا من آخر حركات التحرر التي لم تنجز الإستقلال الوطني بعد .
لقد أثبتت التجارب أن تأجيل المؤتمرات سابقاً أو التحكم بمخرجاتها قد خدم التوازنات القائمة أكثر مما خدم التجديد والأستنهاض المطلوب وتجديد القيادات في اطار وحدة الحركة . لكن المرحلة الراهنة ، في ظل مشاريع محاولات إعادة هندسة المنطقة من خلال مشروع الشرق أوسط الجديد ، وفرض وقائع مشروع أسرائيل الكبرى الإستعماري على الأرض بإقامة المعازل الجغرافية من خلال مشروع الكانتونات لتقويض اسس تجسيد الدولة المستقلة . كل ذلك يفترض مراجعة داخلية عميقة تبني على الانجازات الوطنية والتجارب الناجحة بالعمل الجماهيري ، وتحدد الرؤية السياسية وتُعيد الإعتبار للحركة ودورها في تعريف وقيادة المشروع الوطني التحرري وتعزيز اسس المقاومة الشعبية والسياسية والقانونية وفي استمرار عزل دولة الأحتلال ومقاطعتها ومقاضاتها على كافة الجرائم المرتكبة بحق شعبنا ، خاصة مع ثبات تصاعد التناقض الوجودي مع الحركة الصهيونية الذي ترى به أساساً لاستمرار وجودها على حساب حقوق شعبنا .
إن استعادة "فتح" لمكانتها التاريخية لا تمر فقط عبر أستذكار الزعيم المؤسس ياسر عرفات ، الذي لم تتضح نتائج أعمال لجنة التحقيق بشأن أستشهاده بعد كل تلك الفترة ، بل عبر إعادة ترجمة إرثه إلى فعل سياسي واقعي ، استنهاض بمنهج ديمقراطي شفاف ، محاربة اشكال الفساد والتفرد والاستقواء ، وضمان وحدة "فتح" وأستقلال قرارها الوطني بعيدا عن التبعية . فإعادة بناء "فتح" ليست شأناً تنظيمياً داخلياً فقط ، بل أستحقاقاً وطنياً يحدد مسار ومستقبل القضية الفلسطينية بأسرها ، ويعيد الإعتبار لمنظمة التحرير كإطار جبهوي وطني جامع وقيادة موحدة فاعلة للشعب الفلسطيني وفق أستحقاق الشرعية الأنتخابية بعد أفول مرحلة الشرعيات الثورية .
في حضرة الغياب ، لا تُقال الكلمات عبثاً ، فغياب ياسر عرفات ليس غياب جسد ، بل أختبار دائم للوعي والإرادة . وكما قال في أيامه الأخيرة التي راقبها العالم في زمن حصاره الأليم واللئيم :
"يريدونني أسيراً أو طريداً أو قتيلاً ، وأنا أقول لهم ، شهيداً شهيداً شهيداً ."
وها هي "فتح" اليوم أمام الأختبار ذاته ، إما أن تستنهض نفسها وتبقى على عهد الشهداء ، أو تفقد ما تبقى من معنى لمحاربة اشكال الترهل فيها والذي جعلها اقرب الى حركة هُلامية أو قبيلة . وهي بالتأكيد قادرة على ذلك اذا توفرت ارادة المخلصين فيها وكل الوطنيين ، فمسار التاريخ لا يتوقف ولا يقبل بحالة الفراغ.