المعلم الفلسطيني: مهندس الوعي في زمن التجهيل المقصود
في جلسة جمعتني برئيس اتحاد المعلمين وعدد من الإخوة المهتمين بالشأن الوطني، قال أحدهم جملة ظلّت عالقة في ذهني: "نحن نُخرّج جيلاً يعرف القراءة، لكنه لا يعرف لماذا يقرأ." كانت تلك العبارة كاشفة لجوهر الأزمة التي يعيشها التعليم الفلسطيني اليوم؛ أزمة ليست في تعطّل المدارس أو تقليص أيام الدوام إلى ثلاثة فقط، بل في عمق الوعي ذاته، في تراجع الحس الوطني، وفي تحوّل التعليم من فعلٍ تحرري مقاوم إلى أداءٍ إداري جامدٍ يفتقر إلى الرسالة والروح.
المعلم الفلسطيني ليس موظفاً يؤدي واجبه ثم يغادر، بل هو فاعل وطني يقف على خط النار بين وعي الأمة ومحاولات طمسه. يعمل في بيئة قسرية خانقة تتشابك فيها خيوط الاحتلال والضغوط الاقتصادية والانقسامات السياسية، ومع ذلك يبقى دوره أكبر من أي وظيفة. فهو لا يدرّس فقط ليُنجز المنهاج، بل ليحمي ذاكرة الوطن وضميره الجمعي. حين يفقد المعلم حسه الوطني يصبح الصف مساحةً باردة بلا روح، وحين يستعيد وعيه برسالته يتحول إلى مختبر للكرامة، وإلى جبهة صامتة للمقاومة. المدرسة الفلسطينية ليست جداراً للفصل، بل جسرٌ نحو وعيٍ جديد، وهي ليست مكاناً لتكديس المعلومات، بل فضاءً لبناء الإنسان القادر على النقد والتغيير والانتماء.
ولذلك فإن المطلوب من المعلم الفلسطيني اليوم أن لا يكون حيادياً. الحياد في زمن القهر خيانة للرسالة، والسكوت عن تجهيل الجيل مشاركة في الجريمة. لا يجوز أن يكتفي المعلم بدور المراقب حين يُختزل التعليم إلى ثلاثة أيام شكلية لا تمنح الطالب إلا فتاتاً من المعرفة. يجب أن يصرّ على أداء دوره، حتى لو لم يتقاضَ راتبه، لأن أبناء هذا الوطن هم أبناؤه، وكرامته من كرامتهم، ومستقبلهم من مستقبله. المعلم الذي يرضى بأن يرى طلابه يتسربون من الوعي قبل أن يتسربوا من المدرسة، إنما يشارك دون قصد في مشروع الاحتلال الأخطر: مشروع التجهيل. فالمعلم ليس موظفاً في جهازٍ حكومي، بل حاملُ رسالةٍ وطنيةٍ مقدسة، تُقاس قيمته بقدر صموده لا بقدر ما يتقاضاه من أجر.
لقد أكدت النظريات التربوية الكبرى أن التعليم ليس حيادياً ولا يمكن فصله عن قضايا الحرية والعدالة. فـباولو فريري، في نظريته النقدية، يرى أن التعليم فعل تحررٍ من القهر لا أداة لترويض الوعي، وأن المعلم الحقيقي هو من يخلق حواراً حياً يحرر العقل لا من يملأ دفاتر الإجابة. بياجيه وبرونر يريان أن المعرفة تُبنى من التجربة، والمعلم الفلسطيني يعيش التجربة اليومية للقهر، وعليه أن يحوّلها إلى مادة للتفكير لا إلى عذرٍ للعجز. أما ميزيرو فيؤكد أن التعلم الحقيقي هو ما يغيّر نظرة الإنسان إلى ذاته والعالم، والمعلم الفلسطيني مسؤول عن تحويل طلابه من ضحايا الواقع إلى فاعلين في تغييره. فيغوتسكي يربط التعلم بالثقافة والمجتمع، وفي السياق الفلسطيني يصبح الصف ساحة لبناء ثقافة المقاومة المشتركة. أما روجرز وماسلو، فيرون أن التعليم فعل إنساني يحقق الذات، ولا ذات يمكن أن تتحقق في فلسطين دون وعي الانتماء والكرامة.
ومن بين التجارب التي تضيء الوعي التربوي الفلسطيني تبرز تجربة الحركة الأسيرة، التي حولت السجن إلى جامعة والقيود إلى دفاتر. هناك، في العتمة، وُلد التعليم من رحم القهر، وجسّد الأسرى عملياً فلسفة فريري في التعليم التحرري، وميزيرو في التعليم التحويلي. لم يكن التعليم لديهم ترفاً، بل وسيلة بقاءٍ ومقاومةٍ في آن واحد. والأهم أن هؤلاء الأسرى لم يتقاضوا راتباً، ولم يبحثوا عنه، ولم ينتظروا مكافأة، بل كان واجبهم الوطني هو الذي دفعهم لتأسيس مدارس وجامعات ومناهج داخل المعتقلات. نظموا الصفوف، وضعوا المناهج، علّم بعضهم بعضاً، وحوّلوا الزنزانة إلى فصلٍ معرفيٍّ حيّ، لأنهم أدركوا أن الجهل أخطر من القيد، وأن الوعي هو الشكل الأسمى للحرية. لقد علّموا الأسرى الآخرين، وصنعوا من التعليم رسالة جماعية تُغذّي الصمود وتُحافظ على الإنسان من الذوبان في العتمة. تلك التجربة تُلهم كل معلم فلسطيني اليوم بأن التعليم في البيئات القسرية ليس مهمة مستحيلة، بل فعل مقاومة يثبت أن من يتعلم في القيد يستطيع أن يحرر ذاته ومجتمعه من كل قيود أخرى.
إن التعليم الفلسطيني يعيش اليوم في بيئة قسرية مفتوحة، تتداخل فيها السياسة مع الاقتصاد، والانقسام مع الاحتلال، لكن قدرته على الصمود والابتكار ما زالت حيّة. فحين يذهب الطالب إلى مدرسته عبر الحواجز، وحين يصرّ المعلم على أداء واجبه رغم تأخر راتبه أو دمار مدرسته، يصبح التعليم فعلاً وطنياً بامتياز. لذلك، لا يجوز أن نسمح بتآكل هذه الجبهة الأخيرة. إن إنقاذ التعليم لا يكون بقراراتٍ إداريةٍ أو مناهج جديدة، بل بإعادة تعريف دور المعلم باعتباره مهندس الوعي وحارس المعنى.
ولتحقيق ذلك، لا بد من مشروع تربوي وطني جديد يعيد للتعليم الفلسطيني روحه التحررية. يجب دمج تجربة الحركة الأسيرة في المناهج الدراسية كنموذج للصمود، وإطلاق برنامج وطني لتدريب المعلمين على فلسفة التعليم التحرري المستندة إلى النظريات النقدية والتحويلية. كما يجب إعادة صياغة مادة التربية الوطنية لتصبح ممارسة حياتية داخل الصف والمجتمع، وتمكين المعلم ماديًا ونفسيًا ليبقى ثابتًا في رسالته، وإنشاء وحدة وطنية تُعنى بالتعليم في الأزمات والبيئات القسرية، تتولى تطوير أدوات مواجهة الطوارئ والعدوان. وقبل كل ذلك، يجب ترسيخ علاقة عضوية بين المدرسة والمجتمع، لأن التعليم الفلسطيني لا يمكن أن ينهض ما لم يصبح مسؤولية وطنية جامعة لا مهمة وزارة فحسب.
إن المعلم الفلسطيني اليوم هو ضمير الوطن وسياجه الأخير، الصوت الذي يذكّر بأن التعليم ليس حيادياً ولا محايداً في معركة الوعي، وأن الصمت في وجه الجهل خيانة للكرامة. هو الذي يحوّل الدرس إلى فعل مقاوم، والصف إلى مساحة حرية، والكلمة إلى سلاح ضد النسيان. في زمنٍ يُختزل فيه التعليم إلى أرقام وشهادات، يبقى هو الشاهد على أن الوعي لا يُقاس بالعلامات بل بالقدرة على الفهم والصمود والاختيار. فإذا خبا وعي المعلم خبا الوطن معه، وإذا نهض بكرامته ووعيه، نهضت معه فلسطين كلها - من الطفولة إلى الذاكرة، ومن الصف إلى الوطن.