ماذا بقي من الإسلام السياسي؟
من المستبعد أن يغري نموذج "طالبان" أي مجموعة بشرية خارج أفغانستان. ومعظمنا يشعر بالأسى على أولئك الذين تحكمهم شريعة طالبان، خصوصاً النساء منهم.
وبعد 46 عاماً على وصول الخميني إلى حكم إيران، يبدو الفشل التاريخي لنموذج "الجمهورية الإسلامية" بائناً، بغض النظر عن بقاء النظام نفسه. فسلطة الملالي لم تقدم بديلاً مغرياً عن أنماط الحكم المعروفة، بل وذهبت في منحى تسلطي قمعي، شهدنا الكثير من فصوله في الانتفاضات العديدة للشبان والشابات في المدن الإيرانية. الفشل يبدأ من قوانين اللباس إلى خطط التنمية ومكافحة الفساد ولا ينتهي بـ"تصدير الثورة". وهذه الأخيرة، كانت أسوأ ما أصاب الدول المجاورة من فتن وحروب أهلية وميليشيات قاتلة وتخلفاً حضارياً من الصعب تعويضه. نظام سمته البارزة هي شيخوخته وينتمي فعلياً إلى الماضي.
عدا أفغانستان وإيران، كدولتين يحكمهما "إسلام سياسي" قائم على أيديولوجيا أصولية أو سلفية، شهدنا حركات منبثقة من البئر الفكري نفسه، كتنظيم القاعدة الذي لم يقدم للمسلمين وللعالم سوى سفك الدماء والرعب. إرث هذا التنظيم الذي جنّد شباناً من مختلف أنحاء العالم، لا يختصر بـ"غزوة" نيويورك التي دفع ثمنها ملايين العرب والمسلمين وما زالوا. فمن جوف "القاعدة" ولدت الوحشية العدمية المسماة "داعش"، كذروة تعبيرية للإسلام السياسي بشقيه الجهادي المسلح والفقهي المعادي للعقل وللبشر.
دولة الخلافة التي أنشأها داعش على أجزاء واسعة من العراق وسوريا، كانت خير تعبير عن تأسيس جهنم على الأرض. وأظهرت أن مخيلة هذا النوع من الإسلام السياسي، مستلهمة من ثقافة تراثية لا ترى التاريخ إلا بوصفه مسلسل قطع رؤوس وإبادات. وهذا ما يستدعي الكثير من المراجعات للسرديات الإسلامية وفقهها القروسطي.
بالطبع، لا نغفل عن السلفية الجهادية في جزائر التسعينات، حيث تناوبت هي والعسكريتارية الحاكمة بتسطير "العشرية السوداء"، الكثيرة الملاحم والمجازر والقتل العشوائي. كذلك حركة بوكو حرام، التي اشتهرت خصوصاً في سبي النساء والمراهقات واغتصابهن.
مع ذلك، هناك حركات إسلام سياسي لا تتوافق مع القاعدة أو طالبان أو داعش ولا مع الخمينية، رغم صلة النسب والقرابة وبعض "الإرث" المشترك. أهمها، حركة الإخوان المسلمين بنسخها المتعددة. إذ هي كانت نواة الصلبة والقاعدة الواسعة في ثورات الربيع العربي، خصوصاً في مصر وليبيا وسوريا. وإذ نجحت ديموقراطياً في الوصول إلى السلطة في مصر، إلا أنها سرعان ما أظهرت برنامجاً صدامياً مع المجتمع ومع "الدولة العميقة"، وفقراً مدقعاً في المخيلة السياسية، ما سرّع فشلها وسقوطها. أكثر من 80 عاماً من "نضال" الإخوان المسلمين في مصر أفضى إلى سنة حكم بائسة، كانت فيه مطاردة الراقصات أولوية تعلو على إنقاذ الاقتصاد، مثلاً.
حركتان بالغتا الأهمية في صنع الأحداث بالشرق الأوسط، تنتميان إلى "الإسلام السياسي" وعلى تحالف عملي وموضوعي، هما حركة حماس وحزب الله. وسيرتهما تختلف كثيراً عن تنظيمات وميليشيات إسلامية جهادية كالتي ذكرنا بعضها أعلاه، وإن لم تبتعدا عن أساليب العنف والترهيب والاغتيالات، أو التسلط على المجتمع وفرض رؤيتهما الدينية عليه، أو الانغماس في ما يشبه الحروب الأهلية. لكن الحركتين استمدتا تمايزهما و"شرعيتهما" من واقع انخراطهما في مقاومة وطنية الطابع أو العنوان ضد الاحتلال.
وتلك المقاومة التي منحت السلاح شرعيته، ظلت باستمرار مقرونة بشقاق أهلي ووطني فاقمه السلاح نفسه الذي ظل من دون مشروع سياسي جامع أو محل توافق. ففي الحالة الفلسطينية، توطد انقسام عميق بين غزة والضفة، بين منظمة التحرير (والسلطة الفلسطينية) وحماس إلى حد الخصومة التامة. كما أن حكم غزة وإدارتها لم يقدم أي نموذج مغرٍ لعموم الفلسطينيين، خصوصاً بغياب أي رؤية واقعية لنهاية الصراع مع إسرائيل، أو لنهاية النزاع المرير مع منظمة التحرير، وهذا عدا عن الارتباط بأجندة إيرانية ليست دوماً لصالح الفلسطينيين، بل ومؤذية في أحيان كثيرة.
أما حزب الله، فسيرته من جنوب لبنان إلى الأرجنتين، ومن ضواحي حلب إلى صنعاء.. ومن وسط بيروت إلى بانكوك وكاراكاس. سيرة تحتل فيها "المقاومة" شطراً وازناً، لكن شطوراً أخرى لا علاقة لها بمقاومة احتلال. وحقبة تحكمه بلبنان على مدى ربع قرن، هي باختصار حقبة الكوارث والإفلاس والانحطاط السياسي والأخلاقي وانهيار الدولة.
لسنا ندري بعد مآل "الإسلام السياسي" الجهادي الذي يحمله أحمد الشرع في سوريا، وإذا كان سيكمل تحولاته وإلى أي اتجاه. لكننا واثقون أن ما بقي من كل الإسلام السياسي الجهادي تركةٌ لا يود أحد وراثتها.