تحقيق استقصائي: الضفة الغربية تغرق بزيت الزيتون المغشوش

2025-11-16 09:25:42

الخلط بالزيوت النباتية ما زال أبسط أشكال الغش، لكن الأخطر هو التكرير والغش المتقدم

منع الاستيراد الرسمي لم يمنع تدفق الزيت المهرب من إسرائيل وسوريا

تحقيق فراس الطويل

خاص بآفاق البيئة والتنمية 

ما بدأ كتجربة بسيطة لشراء زيت من تاجر يروّج عبر "فيسبوك"، انتهى بكشف طبقات من الغش تتراوح بين الخلط بزيوت نباتية وبين معالجات كيميائية متقنة، وصولاً إلى تسويق زيوت رديئة غير صالحة للبشر ومخصصة للاستخدام الصناعي، لا تكتشفها الفحوص التقليدية. لا تملك كل العائلات المقدرة على الذهاب نحو فحوص متقدمة مكلفة، فتقع ضحية زيت فقد فوائده الصحية، وربما أصبح ضاراً مع مرور الوقت. النتائج التي كشفتها المختبرات لا تفضح تاجراً بعينه، إنما تشير إلى خلل مؤسسي في نظام الفحص والرقابة الرسمي. فشهادات "المطابقة" الصادرة عن وزارة الزراعة، تحولت إلى جسرٍ يمرّ عبره الغش بغطاء رسمي إلى الموائد الفلسطينية. وما لم يُعاد النظر جذرياً في أدوات الفحص ومعايير الاعتماد والرقابة، سيبقى زيت الزيتون الفلسطيني عرضة للتشويه، وسيظل المستهلك يدفع الثمن من صحته وثقته وذاكرته المتجذّرة في طعم الزيت النقي.


في موسم زراعي هو الأسوأ منذ عام 2009، تشهد أسواق الضفة الغربية فيضاناً غامضاً من زيت الزيتون، يُباع بأسعار لا تتفق مع المنطق الاقتصادي لندرة الإنتاج. هذا التحقيق يتتبع خيوط الغش من إعلانات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى المختبرات، كاشفاً عن عمليات احتيال متطورة تجاوزت الغش البسيط، لترقى إلى "صناعة" تهدف إلى الربح، وخداع المستهلك والرقابة، عبر طرق لا تكشفها الفحوص التقليدية.

الشكوك بدأت تتراكم مع أول أيام الموسم. بينما كانت أسعار إنتاج العام الماضي الوفير (27 ألف طن) لا تقل عن 30 شيكلاً للكيلو في بداية الموسم، غرقت صفحات التواصل الاجتماعي بعروض لزيت "شمال الضفة" بأسعار تتراوح بين 22 و25 شيكلاً. 

على أي أساس؟ هذا السؤال قادنا إلى الغوص في عالم الغش.

"على عينك يا تاجر"

كانت البداية مع تاجر ينشط في الخليل يروج لـ "زيت زيتون" من إنتاج عام 2024. تواصلنا معه لطلب "تنكة" زيت: 350 شيكلاً، غير شاملة التوصيل. التاجر، الذي ادعى أن الزيت "شمالي"، أي أن مصدره محافظة جنين في شمال الضفة الغربية، كان واثقاً لدرجة أنه قال: "افحص قبل ما تدفع". لكنه وضع حدوداً لهذا الفحص؛ فبإمكاننا التذوق أو المشاهدة، أما الفحص المخبري، فيتطلب الحضور إلى الخليل وأخذ عينة: "وإذا بدك 3 تنكات بحسبهم ألف شيكل". 

اشتريت التنكة عبر شركة للتوصيل (مقرها الرام شمال القدس) وتوجهت بها من رام الله إلى مختبر وزارة الزراعة بنابلس في اليوم التالي. النتيجة لم تتأخر: العينة غير مطابقة، مغشوشة بخلطها بزيت نباتي. الغش هنا كان تقليدياً لكنه مؤكَّد. 


مطابق للمواصفة: فحص الزيت المشترى من الخليل في مختبر وزارة الزراعة بنابلس

تحركت موظفة المختبر لإبلاغ مديرية زراعة الخليل لاتخاذ الإجراءات، لكن الرد جاء صادماً: التاجر معروف، لكن يتعذر متابعته لأنه يقيم في المنطقة (H2) بالخليل؛ نقطة جغرافية خارج سيطرة السلطة الفلسطينية، ما يضع عقبة أمنية مباشرة أمام تطبيق القانون. وكشفت عمليات البحث أن هذا التاجر يملك "مشغلاً مرخصاً لتقديم "الخدمات المهنية والاستشارية/ الدعاية والإعلان" في المنطقة الصناعية بالخليل، دون أي إشارة إلى تجارة الزيت.

إلى نابلس.. "غش" أكثر تعقيداً

لم يتوقف التحقيق. انتقلنا إلى تاجر آخر ينشط في قرية قريبة من نابلس، يروّج لزيت زيتون وأجبان. في صبيحة خريفية، وصلتُ إلى محله. التاجر رحب بي بحذر، ثم قال إنه غير مخوَّل بالبيع اليوم لأن الضابطة الجمركية سحبت منه عينات، ولن يبيع إلا بعد صدور النتائج. ثم تراجع قائلاً: "كرمال جيتك من خارج نابلس، بعطيك تنكة واحدة فقط".

لم تمضِ دقائق حتى أطلعني على نتيجة فحص مخبري صادر عن الوزارة: "مطابق للمواصفة الفلسطينية". دفعتُ 375 شيكلاً، وطلبت منه وصل دفع أو فاتورة، فرفض قائلاً: "لا يوجد عندي. السوق كله يعرف أن سعرها 400 شيكل". ولتوثيق العملية، طلبنا منه تسجيلًا صوتيًا يثبت استلام المبلغ، وهو ما تم على الفور.


فحص مخبري زودنا به التاجر صادر عن مختبر وزارة الزراعة في نابلس (نتيجة مطابقة للمواصفة)

أخضعت عينات من هذا الزيت الذي قال التاجر إنه من إنتاج الموسم الماضي، لفحصين في مختبرات الوزارة بنابلس ورام الله، وكانت النتيجة واحدة: مطابق للمواصفة. لكن التناقض بدأ يظهر. فحص الحموضة والبروكسيد -رغم أنه ضمن الحدود المسموح بها- أظهر تفاوتاً بسيطاً بين العينتين في مختبري نابلس ورام الله، ما أيقظ الشك لدينا. بالإضافة إلى أن تاجراً مطلعاً فضّل عدم كشف هويته، أكد لنا أن الزيت المروج بهذه الأسعار "لا يمكن أن يكون زيت زيتون خالصاً".

تعتمد فحوصات الجودة الروتينية التي تجريها مختبرات وزارة الزراعة الفلسطينية بشكل أساسي على فحص ثلاثة عناصر في الزيت: الحموضة، و رقم البيروكسيد، و الكشف عن الخلط (الغش). هذه الفحوصات، على أهميتها، تقيّم الجودة الأولية للزيت وسلامته الأساسية، ولكنها تظل قاصرة عن كشف مؤشرات التدهور المتقدم أو عمليات المعالجة الخفية. علما أن تكلفة هذا الفحص تبلغ 29 شيكلاً للعينة الواحدة. 

فحص الزيت الذي اشتريناه من إحدى قرى نابلس في مختبري الوزارة بنابلس ورام الله (النتيجة مطابقة، مع اختلاف بسيط في مؤشري الحموضة والبروكسيد بين الفحصين)

ما عزز قرارنا بالانتقال إلى مستوى فحص أعمق هو ما أفاد به خبير في قطاع الزيت: "الخلط لم يعد يقتصر على الزيوت النباتية الرخيصة. الأمر بات صناعة متقدمة للغش، تعتمد على طرق لا يمكن للفحوص البدائية كشفها".

أخذنا عينة من زيت نابلس الذي ظهر مطابقاً للمواصفة الفلسطينية (من خلال فحوص مختبرات وزارة الزراعة)، إلى مختبرات جامعة بيرزيت، وطلبنا فحوصاً متقدمة تتجاوز الطريقة البسيطة المعتمدة لدى الزراعة.

وبالفعل، جاء فحص بيرزيت ليقلب الموازين. كشف التحليل المخبري المعمق للزيت الذي سُوِّق بجودة عالية وبسعر منافس، عن فشل حاسم وذريع في مؤشرات الجودة الهيكلية، متجاوزاً بذلك المعايير التي فشلت الفحوصات الروتينية لوزارة الزراعة في الكشف عنها. الزيت غير صالح للاستهلاك الآدمي. 

تركز جوهر الفشل على قيمة K270، التي تُعد المقياس الأدق للأكسدة الثانوية (التزنخ المتقدم)، أو وجود تلاعب مثل الخلط بزيوت مكررة. سجلت العينة نتيجة كارثية بلغت 0.432، متجاوزة بكثير الحد الأقصى المسموح به لزيت الزيتون البكر الممتاز (0.22)، وحتى الحدود المسموحة للزيت البكر، والزيت البكر العادي. 

يعني هذا الارتفاع أن الزيت قد تعرّض للتدهور الشديد أو لعمليات معالجة حرارية غير مسموح بها، ما يؤكد دخول الزيت في مرحلة التحلل.


فحص متقدم في مختبرات جامعة بيرزيت: تحليل النتائج يشير إلى أن الزيت غير صالح للاستهلاك الآدمي 

هذا الفشل الكيميائي "الخطير" وجد تأكيداً مباشراً من مديرة الجودة في مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية، ورئيسة الفريق الوطني لتذوق زيت الزيتون، تغريد شحادة، التي قدمت رأياً حاسماً بأن طعم الزيت "رديء" و"غير مستساغ للبشر" لدرجة عدم قدرتها على بلعه، مرجعة ذلك بشكل صريح إلى الأكسدة العالية، ووصفته بأنه يشبه "السمن" المتزنخ الذي يعلق في الحلق. 


فحص التذوق - تغريد شحادة، رئيسة الفريق الوطني لتذوق زيت الزيتون، مدير إدارة الجودة في مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية

وبإسناد رأي الخبيرة وفحص "بيرزيت"، أكد خبير رسمي في قطاع الزيتون، أن هذا التدهور يرجح أن يكون نتيجة لكون الزيت قديماً جداً، أو خضع لعمليات تكرير جزئي، أو أنه زيت جفت (مستخلص من البقايا)، مؤكداً أنه لا يصنف تحت أي فئة من فئات الزيوت البكر (الزيت المعصور من ثمرة الزيتون).

وبناء على تجاوز قيمة K270 لهذا الحد الحرج، يُصنف هذا الزيت وفقاً لمعايير مجلس الزيتون الدولي كـ "زيت زيتون مكرر" (Refined Olive Oil) أي أنه "غير مطابق للمواصفات".

لذلك، ووفقاً للتحليل الكيميائي والتقييم الحسي الحاد، فإن هذا الزيت غير صالح تماماً للاستهلاك البشري المباشر؛ فهو فاقد لفوائده الصحية وخصائصه الفاكهية ويحمل عيوباً حسية تجعله غير مقبول، ولا يُسمح باستخدامه في الصناعات الغذائية.

يشير هذا التناقض إلى أن الاعتماد على المعايير الثلاثة الأساسية فقط، قد يسمح لزيوت متدهورة هيكلياً أو مُعالجة -تُصنَّف دولياً كزيت مكرر غير صالح للاستهلاك المباشر- بالمرور في السوق، خاصة إذا كانت تُسوَّق بأسعار رخيصة مثيرة للريبة.

وهذا ما حدث في الزيت المشترى من إحدى قرى نابلس ويروج على وسائل التواصل، على أنه زيت ممتاز من العام الماضي. كان التاجر يحرص في إعلاناته من خلال "فيسبوك"  على الاستشهاد بفحصوصات وزارة الزراعة التي كان يعرضها، وزدودنا بنسخة منها، لتشكل شهادات الفحص التي بحوزته بوابة عبور كميات هائلة من الزيت الرديء، إلى خزائن المونة في البيوت الفلسطينية.

تواصل معدّ التحقيق مع وزارة الزراعة الفلسطينية، وعرض عليها نتائج الفحوص في مختبرات جامعة بيرزيت، والتي أظهرت عدم صلاحية الزيت المروج له رغم حصوله على فحص "مطابق للمواصفة" من مختبرات الوزارة في رام الله ونابلس. كما طلب من الوزارة توضيح موقفها إزاء هذا التناقض، وبيان الإجراءات التي تتخذها لمواجهة ظاهرة الغش المتنامية في السوق المحلي، إلا أنه لم يتلق أي رد أو تعليق رسمي حتى موعد نشر هذا التحقيق.

كانت الوزارة قد نشرت بياناً صحفياً في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر، أشارت فيه إلى أنها تواصل عملها على مدار العام، من خلال تقديم خدمات الفحوص المخبرية لعينات زيت الزيتون والزيتون المكبوس، التي تُقدَّم من المزارعين والتجار في الضفة الغربية، بهدف التأكد من مطابقتها للمواصفات المعتمدة.

وفي تصريح صحفي، قال مدير عام المركز الوطني للبحوث الزراعية محمد أبو عيد، إن نتائج التي خضعت للفحص في المختبرات المركزية جاءت ضمن المعدلات الطبيعية، ولم تُسجل أي فروقات جوهرية في الجودة أو نسب الغش مقارنة بالمواسم السابقة.

مختبرات وزارة الزراعة

داخل المختبرات 

تؤكد أحاديثنا مع موظفين في مختبرات الزراعة بنابلس ورام الله، أن الزيت المغشوش في ازدياد خلال الموسم الحالي، رغم غياب إحصائيات رسمية. وفي أحد مختبرات الوزارة، وثق معدّ التحقيق وجود أربع عينات مغشوشة قادمة من الخليل، طلب تاجر فحصها قبل شحن كميات كبيرة منها إلى قطاع غزة، وأظهر الفحص البدائي أنها مخلوطة وغير مطابقة. 

أجرى فني المختبر مقارنة أمامنا بين إحدى هذه العينات المغشوشة وعينة زيت نابلس المطابقة ظاهرياً: كان تغير اللون واضحاً في العينة المغشوشة (الخليلية)، بينما لم يتغير اللون في عينتنا، ما يبرهن على ذكاء نوع الغش المستخدم في زيت نابلس وقدرته على تجاوز الفحص التقليدي.

حتى أن الفني في المختبر استغرب عندما علم أن سعر تنكة زيت نابلس هو 375 شيكلاً، وطلب تذوقها كفحص أولي، وكان حائراً: "رائحته تبدو طبيعية إلى حد ما، لكن فيه شعطة قوية ربما أكثر مما هو معتاد".

في محاولة لوضع حد فاصل، قمنا بجمع أسعار الزيت الحقيقي من تجار ومعاصر موثوقين في هذا الموسم الشحيح.

زيت العام الماضي (إنتاج وفير)، لم نحصل على سعر أقل من 35 شيكلاً للكيلو (أدنى سعر للتنكة: 525 شيكلاً). أما زيت الموسم الحالي (إنتاج شحيح)، فتراوحت الأسعار بين 650 و800 شيكل للتنكة (15 كجم)، وتجاوز سعر التنكة في بعض المواقع حاجز الألف شيكل. كان ذلك حتى تاريخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، أي قبيل انتهاء الموسم رسمياً.

الفجوة الهائلة بين السعر الحقيقي لـ "الذهب الأخضر" والأسعار الرخيصة التي تروَّج في السوق (350 - 375 شيكلًا للتنكة)، تشير إلى أن سوق الضفة تغرق في بحر من الزيت المزيَّف الذي استطاع اختراق الرقابة التقليدية، مهدداً صحة المستهلكين ومكانة أهم منتج محلي يصل أسواق دول عدة حول العالم.

غش متقدم

يؤكد خبير الزيتون الذي فضل عدم ذكر اسمه لأنه يشغل منصباً رسمياً، أن نتيجة "فحص بيرزيت" تظهر أشياء غير منطقية، فالحموضة والبروكسيد كانتا ضمن الحدود الطبيعية بل الممتازة، في تناقض مع رائحته وطعمه، ومؤشر الأكسدة الثانوية (K270). وفي تحليله، رجح احتمالات عدة: إما أن يكون الزيت قديم جدا جدا، وإما أنه مخلوط مع زيوت مصنعة مكررة، إذ يتم خلط زيت قديم مع زيوت مكررة، أو زيت الصابون، أو زيت الجفت المستخلص من بقايا عصر الزيتون.

وعليه، يقول الخبير إن غش الزيت يتم ضمن إطارين: الغش التقليدي، عبر خلط زيت الزيتون بزيوت نباتية أرخص (كزيت دوار الشمس أو النخيل)، وهو ما وثقه تحقيقنا في عينة تاجر الخليل.

والغش المعقد عبر طريقتين، الأولى بإضافة مركبات وأصباغ ومنكهات وفلفل تعطي الزيت خصائص مطابقة لزيت الزيتون من حيث الطعم والرائحة.

والثانية تتمثل بتكرير زيت الزيتون القديم بطريقة كيميائية، أو خلط زيوت قديمة مع زيت الجفت أو الزيت المخصص لصناعة الصابون. وهو ما يفسر نجاح عينة نابلس في تخطي فحص الوزارة، لكنها سقطت أمام تحليل بيرزيت بعد اكتشاف أن الزيت قديم جدا وتعرّض للتدهور الشديد أو لعمليات معالجة حرارية أو غير مسموح بها، ما يؤكد دخول الزيت في مرحلة التحلل.

ليس هذا فحسب، فقد دخلت الضفة الغربية في العامين الأخيرين كميات هائلة من زيت الزيتون المخصص لأغراض صناعية مثل صناعة الصابون، وهو مسموح الاستيراد، وفق مصدرنا الخبير في قطاع الزيت والزيتون. هذا الزيت تنزع منه العناصر الصحية المفيدة لاستخدامها في صناعات مختلفة كمستحضرات التجميل وغيرها، ويبقى الزيت السائل الذي يخلو من أي عناصر مفيدة، ويتم استيراده بأريحية بأسعار منخفضة جداً، ولا رقابة عليه، لأنه غير مخصص للاستهلاك الآدمي. عدا عن دخول كميات "غير يسيطة" من إسرائيل عن طريق التهريب، بحسب مصدرنا. 

يؤكد ذلك، ما ذكره إبراهيم الماضي، مدير عام حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد من أن هناك محاولات مستمرة لإغراق السوق المحلية بزيت الزيتون المُهرب من "إسرائيل"، ويتم استيراده من دول مختلفة منها إسبانيا وتركيا وسوريا وتونس. ما يؤكد الطفرة الحاصلة في الضفة من الترويج الهائل للزيت بأسعار رخيصة في ذروة موسم شحيح هو الأدنى منذ 16 عاما. 

أطنان مضبوطة.. ومنع للاستيراد

يؤكد القاضي، أن الجهات الرقابية ضبطت خلال شهر واحد فقط (5 أكتوبر حتى 5 نوفمبر) نحو 32 ألف طن من الزيت المغشوش والمهرب من إسرائيل، وتحويل خمسة تجار إلى النيابة العامة لمكافحة الجرائم الاقتصادية. وقال إن طواقم وزارته كثفت عملها في الموسم الحالي لمكافحة زيت الزيتون المغشوش، وذلك مع كثرة الإعلانات المُضللة والوهمية عبر صفحات مواقع التواصل.

وفق بيانات حصلنا عليها من الضابطة الجمركية، بلغت كميات زيت الزيتون المغشوش والمهرّب المضبوطة منذ بداية عام 2025 نحو 13.5 طن، من خلال 13 قضية جرى التعامل معها (حتى تاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر)، في حين بلغت الكميات المضبوطة خلال العام الماضي 14.5 طن توزعت على 7 قضايا، وتم تسليمها إلى وزارة الزراعة لاستكمال الإجراءات القانونية.

ووفق ما أوضحه مدير دائرة العلاقات العامة والإعلام في الضابطة الجمركية، فإن العمل ما زال جارياً، بعد ورود معلومات تشير إلى احتمالية طرح كميات كبيرة من زيت الزيتون المغشوش في السوق خلال الموسم الحالي، نتيجة النقص الواضح في إنتاج الزيت المحلي.

من ناحية ثانية، أشار القاضي، إلى قرار صدر عن مجلس الوزراء يقضي بعدم فتح باب استيراد زيت الزيتون من الخارج أو إسرائيل، رغم الموسم الشحيح. 

وفق تقديرات وزارة الزراعة فإن إنتاج الموسم الحالي يتراوح بين 7 - 10 آلاف طن، في حين يرى مدير عام مجلس الزيت والزيتون الفلسطيني فياض فياض أن ما هو متوفر من كميات غير مسوقة منذ الموسم الماضي تكفي حاجة السوق (نحو 10 آلاف طن)، ويضاف إليها إنتاج الموسم الحالي لتغطية كميات التصدير. لذلك كانت التوصية من مختلف الجهات العاملة في قطاع الزيت بعدم الاستيراد، لعدم ضرب أحد أهم المواسم الزراعية الفلسطينية، إذ أن زيت الزيتون يعد من أهم 10 سلع فلسطينية تصدر إلى الخارج، وتجاوزت قيمة الصادرات منه عام 2023 حاجز 40 مليون دولار وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، لذلك يقول فياض، إن منع الاستيراد يشكل حماية للزيت المحلي، ويمنع إغراق الأسواق أكثر فأكثر. 

زيت سوري يتدفق إلى الضفة 

في مقابل إغراق السوق بزيوت مغشوشة، ظهر زيت آخر يروج في أسواق الضفة؛ زيت سوري قادم عبر إسرائيل. 

صفحات عبر مواقع التواصل تروج لهذا الزيت علناً، ومحال تتخذ من مدن في الضفة وأراضي 48 أماكن لها. 

زلة لسان تاجر الخليل الذي اشترينا منه الزيت وتبين أنه مغشوش، أظهرت أن لديه كميات كبيرة من زيت الزيتون السوري بسعر 500 شيكل للتنكة يضاف إليها أجرة التوصيل (20 شيكلا). وصفه بأنه "أنظف من الزيت الشمالي، بس سعره أغلى". 

قال إن الأحداث التي شهدتها سوريا بداية العام (في إشارة إلى سقوط النظام في دمشق)، كانت دافعاً لإدخال كميات من الزيت السوري إلى إسرائيل، ومن ثم إلى الضفة. قلت له لو أراد شخص شراء 30 تنكة، فقدم عرض سعر على 470 شيكلا للتنكة الواحدة "بربح شيء رمزي، الزيت السوري نظيف كثير، ويشبه زيت رام الله، بس مش أفضل من زيت الخليل أو بيت جالا".

عن سعره المرتفع مقارنة بـ "الزيت الشمالي"، قال إن التاجر الذي يشتري منه يبيعه إياه بسعر مرتفع، نظرا لارتفاع تكلفة التوصيل من أراضي 48 إلى الضفة. 

مدير اتحاد الصناعات الغذائية في الضفة بسام أبو غليون أشار إلى دخول كميات كبيرة من الزيت السوري إلى إسرائيل فالضفة، وهذا الزيت بحكم المهرب طالما لم يدخل بالطرق الرسمية. 

بدوره، يقول فياض فياض، إنه تم جمع كميات كبيرة جدا من الزيت السوري ونقلها إلى منطقة السويداء، ومن ثم إلى الجليل، وبعد ذلك إلى جنين عن طريق بلدة برطعة، ليتم تسويقه في الضفة، كما أُعيد تهريبه ثانية إلى إسرائيل باعتباره زيتاً فلسطينياً. وأشار إلى أن أحاديثه مع الجهات السورية المختصة بقطاع الزيت والزيتون في سوريا، أكدت هذا التهريب، خصوصا بعد ارتفاع الأسعار هناك بشكل ملحوظ منذ بداية 2025.

فياض فياض، مدير عام مجلس الزيت والزيتون الفلسطيني 

في المحصلة، ما بدأ كتجربة بسيطة لشراء زيت من تاجر يروّج عبر "فيسبوك"، انتهى بكشف طبقات من الغش تتراوح بين الخلط بزيوت نباتية وبين معالجات كيميائية متقنة، وصولاً إلى تسويق زيوت رديئة غير صالحة للبشر ومخصصة للاستخدام الصناعي، لا تكتشفها الفحوص التقليدية. 

لا تملك كل العائلات المقدرة على الذهاب نحو فحوص متقدمة مكلفة، فتقع ضحية زيت فقد فوائده الصحية، وربما أصبح ضاراً مع مرور الوقت.

النتائج التي كشفتها المختبرات لا تفضح تاجراً بعينه، إنما تشير إلى خلل مؤسسي في نظام الفحص والرقابة الرسمي. فشهادات "المطابقة" الصادرة عن وزارة الزراعة، تحولت إلى جسرٍ يمرّ عبره الغش بغطاء رسمي إلى الموائد الفلسطينية.

وما لم يُعاد النظر جذرياً في أدوات الفحص ومعايير الاعتماد والرقابة، سيبقى زيت الزيتون الفلسطيني عرضة للتشويه، وسيظل المستهلك يدفع الثمن من صحته وثقته وذاكرته المتجذّرة في طعم الزيت النقي.