"فلسطين أونلاين".. الدبلوماسية الرقمية: العصا الجديدة في القرن

2025-11-16 17:04:55

شهدتُ خلال الأيام الماضية تجربة لافتة في إحدى الفعاليات التي جمعت نخبة من المؤثرين وخبراء الإعلام الرقمي الفلسطيني. كان المشهد في ظاهره فعالية مهنية، لكنه في جوهره مختبرٌ للقدرات والإمكانات المستقبلية التي يمتلكها الجيل الجديد في فلسطين. شبابٌ وصبايا يتحدثون لغة العالم الحديث، ويستخدمون أدواته، وينتجون محتوى قادرًا على الوصول إلى ملايين المتلقين خلال ثوانٍ قليلة.

في تلك القاعة، بدا واضحًا أن هناك فلسطين أخرى تُصنع خلف الشاشات: فلسطين ديناميكية، واعدة، وقادرة على إعادة تقديم سرديتها بطرق لم تعد الدبلوماسية التقليدية قادرة على مجاراتها. في قاعةٍ امتلأت بالمؤثرين وخبراء الإعلام الرقمي الفلسطيني، رأيت مشهدًا يلخّص روح الجيل الجديد في فلسطين: شباب وصبايا يتحدثون لغة العالم الحديث، يتقنون أدواته، ويحوّلونها إلى منصات سردية وضروري توظيفها دبلوماسياً.

مؤتمر "فلسطين أونلاين" أخذني إلى عالم موازٍ، عالم آخر ليس من الممكن تجاهله ولا الاستغناء عنه. فلسطين التي تُحاصَر جغرافيًا تخرج رقميًا إلى العالم، أقوى وأكثر حضورًا، رغم كل محاولات التعتيم والتضليل والإقصاء.

من غزة إلى جنين، ومن الخليل إلى رام الله، يخرج عشرات الشباب ليُعيدوا للعالم سرديتنا الأصيلة بأدوات العصر، متحدّين محاولات الاحتلال لتجريم الأصوات الفلسطينية أو إسكاتها. لقد تحوّل الفضاء الرقمي إلى ميدان معركة لا تقل أهمية عن أي ساحة سياسية أو دبلوماسية، وصار المحتوى الفلسطيني شكلًا من أشكال المقاومة المدنية الحديثة.

في العلوم السياسية، معادلة العصا والجزرة أصبحت العصا رقمية... لطالما كانت الدبلوماسية عبر التاريخ إحدى أدوات القوة الناعمة، تُمارَس بهدوء خلف الأبواب المغلقة. أما اليوم، فقد خرجت إلى العلن، وارتدت وجهًا جديدًا يناسب روح القرن الحادي والعشرين. كما قال أحد المفكرين الغربيين: فنّ الدبلوماسية الحديثة هو استخدام عصا ثيودور روزفلت، ولكن رقميًا الدبلوماسية هي القوة الناعمة وليست الكلام الناعم. بهذا المعنى، تحوّلت "العصا الدبلوماسية" إلى أدوات رقمية تُمارس بها الدول والشعوب تأثيرها في الرأي العام. لم تعد الدبلوماسية مجرد تصريحات وخطب، بل أصبحت عملية متكاملة من إدارة الصورة والمعلومة والرواية في فضاء مفتوح وسريع الحركة.

من الدبلوماسية التقليدية إلى الدبلوماسية الرقمية، تغيّرت معادلة القوة؛ فبينما تعتمد الدبلوماسية التقليدية على الدبلوماسي الرسمي، تمكّن الشباب الفلسطيني اليوم من الوصول مباشرة إلى الجمهور العالمي عبر الشاشة الصغيرة.

منشور، ريل، أو صورة متحركة مؤثرة، كلٌّ منها أصبح أداة ضغط سياسي ووسيلة لخلق تضامن إنساني عالمي لمواجهة الهاسبارا الاسرائيلية.

الدبلوماسية الفلسطينية اليوم بحاجة لإدماج هذا الجيل بوصفه شريكًا أساسيًا في صناعة الرواية الوطنية. الشباب يمتلكون أدوات القرن، والقدرة على مخاطبة الملايين بذكاء وسرعة، وعلى تحويل الوعي العالمي إلى ساحة دعم حقيقية لقضيتنا. لا يمكن تجاهل الدور الإيجابي للشراكة  بين من يدركون أهمية هذا التحوّل، وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي، والحكومة بمشاركة رئيس الوزراء الفلسطيني ووزير الاتصالات والاقتصاد الرقمي والثقافة والمحافظة الذين شاركوا بافتتاح الفعالية ودعموا الشباب الفلسطيني في توظيف التكنولوجيا والتواصل الرقمي لعرض الصورة الحقيقية لفلسطين صورة مليئة بالحياة والوعي والإبداع. مظاهرة للحاجة الآنية للشراكة الحقيقية ما بين القطاعين العام والمدني والخاص لإحداث الأثر.

في القرن الحادي والعشرين، لم تعد العصا التي تحدّث عنها ثيودور روزفلت خشبية، بل أصبحت رقمية تُحرّكها خوارزميات، وتغذيها القصص، وتُشعلها الحقيقة. الدبلوماسية اليوم لا تلوّح بالقوة، بل تُقنع بالوعي. ولذلك، فإن مستقبل فلسطين الدبلوماسي لن يُكتب فقط في القاعات الرسمية، بل أيضًا في الفضاءات الرقمية التي يصنعها شبابها بإبداعٍ وشجاعة، فالمنتصر في معارك اليوم هو من تنتصر روايته. كل الاحترام والتقدير للشباب الفلسطيني والمؤثرين والصحافيين الذين خلقوا هذه المنصة التي أتمنى من الشباب البناء عليها والاستفادة منها، ليس فقط لحصد ملايين المتابعات والعائد المادي، ولكن توظيفها لخدمة القضية، المنصات جاهزة والأدوات متوفرة، ولم يتبق سوى تظافر الجهود والتفكير معاً حتى نصل لما نستحقه من تحرر وكرامة، ودولة تخترق الحدود والفضاءات الرقمية لتجسد مكانتها الواقعية.