سفر التثنية تشويه لصورة الرب
عندما أتأمل، أُنزل على نبي الله موسى، أجد نفسي أمام صورة واضحة لإله رحيم، عادل، لا يظلم أحدًا، ولا يحض على القتل أو الظلم من أجل منفعة طرف على حساب آخر. الوصايا العشر التي تلقاها البشر عبر موسى تمثل حجر الزاوية للأخلاق والعدالة والرحمة الإلهية: لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد زورًا، احترم العدالة والحقوق الإنسانية، واحفظ كرامة الآخر. هذا الوحي يؤكد أن العدالة والرحمة هما صفتان جوهريتان للذات الإلهية، وأن أي فعل يخرج عن هذه المبادئ لا يمكن أن يكون تعبيرًا عن إرادة الله الحقيقية.
لكن عندما أقرأ نصوص التلمود أو أعود إلى نصوص التوراة مثل الإصحاح العشرين من سفر التثنية، أجد نفسي أمام تناقض صارخ. هذا الإصحاح يأمر بني إسرائيل بشن حرب على شعوب محددة في الدول القريبة والبعيدة: الكنعانيون، الحثيون، الأموريون، الفرزيون، واليبوسيون. الأوامر لا تقتصر على الرجال المقاتلين فقط، بل تشمل النساء والأطفال وحتى الحيوانات والأشجار في المدن المخصصة للدمار، وكأن إرادة الله تتجسد في القتل والتدمير الكامل. هذه الصورة تتناقض جذريًا مع صفات الله؛ كيف يمكن لإله رحيم وعادل أن يأمر بقتل الأبرياء وإبادتهم بالكامل؟
يزداد التناقض وضوحًا عندما نفكر في مفهومي "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد". هذه التسميات توحي بالامتياز والاختيار الحصري، وهو ما يتناقض مع العدالة والرحمة التي هي صفات ثابتة للذات الإلهية. كيف يمكن لإله عادل أن يفضل شعبًا على آخر، وأن يخصص أرضًا مأهولة لمجموعة لا تشكل شعبًا، وإنما يجمعها عقيدة يدّعون أنها من عند الله، في مقابل حرمان مالكيها؟ هذه المفاهيم تجعل النصوص الحربية أكثر صعوبة في الفهم من منظور أخلاقي وروحي، إذ تؤدي إلى تصوير الله وكأنه محابي ومتحيز، بينما في جوهره العدالة والرحمة لا تحدها مصالح بشرية أو جغرافية.
يمكن تفسير هذا التناقض بعدة طرق. أولًا، هناك تحريف بشري أو تفسير مغرض؛ بعض نصوص التلمود قد تكون إضافات أو تعديلات جاءت لتبرير الانتصارات العسكرية أو الهيمنة على الأرض، وليست انعكاسًا صادقًا لإرادة الله كما جاءت في الوصايا العشر. ثانيًا، يمكن النظر إلى هذه النصوص على أنها من صنع البشر؛ أوامر القتل في سفر التثنية لا يمكن أن تمثل الصراع بين الخير والشر، حيث لا يمكن للقتلة أن يمثلوا الخير. ثالثًا، اختبار الطاعة والانضباط الأخلاقي والروحي لا يمكن أن يتم من خلال مخالفة التعاليم الربانية. رابعًا، يجب التمييز بين الله والسلطة البشرية؛ النصوص الحربية تعكس أحيانًا ممارسات السلطة السياسية أو الدينية في زمنها، وليس إرادة الله المطلقة، وأي قراءة حرفية من دون سياق تعكس سوء فهم للصفات الإلهية.
النظر إلى هذه النصوص يطرح سؤالًا آخر مرتبطًا بالعدالة التاريخية والأخلاقية: كيف يمكن للإنسان اليوم أن يفهم هذه الأوامر في سياقها التاريخي، وما مدى مسؤولية البشر الذين نقلوا وفسروا هذه النصوص؟ الإبادة الموجهة لشعوب الكنعانيين، الحثيين، الأموريين، الفرزيين، واليبوسيين، تظهر كأوامر وحشية تضعنا أمام مواجهة صريحة مع السؤال التالي: أين العدالة الإلهية من هذه النصوص؟ أم أنها تعكس إرادة بشرية تدخلت في نصوص الوحي لتبرير مصالح سياسية أو اقتصادية في تلك الحقبة؟
وعندما ندمج هذا مع مفهوم "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد"، نجد أن هذه التسميات تزيد التعقيد الأخلاقي: أي إله عادل يمنح مجموعة دينية معينة تفوقية على حساب الآخرين؟ هنا يظهر التناقض بشكل صارخ بين الذات الإلهية الرحيمة وعدلها المطلق وبين ما يمكن للبشر أن يفسروا ويستغلوا من النصوص الدينية لتحقيق مصالحهم.
من زاوية تاريخية وسياسية، نجد أن فكرة "أرض الميعاد" لم تكن دائمًا موضوع إيمان ديني صافي، بل أصبحت أداة يمكن أن يستفيد منها البشر لتحقيق أهداف سياسية. فثيودور هرتزل، المؤسس الصهيوني المعروف، وهو ملحد لا يؤمن بالقداسة الدينية للنصوص، اعتمد على فكرة "أرض الميعاد" ليس كقضية روحية بل كأداة لإقامة دولة قومية لشعب يتم اختراعه. هذا الاستخدام يظهر التناقض العميق بين الوحي الإلهي الذي جاء على يد موسى، والذي يركز على العدالة والرحمة، وبين ما تحمله فكرة "أرض الميعاد" من تحيز بشري ومصالح سياسية استعمارية.
القراءة المعمقة لهذه النصوص تدعونا إلى التأمل النقدي والتاريخي، وفهم أن الوحي الذي جاء على يد موسى يعكس العدالة المطلقة والرحمة، بينما النصوص التلمودية أو الحربية تعكس ممارسات بشرية أو رمزية قد تصور الله بطريقة تتناقض مع جوهره. هذا التناقض بين الوحي والإضافات البشرية يطرح دائمًا سؤالًا محوريًا: كيف نفرّق بين العدالة والرحمة الحقيقية لله وبين النصوص المشوهة والمحرفة؟
في النهاية، التأمل في هذه النصوص يعيدنا إلى حقيقة أساسية: الذات الإلهية رحيمة وعدلها مطلق، وكل نص يظهرها كقاتل أو محابي يجب أن يُفهم كنص من صنع البشر وليس كنموذج أخلاقي مطلق. إدراك هذا التمييز يمنحنا القدرة على فهم الرسالة الإلهية الحقيقية، والتمييز بين ما جاء في الوحي وبين ما أضافه البشر لاحقًا، سواء عبر التلمود أو التفسيرات الحرفية للنصوص الحربية، وأيضًا بين ما استغله البشر لاحقًا من أفكار مثل "أرض الميعاد" لتحقيق مصالحهم الخاصة.
إن التأمل في نصوص سفر التثنية وما يرافقها من تفسيرات لاحقة يبرز لنا بوضوح التناقض بين الوحي الإلهي النقي وما أضافه البشر أو حرفوه لاحقًا لأغراض سياسية أو اجتماعية. الوصايا العشر، التي جاءت على يد موسى، تؤكد على الرحمة والعدل كأساس للعلاقة بين الله والإنسان، بينما النصوص الحربية والتلمودية قد تصوّر الله بصورة متحيزة أو عنيفة، مما يتطلب منا قراءة نقدية وفهمًا متأنيًا.
الدرس الأهم هنا هو إدراك الفارق بين العدالة والرحمة الإلهية الحقيقية وبين التفسيرات البشرية التي يمكن أن تشوهها لتحقيق مصالح محددة. هذا التمييز يمنحنا القدرة على الحفاظ على القيم الأخلاقية والروحية الأصيلة، ويحمينا من الوقوع في فخ التبريرات المشوهة التي تصف القتل أو التحيز على أنه إرادة إلهية.
في نهاية المطاف، فهمنا للنصوص الدينية يحتاج إلى وعي نقدي وتاريخي، يوازن بين الإيمان بالذات الإلهية العدلة والرحيمة، وبين تحليل السياقات البشرية التي حولت بعض النصوص إلى أدوات للسلطة أو التمييز. إن هذا التمييز هو الطريق لفهم رسالة الوحي الحقيقية، والعيش وفق قيم العدالة والرحمة التي أرادها الله للبشرية، بعيدًا عن أي تحريف أو إساءة فهم للنصوص.