اقتصاد الأحتلال والحصار ، كيف صُنِعَت أكبر سوق سوداء تحت عين الأحتلال وشراكة المستفيدين؟

2025-11-22 11:59:08

لم يكن البيان الصادر عن غرفة تجارة وصناعة وزراعة غزة ، والكشف عن مئات ملايين الدولارات التي دُفعت كـ“تنسيقات غير قانونية” صادمة فقط ، بل شكل ذلك فضيحة سياسية وأخلاقية كاملة تكشف طبيعة المرحلة التي عاشها القطاع خلال الحرب وما بعدها ، اقتصاد حرب مُحكم جرى تصميمه بالاستفادة من وجود مع يسمى بآلية تنسيق ادخال البضائع ، وإدارته ليحوّل الحصار إلى مورد ربح ، والمعاناة إلى فرصة استثمار، والجوع إلى تجارة لأمراء الحرب .

،  لقد أبقت إسرائيل على معابر غزة تحت منظومة معقدة من الإجراءات والقيود غير المعلنة . لم يكن الهدف فقط التحكم في حركة البضائع ، بل إدارة منظومة ابتزاز اقتصادي تتقاطع فيها مصالح عسكرية وتجارية وأمنية، وتُنتج في النهاية سوقاً سوداء كاملة مع شبكات محلية متعددة من غزة ورام الله والقاهرة ترتبط مباشرة أو عبر وسطاء بمنظومة الأحتلال بالشراكة مع جهات أخرى لم يفصح عنها بيان رئيس الغرفة التجارية في غزة .

وقال البيان ، ان هنالك شهادات من التجار تؤكد أن دخول البضائع لم يكن يتم عبر القنوات والرسوم الرسمية ، بل عبر مبالغ نقدية باهظة تُدفع لجهات غير معروفة ، تراوحت بين نصف مليون ومليون شيكل للشاحنة الواحدة . أما السلع المصنفة “استخداما مزدوجا”، من قطع الغيار إلى الأنظمة الكهربائية والطاقة الشمسية ، فلم يكن لها طريق للقطاع سوى عبر مبالغ ضخمة دفعت خارج كل إطار قانوني أو إداري ، كما جاء بالبيان .

الرقم الإجمالي الذي تحدث عنه البيان صادم ، أكثر من ٨٠٥ ملايين دولار حتى اذار الماضي ٢٠٢٥ فقط ، وصولاً إلى الرقم الذي كشف عنه لاحقا رئيس غرفة تجارة وزراعة غزة أمس ، والذي تجاوز ٩٧٦ مليون دولار بحسب افادته حتى الشهر الحالي نوفمبر بدل التنسيقات غير القانونية كما أشار رئيس الغرفة . نحن إذن أمام ما يقارب مليار دولار تشكل العمود الفقري لسوق سوداء غذت طبقة جديدة من أمراء الحرب ومراكز النفوذ ، فيما كان الناس يدفعون مبالغ خيالية طائلة مقابل اي سلعة يريدون شرائها في غزة بتلك الأيام  .

هذه الجريمة لا تقاس فقط بحجم الأموال التي جمعتها تلك الاطراف ، بل بحجم ما سببته من انهيار لكرامة الناس وحقهم في الغذاء والبقاء . إنها جريمة مركبة ، الأحتلال الذي يفرض القتل والحصار ، والجهات غير المعروفة التي تدير الابتزاز والفساد ، والشبكات التي راكمت الأرباح على حساب الدم والجوع .

لكن الأخطر أن هذا الواقع جرى تقديمه دوليا باعتباره “إجراءات أمنية” أو “تنظيما للمرور”، بينما هو في الحقيقة نظام اقتصادي غير شرعي ، يناقض القانون الدولي ، وينسف جوهر بروتوكولات التهدئة واتفاقات الإغاثة الإنسانية . لقد تم الإستثمار في المعاناة بدلاً من إنهائها ، وباتت الحركة التجارية رهينة لثلاثة أطراف هم :
بائع يتحكم بالمعبر ، ووسيط ينفذ المهمة ، ومستهلك مسحوق يدفع حياته ثمنا .

إن ما جرى ليس تفصيلاً عابرا في زمن الحرب وعدوان الابادة ، بل نموذج متكامل لأقتصاد السيطرة الإستعمارية التي عادةً ما تُنشئ بيئتها متعاونين من ادوات محلية فلسطينية وعربية دون ضمير . حيث يتحول الأحتلال والحصار او العدوان إلى بيئة فساد منظم ، وتتداخل المصالح بين قوة الأحتلال وأصحاب النفوذ المحليين ، ويتحول المواطن العادي إلى الحلقة الأضعف في سلسلة نهب ممنهج .

المطلوب اليوم ليس فقط كشف الأرقام ، بل كشف الأسماء والشبكات وآليات التوريد ، والمطالبة بتحقيق منظمات حقوقية دولية مستقلة ، وإجراء تحقيق ومراجعة فلسطينية شجاعة من جهات الإختصاص بالأجهزة الأمنية في مكافحة الجرائم الإقتصادية تُنهي هذا الشكل من الإدارة الذي دمر حياة الناس واعاق تطور مصالحها التجارية احيانا بحكم بعض الشبكات الأحتكارية ، دون قصد الوكلاء التجاريين الذين يعانون هم انفسهم من اساليب القرصنة وتهريب البضائع والأبتزاز أحياناً أخرى ،  بشكل عام لبعض السلع والخدمات والتي بجزء منها يُفترض توفرها للمواطن دون رسوم ، الأمر أيضا الذي رفع بشكل مبالغ فيه اسعار البضائع حتى في أسواق الضفة الغربية التي لا تخضع للرقابة المفترضة وغياب القوانين الناظمة لذلك ، وفي غياب حماية مستهلك حقيقية وذات صلاحيات . أن اجراءات الأحتلال والحصار ليس فقط حدوداً تُغلق ، بل شبكة مصالح تُفتح احياناً لتُشكل مصالح مشتركة في بعض الأحيان ، حتى في مناهضة وأعاقة أشكال المقاطعة الإقتصادية المفترضة لدولة الأحتلال وبضائعها  بشكل عام ، بدون مراقبتها ودون كسرها . الأمر الذي يستوجب ضرورة تقديم هؤلاء الى العدالة حتى يأخذ القانون مجراه واتخاذ العقوبات بشفافية ضد من تثبت ادانتهم كائناً من كانوا . دون ذلك سيبقى اقتصاد غزة رهينة واقتصاد الضفة تابع وخاضع بل ورهينة احيانا في حدود ما لمصالح تلك الفئات ، وستبقى الكارثة الإنسانية تتكرر بأشكال جديدة من الغلاء الفاحش للبضائع والخدمات وأرتفاع الأسعار غير المبرر احياناً في ظل البطالة وتدني مستوى الدخل مقارنة مع دول أخرى تستورد من ذات المصدر وتخضع لنفس نسب الضرائب ، ومن إمتهان كرامة ابناء شعبنا والخضوع لإملاءات الأحتلال او مصالح المستفيدين من أمراء الحروب والأحتلال وتجارها.