القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 بشأن انتخاب مجالس الهيئات المحلية: إصلاحات شكلية وثغرات جوهرية تُعيد إنتاج الأزمة بدل معالجتها
الدكتور : عـمـر رحـال
أولاً: مقدمة
تكتسب الانتخابات المحلية والبلدية أهمية خاصة في السياق الفلسطيني لأنها تشكل المستوى الأقرب لحياة الناس اليومية، والأداة المباشرة التي تحدد شكل الخدمات وجودتها داخل المدن والبلدات . فالبلديات ليست مجرد مؤسسات إدارية، بل هي فضاء سياسي ومجتمعي وتنموي ينعكس أداؤه على البنية التحتية، وتنظيم الفضاء العام، وتخطيط المدن، وتوفير الماء والكهرباء والنظافة، وإدارة المشاريع، وتعزيز التنمية المحلية. وإجراء الانتخابات المحلية بانتظام يعزز ثقة المواطنين بالدولة، ويكرس مبدأ تداول السلطة، ويمنع هيمنة العائلات أو القوى السياسية على المجالس بشكل دائم. كما تلعب هذه الانتخابات دوراً محورياً في التماسك الاجتماعي لأنها تتيح مشاركة واسعة لمختلف الفئات، وتفتح المجال أمام النساء والشباب والمستقلين ليكونوا جزءاً من صناعة القرار المحلي. ومن خلال هذا الانخراط المباشر، تصبح البلديات جسراً بين المواطن والمؤسسة، وركيزة أساسية لتعميق المشاركة المدنية وتنمية الحس الجماعي والمسؤولية المشتركة. لهذا، فإن الانتخابات المحلية ليست مجرد استحقاق قانوني، بل عملية مجتمعية وتنموية متكاملة تسهم في بناء مجتمع قوي ومتوازن، وتؤسس لثقافة ديمقراطية حقيقية على المستوى الوطني.
ثانياً: لماذا تراجع الدول قوانين وأنظمة انتخاب الهيئات المحلية؟
عندما تقوم الدول الديمقراطية بتطوير قوانينها الانتخابية، فهي لا تفعل ذلك لمجرد التغيير، بل لأنها تدرك أن النظام الانتخابي يحتاج إلى التعديل المستمر استناداً إلى التجربة العملية، وتطور المجتمع، وظهور احتياجات جديدة تتعلق بالتمثيل والعدالة والمساواة.في الحالة الفلسطينية، يصبح تطوير قانون انتخاب الهيئات المحلية ضرورة وليس خياراً، لأن المجتمع شهد تغيّرات اجتماعية وسياسية جوهرية خلال العقدين الماضيين، بينما بقي الإطار القانوني الناظم للانتخابات المحلية راكداً إلى حد كبير.
صحيح أن بنية المجتمع الفلسطيني لا تشير إلى انقسامات دينية أو طائفية أو أثنية أو لغوية ، ولكن في فلسطين هناك انقسامات أيدلوجية ، وجهوية وحزبية ، فهناك ضفة وغزة، وعائد ومقيم ، ومدينة وقرية ومخيم ، وحارة شرقية وحارة غربية وحارة فوقا وحارة تحتا وعشائر وعائلات وامرأة ورجل . ويتطلب ذلك مزيداً من العمل واستخلاص العبر ، بما يضمن تعزيز المشاركة في الانتخابات ونزاهة العملية الانتخابية والتصدي لظاهرة الفساد الانتخابي .
مهم الإشارة هنا إلى أن قانون انتخاب الهيئات المحلية رقم (10) لسنة 2005 سُنّ قبل عشرين عاماً تقريباً، وتمت قراءاته الثلاث في جلسة واحدة، ولم تُجرَ بعده إصلاحات حقيقية تتناسب مع التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وبالتالي، فإن القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 كان من المفروض أن يشكل فرصة لمعالجة الاختلالات، وتطوير القانون والنظام الانتخابي بما يعزز المشاركة في الانتخابات ترشيحاً وانتخاباً، لكنه – في بنيته الحالية – أغفل قضايا جوهرية تحتاج إلى مراجعة عاجلة.
تقدم هذه الورقة قراءة نقدية للقرار بقانون، وتطرح مجموعة من الإشكاليات التي وردت فيه، وتقترح ركائز إصلاحية ضرورية للوصول إلى قانون انتخابات محلية ينسجم مع مبادئ الحكم الرشيد، وتكافؤ الفرص، والحق في المشاركة السياسية.
ثالثاً: الانتخابات المحلية بوابة الإصلاح السياسي
تشكل الانتخابات المحلية اليوم أكثر من مجرد آلية لإدارة الشأن البلدي، فهي مساحة اختبار حقيقية لمدى قدرة النظام السياسي على تجديد نفسه، واحترام إرادة المواطنين، وخلق بيئة ديمقراطية تتسع للجميع. وبقدر ما تكشف هذه الانتخابات عن طبيعة التوازنات العائلية والحزبية داخل المجتمع، فإنها تُبرز أيضاً ما إذا كانت الدولة قادرة على توفير منافسة عادلة، وتمكين النساء والشباب، وحماية العملية الانتخابية من المال السياسي والتوافقات القسرية. لهذا فإن تطوير قانون انتخاب الهيئات المحلية لم يعد مجرد خطوة فنية أو إدارية، بل أصبح ضرورة لإعادة بناء ثقة المواطنين بالمؤسسات، وترميم العلاقة المتصدعة بين المجتمع والسلطة، وتوسيع قاعدة المشاركة على أسس من العدالة وتكافؤ الفرص.
وفي هذا السياق، يغدو إصلاح النظام الانتخابي مدخلاً أساسياً لتعزيز الحكم الرشيد، وضمان أن تبقى البلديات مؤسسات خدمية وتنموية تعمل لصالح الجميع، لا واجهات لهيمنة القوى النافذة أو الامتدادات العائلية والحزبية. فالانتخابات المحلية هي البوابة الأولى لإصلاح سياسي أوسع، بوابة تعيد الاعتبار لدور المواطن، وتمنحه القدرة على اختيار ممثليه بحرية، وتفتح الطريق نحو تجديد النخب السياسية، وتطوير الثقافة الديمقراطية، وتثبيت مبادئ الشفافية والمساءلة. ومن دون إصلاح حقيقي وشامل للنظام الانتخابي، سيظل الحديث عن التغيير والديمقراطية مجرد شعارات لا تعكس واقعاً، ولا تبني مستقبلاً أكثر عدالة وتمثيلاً للمجتمع الفلسطيني بكل مكوناته.
رابعاً : ملاحظات عامة على القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 بشأن انتخاب مجالس الهيئات المحلية: ما له وما عليه
اعتماد نظام القائمة المفتوحة يُعد أحد أهم التحولات الإيجابية في بنية النظام الانتخابي الجديد، فهو يمنح الناخب قدراً أكبر من حرية الاختيار داخل القائمة الواحدة، ويمكنه من التصويت للمرشح/المرشحين الذين يرى فيهم الكفاءة والقدرة على تمثيل المصالح العامة. على خلاف القوائم المغلقة التي كانت تفرض على الناخب التصويت لحزمة واحدة من الأسماء دون تمييز، يتيح النظام الجديد للناخب تحديد ترتيبه الخاص للأسماء داخل القائمة، ما يعزز من قيمة صوته الفردية ويجعل المشاركة أكثر فاعلية وتأثيراً.
كما أن هذا التحول يسهم مباشرة في تقليص هيمنة العائلات والنخب التقليدية على عملية تشكيل القوائم إلى حدٍ ما ، ويحد من الصفقات المغلقة التي كانت تتم بعيداً عن إرادة الناخبين. ويفتح الباب أمام وجوه شابة ومستقلة، ويسمح للأحزاب والقوى السياسية بتطوير آليات أكثر شفافية في اختيار مرشحيها. وبهذا، يصبح النظام الانتخابي أكثر انسجاماً مع مبادئ النزاهة والديمقراطية، ويعزز ثقة الجمهور بالعملية الانتخابية ويضخّ ديناميكية جديدة في المنافسة المحلية.
كما يشكّل القانون الانتخابي الجديد خطوة محورية لتعزيز مشاركة المرأة في الحكم المحلي، إذ حافظ على نظام الكوتا كضمان للتمثيل، وفي الوقت ذاته أتاح تحولاً نوعياً بفضل اعتماد نظام القائمة المفتوحة الذي يمكّن الناخبين من دعم المرشحات مباشرة دون الخضوع لترتيبات القوى السياسية أو الاعتبارات العائلية. هذا التغيير يحد من تهميش النساء داخل القوائم ويخلق منافسة أكثر عدالة تقوم على الكفاءة والبرامج، كما يزيل العديد من الحواجز الاجتماعية التي كانت تعيق تقدم النساء المؤهلات. وإلى جانب ذلك، يؤكد القانون أن مشاركة المرأة ليست مكسباً لفئة محددة، بل ضرورة لتحسين جودة الخدمات المحلية وتعزيز الشفافية وإدماج أولويات جديدة تعكس احتياجات المجتمع. كما ينسجم مع التزامات دولة فلسطين الدولية، خاصة اتفاقية "سيداو"، بما يمهد لبيئة قانونية داعمة تمكن النساء من المشاركة الفعلية لا الرمزية. وبذلك، يعزز القانون حضور المرأة كشريك أساسي في التخطيط وصنع القرار المحلي، ويكرّس تحولاً جوهرياً في فلسفة المشاركة السياسية.
وفي السياق ذاته، فإن القوانين ــ وبخاصة القوانين الانتخابية ــ يجب أن تعكس تحولات المجتمع واحتياجاته المتغيرة، وأن تراعي الفئات التي طالما ظلت خارج دوائر التأثير، مثل الشباب والنساء وذوي الإعاقة. ومن هنا تأتي أهمية خفض سن الترشح إلى 23 عاماً، فهي خطوة تعبر بوضوح عن رغبة وإرادة في تجديد الحياة السياسية وفتح المجال أمام شريحة عمرية واسعة لطالما لعبت دوراً محورياً في العمل المجتمعي والطلابي والنقابي، لكنها كانت محرومة من التمثيل الحقيقي داخل المجالس المحلية.
إن إشراك الشباب في مواقع صنع القرار ليس مجرد تدبير إداري، بل هو استثمار في المستقبل، وضمان لاستدامة المؤسسات المحلية، وتعزيز للتوازن في عملية صناعة السياسات. كما أنه يبعث رسالة مفادها أن النظام السياسي الفلسطيني يتجه نحو مزيد من الانفتاح والدمقرطة، ويعترف بالكفاءات الجديدة كجزء أصيل من عملية الإصلاح الشامل.
خامساً: ثغرات القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 – قراءة نقدية
عدم حظر وجود أقارب من الدرجة الأولى والثانية في نفس القائمة
وعلى الرغم من أهمية التعديلات التي جاء بها القرار بقانون، إلا أنه أغفل قضايا جوهرية تمثل مطالب إذا ما نظرنا إلى الإطار القانوني الناظم للهيئات المحلية ، ممثلاً القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 حول انتخاب مجالس الهيئات المحلية ، والنظام الانتخابي الخاص به ، فإنه أغفل العديد من القضايا التي شكلت مطلباً أساسياً لعدد من الفواعل في المجتمع الفلسطيني ، سواء مؤسسات المجتمع المدني ، والأحزاب وخبراء الانتخابات ، وحتى لجنة الانتخابات المركزية التي أوصت في أكثر من مرة عبر تقاريرها بمعالجة موضوع التزكية (التوافق).
القرار بقانون لم يحظر وجود أقارب من الدرجة الأولى والثانية في نفس القائمة.رغم أن قانون الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية رقم (1) لسنة 2000 ، يحظر أن يكون في الهيئة التأسيسية أو في الهيئة الإدارية أقارب من الدرجة الأولى والثانية . كما يحظر نظام الشركات الغير ربحية على المؤسسين أو العاملين القرابة حتى الدرجة الرابعة.السؤال من أكثر خطورة وتضارب للمصالح بلدية موازنتها ومشاريعها تقدير بمئات الملايين أم مؤسسة موازنتها قد تقل عن 1000 دينار .فعلى سبيل المثال في المرحلة الأولى للانتخابات المحلية التي جرت بتاريخ 11/12/2021 فقد ترشح في نفس القائمة أخ وأخته،وأب وابنته ، وأربعة أخوة، وفي بعض المجالس القروية ترشحت قوائم بأكملها من عائلة واحدة وفازت (بالتزكية)، وفي المرحلة الثانية من الانتخابات المحلية التي جرت بتاريخ 26/3/2025 ، ترشحت (46) قائمة انتخابية من أصل(234) قائمة ، كقوائم عائلية ، حيث ضمت مرشحين ومرشحات (من 4 إلى 10) مرشحين ومرشحات من ذات العائلة أي أن بعض العائلات شكلت أغلبية في القائمة ، كما أن هناك عدد من القوائم ترشح بها (3) مرشحين ومرشحات فما دون هم أقارب من الدرجة الأولى والثانية ، وأيضاً من نفس العائلة.
عدم تحديد فترة رئيس الهيئة المحلية لولايتين متتاليتين
لم يتناول القرار بقانون صراحة مسألة تحديد فترة رئيس الهيئة المحلية بولايتين متتاليتين فقط، وهي نقطة أساسية كان من شأن تضمينها أن يعزز مبدأ تداول السلطة داخل المجالس المحلية ويمنع احتكار المنصب أو تحويله إلى موقع نفوذ دائم. فحصر الرئاسة بولايتين متتاليتين، مع السماح للرئيس بالترشح لعضوية المجلس دون شغل منصب الرئيس، ثم إتاحة الترشح للرئاسة مجدداً في الدورة اللاحقة، يمثل صيغة متوازنة تضمن تجديد الدماء وفي الوقت نفسه تحافظ على خبرات القيادات المحلية. إن غياب هذا التحديد يترك الباب مفتوحاً أمام بقاء نفس الشخص في موقع الرئاسة لفترات طويلة، ما قد يضعف الشفافية والتنافسية ويقلل من فرص وصول فئات جديدة وخاصة النساء والشباب إلى مواقع القيادة، ويؤثر سلباً على تطوير الأداء الإداري والخدماتي للمجالس المحلية.
عدم تحديد سقف أعلى لتمويل الحملة الانتخابية
أغفل القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 مجموعة من الضوابط الأساسية التي تعد جوهر النزاهة والشفافية في أي عملية انتخابية، وهي ثغرات جوهرية تؤثر مباشرة على عدالة المنافسة وحياد العملية الانتخابية. فغياب سقف للإنفاق الدعائي يسمح بظهور فجوات هائلة بين القوائم الغنية والقوائم المستقلة أو الشبابية، ما يجعل المال العامل الأكثر تأثيراً في النتائج بدلاً من البرامج والكفاءة. كما أن الإبقاء على السرية المصرفية للحساب الانتخابي يمنع الرقابة على مصادر الأموال، ويتيح تمرير تمويلات غير قانونية أو مشبوهة. وإلى جانب ذلك، لم يلزم القانون المرشحين أو القوائم بالإفصاح عن المانحين، وهو ما يحرم الجمهور من معرفة الجهات التي تمول الحملات وقد تؤثر لاحقاً على قرارات المجالس المحلية. كما لم يضع القانون حدوداً للتبرعات العائلية، ما يسمح للعائلات النافذة بتمويل حملات ضخمة وتحويل البلديات إلى امتداد للنفوذ العائلي. كذلك لم يوضح كيفية التصرف بالأموال المتبقية بعد انتهاء الحملة، ما يفتح الباب أمام استخدامها لأغراض غير مشروعة .جدير بالذكر أن المادة (69) من القرار بقانون رقم(1) لسنة 2007 بشأن الانتخابات العامة،وتعديلاته ، حددت سقف الدعاية الانتخابية للقوائم الانتخابية ، ولمنصب الرئيس بملون دولار ، أو ما يساويها بالعملة المتداولة قانوناً .
والأهم أن القانون لم ينشئ دائرة مختصة في لجنة الانتخابات لمتابعة التمويل السياسي، وهي آلية رقابية ضرورية لضمان الالتزام بالقانون ومنع التضارب المالي. إن مجموع هذه الثغرات يجعل العملية الانتخابية مكشوفة أمام المال السياسي، ويخلق بيئة تسمح بانتشار الفساد الانتخابي وتقويض ثقة المواطنين بالانتخابات ونزاهتها.
عدم معالجة التزكية (التوافق)
أغفل القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 بصورة لافتة معالجة واحدة من أكثر الإشكاليات خطورة على العملية الانتخابية، وهي ظاهرة التزكية أو ما يسمى بالتوافق العائلي أو الفصائلي، التي تفضي عملياً إلى إلغاء الانتخابات في عدد كبير من الهيئات المحلية. فالقانون لم يتضمن أي نص يلزم القائمة الوحيدة بالحصول على حد أدنى من الأصوات، ولم يشترط عرضها على استفتاء شعبي يمنحها شرعية تمثيلية حقيقية، ولم يضع أي ضمانات تحول دون انفراد قائمة واحدة بالمشهد الانتخابي نتيجة التوافقات الاجتماعية أو السياسية. هذا التجاهل القانوني ترك فراغاً سمح باستمرار التزكية كتقليد واسع، رغم أنها ممارسة تتعارض جذرياً مع جوهر العملية الديمقراطية التي تقوم على التنافس وحرية الاختيار.
أظهرت التجربة العملية في انتخابات 2012 و2017 و2021 و2022 أن التزكية تحولت من حالات محدودة إلى ظاهرة شائعة أدت إلى تعطيل الانتخابات تماماً في مئات الهيئات المحلية، ما يعني أن التمثيل لم يكن ناتجاً عن إرادة الناخبين، بل نتيجة اتفاقات مسبقة بين القوى الفاعلة أو العائلات المسيطرة. وبالرغم من أن القانون لا يشير إلى التزكية صراحة، إلا أن صمته عنها أدى إلى تكريسها كبديل غير ديمقراطي للانتخابات، يحرم المواطنين من ممارسة حقهم في الاختيار الحر ويحوّل العملية الانتخابية إلى إجراء شكلي.
وتقوض التزكية الحق في الانتخاب والترشح من جذوره، لأنها تلغي المنافسة وتفرض على المواطنين أشخاصاً لم يختاروهم، فتحول الانتخاب إلى تعيين غير معلن. كما تصادر إرادة الناخبين والمرشحين على حد سواء، وتتناقض مع مبدأ الشعب مصدر السلطات، الذي يشكل قاعدة أي نظام ديمقراطي. وفي سياقات اجتماعية محافظة، تتفاقم آثار التزكية لأن الضغوط العائلية والعشائرية تؤدي إلى ثني الكثيرين عن الترشح، خاصة النساء اللواتي يتأثر حضورهن السياسي مباشرة بهذه التوافقات التي تجري في الغالب دون مشاركتهن أو اعتبارهن جزءاً من القرار. وفي النهاية، تضعف التزكية المشاركة العامة، وتحد من التعددية السياسية، وتعيق التحول الديمقراطي، وتُفرغ صناديق الاقتراع من مضمونها، لأنها تمنع الناخبين من التعبير عن خياراتهم الحقيقية أو محاسبة ممثليهم.
لذلك، كان من المفترض أن يتناول القرار بقانون هذه الظاهرة بنصوص واضحة تعالجها وتحد من آثارها، سواء عبر اشتراط نسب تأييد دنيا، أو اللجوء إلى الاستفتاء، أو وضع ضوابط تمنع تواطؤ القوى المحلية على إلغاء الانتخابات. لكن غياب أي معالجة للتزكية جعل القانون غير قادر على تعزيز النزاهة الانتخابية أو حماية حق المواطنين في الاختيار الحر، وترك واحدة من أعقد مشاكل النظام الانتخابي المحلي دون حلول، بما ينعكس سلباً على المشاركة العامة وعلى تمثيل النساء بصورة خاصة.
في الانتخابات المحلية التي جرت في 20/10/2012 وفي 1/6/2013 ، شهدت تلك الانتخابات زيادة كبيرة في عدد الهيئات المحلية التي لم تجر بها الانتخابات بسبب ترشح قائمة واحدة لانتخابات الهيئة المحلية ، إذ تمت التزكية (التوافق) بين الفصائل والعائلات في (215) هيئة محلية من أصل (354)هيئة محلية بالضفة الغربية،أي ما نسبته 65%.
أما في الانتخابات المحلية الثالثة التي جرت في 13/5/2017 . ففي نهاية فترة الترشح تبين أن هناك (145) هيئة محلية في الضفة الغربية تقدمت فيها أكثر من قائمة ، بينما تمت التزكية في (181) هيئة محلية أهلت تلك القائمة للفوز بالتزكية حيث بلغت51%.
أما في المرحلة الأولى من انتخابات الهيئات المحلية التي جرت بتاريخ 11/12/2021، فقد ترشحت أكثر من قائمة انتخابية في (154) هيئة محلية، في حين أن (162) هيئة محلية لم تجرِ فيها الانتخابات نتيجة وجود قائمة واحدة مترشحة (تزكية).
أما المرحلة الثانية من الانتخابات المحلية التي جرت بتاريخ 26/3/2022 ، فقد ترشحت أكثر من قائمة في (50) هيئة محلية ، في حين فازت بالتزكية (23) هيئة محلية ،بينها هيئات محلية كبيرة مثل قباطية في محافظة جنين ، والرام في محافظة القدس، وسلواد في محافظة رام الله والبيرة .وهو ما يؤكد خطورة هذا التوجه وتناميه. يلعب الغطاء التنظيمي والفصائلي دوراً حاسماً في انتشار "التزكية".
غياب معالجة الصفة الحزبية في الترشح
أغفل القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 معالجة مسألة في غاية الحساسية تتعلق بالصفة الحزبية للقوائم الانتخابية، وهي مسألة تمسّ مباشرة مبدأ الشفافية، وحق الناخب في معرفة الانتماء السياسي الحقيقي للقوائم، وتؤثر على نزاهة التنافس داخل الهيئة المحلية الواحدة. ففي الانتخابات المحلية، ولا سيما في المرحلة الثانية من انتخابات 2022، ظهرت أكثر من قائمة انتخابية تحمل الصفة التنظيمية نفسها داخل الهيئة المحلية الواحدة،حيث ترشحت عدد من القوائم الانتخابية والتي تحمل الصفة التنظيمية لنفس التنظيم السياسي في (8) هيئات محلية وهي مدينة سلفيت ، يطا ، دورا ، العيزرية، الظاهرية ، أبو العسجا وأبو الغزلان ، بيت ساحور ،بيت جالا، الأمر الذي خلق حالة من الإرباك لدى الناخبين، وفتح الباب أمام ممارسات قد تكون مضللة أو متعمدة للتأثير على الرأي العام المحلي.
لذلك ترشح عدة قوائم تحمل اسم الحزب ذاته أو رموزه أو إشارات دلالية مرتبطة به، يجعل الناخب أمام مشهد ضبابي يصعب فيه التمييز بين القوائم، ويُضعف القدرة على تقييم البرامج والمرشحين، خصوصاً في المجتمعات المحلية التي تتأثر بسرعة بالرموز السياسية. كما يسمح هذا الوضع للقوى الحزبية بالمناورة داخل العملية الانتخابية، من خلال توزيع المرشحين على أكثر من قائمة بهدف زيادة فرص الفوز أو التحكم في النتائج، الأمر الذي يقوّض مبدأ المنافسة العادلة ويمنح الحزب المنظم أو القوي قدرة مضاعفة على التأثير، مقارنة بالقوائم الشبابية أو المستقلة أو النسائية.
هذه الممارسة لا تسيء فقط إلى شفافية العملية الانتخابية، بل تتعارض أيضاً مع الفلسفة الأساسية لأي نظام انتخابي قائم على التعددية، لأن تعدد القوائم الحزبية داخل دائرة واحدة يخلق تمثيلاً مشوهاً، وقد يؤدي إلى تضارب مصالح داخل المجلس المحلي نفسه، بحيث تدار الهيئة المحلية من مجموعات محسوبة على التنظيم الواحد لكنها متنافسة داخلياً، ما يخلق حالة من عدم الانسجام ويعطل عملية اتخاذ القرار. كما أن ترك الأمر دون تنظيم يفتح الباب أمام محاولات توظيف الانقسام الداخلي للأحزاب لصالح توازنات محلية، أو استخدام اسم التنظيم كأداة انتخابية دون رقابة على الجهة التي تمثّله فعلياً.
ومن زاوية حقوقية وقانونية، فإن غياب التنظيم بشأن الصفة الحزبية يعد ثغرة تمس حق الناخب في المعرفة والاختيار الواعي. فمن حق المواطن أن يعرف القائمة التي تمثل الحزب فعلياً، والبرنامج الذي ينسجم مع توجهاتها، ومن حقه أيضاً ألا يكون عرضة لمحاولات تشتيت الصوت الحزبي أو استغلاله. لذلك نجد أن العديد من التشريعات المقارنة تمنع صراحة ترشح أكثر من قائمة حزبية في الدائرة نفسها، وتُلزم الأحزاب بالإعلان عن قائمتها الرسمية المعتمدة، منعاً للتلاعب أو استخدام الرموز الحزبية بهدف تضليل الناخبين.
إن معالجة الصفة الحزبية في الترشح ليست قضية شكلية، بل مسألة ترتبط بسلامة العملية الانتخابية وشفافيتها، وتعزز ثقة المواطنين بأن الانتخابات تعبر فعلياً عن إرادتهم، لا عن توازنات تنظيمية داخلية. لذلك كان من الضروري أن يتضمن القرار بقانون أحكاماً واضحة تحظر ترشح أكثر من قائمة حزبية داخل الهيئة المحلية الواحدة، وتنظم آلية اعتماد القوائم الحزبية، وتفرض عقوبات على استخدام الانتماء السياسي بشكل مضلل، باعتبار ذلك شرطاً أساسياً لضمان نزاهة الانتخابات وتعزيز التنافس العادل.
لم يجرم القرار بقانون العنف الانتخابي المبني على النوع الاجتماعي
يشكل العنف الانتخابي المبني على النوع الاجتماعي أحد أكثر العوائق الخفية التي تحد من مشاركة النساء في الحياة السياسية، سواء ترشّحاً أو انتخاباً. هذا النوع من العنف لا يقتصر على الاعتداءات الجسدية، بل يمتد ليشمل التهديد، والابتزاز، والتشهير، وإخفاء الصور، والضغط العائلي أو المجتمعي لمنع النساء من الترشح، أو إجبارهن على الانسحاب لصالح مرشحين ذكور. وغالباً ما يتخذ العنف الانتخابي طابعاً رمزياً يقوم على الإهانة والانتقاص من قدرة النساء على القيادة، أو التشكيك في "أهليتهن" للمشاركة السياسية، بما يعكس ثقافة أبوية متجذرة تستخدم الأدوات الانتخابية لإعادة إنتاج التمييز القائم. كما يظهر العنف المبني على النوع الاجتماعي في استهداف المرشحات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال حملات تشويه السمعة، أو نشر صورهن دون إذن، أو استخدام الخطاب الديني والأخلاقي لإحراجهن وإسكاتهن. هذا الواقع لا ينتهك فقط حق النساء في المشاركة السياسية، بل يشوّه العملية الانتخابية برمتها، لأنه يخلق بيئة غير آمنة وغير عادلة تمنح الأفضلية لمن يمتلكون القوة الاجتماعية أو السياسية على حساب النساء. إن معالجة هذا العنف تتطلب نصوصاً قانونية واضحة، وآليات حماية فعالة، وإرادة سياسية تؤمن بأنّ المشاركة المتساوية للنساء ليست مكسباً شكلياً، بل شرطاً أساسياً لنزاهة الانتخابات وديمقراطية المجتمع.
كما أن ظاهرة إخفاء صور المرشحات في الدعاية الانتخابية ليست مجرد تفصيل شكلي أو قرار "تصميمي"، بل هي ممارسة تحمل دلالات عميقة وامتدادات خطيرة على حقوق النساء وحضورهن في الحياة العامة. حين تُزال صورة المرشحة من الملصق الانتخابي أو تُستبدل بوردة أو شعار، يتحول الأمر إلى جريمة أخلاقية وسياسية تعيد إنتاج الوصاية الذكورية التي تصادر حق النساء في الظهور والتمثيل وتضعهن في موقع "العار" أو "الممنوع". ويكرس هذا السلوك التمييز المباشر ضد النساء عبر الإيحاء بأن حضورهن المرئي غير مرغوب أو غير لائق، ما يشوه صورتهم كمواطنات كاملات الحقوق. إضافة إلى ذلك، فإن إخفاء الصور يحجب الوجود العام للمرأة ويمنع الناخبين من التعرف إلى المرشحات، فيتحول ترشحهن إلى مجرد رقم في القائمة بلا هوية ولا حضور، وهو ما يفرغ مشاركتهن السياسية من مضمونها. هذه الممارسة تكشف عن مقاومة اجتماعية مستمرة لقبول النساء في مواقع القيادة، وتشكل انتهاكاً واضحاً لحقهن في المشاركة السياسية المتساوية، ولمبدأ تكافؤ الفرص الذي تقوم عليه العملية الانتخابية.
بدل الخاتمة: أي نظام انتخابي نريد؟
عندما نتحدث عن النظام الانتخابي الذي يحتاجه الفلسطينيون اليوم، فنحن لا نبحث عن نموذج نظري أو نسخة جاهزة من تجارب الآخرين، بل عن نظام يعكس خصوصيتنا الاجتماعية والسياسية، ويستجيب لاحتياجات مجتمع متعدد البنى والولاءات والانقسامات. النظام المطلوب يجب أن يكون ثمرة توافق سياسي ومجتمعي واسع، لا قراراً منفرداً من جهة واحدة، بحيث يعبر عن الإرادة العامة ويحظى بشرعية تعزز الثقة بالمؤسسات. كما ينبغي أن يمتلك القدرة على تفكيك الهيمنة العائلية والحزبية التي سيطرت تاريخياً على كثير من الهيئات المحلية، وحالت دون تجديد النخب السياسية، وأضعفت مشاركة المستقلين والنساء والشباب. وفي جوهره، يجب أن يكون النظام الانتخابي قادراً على ضمان تمثيل فعلي شكلي للنساء والشباب عبر أدوات قانونية واضحة تضمن وجودهم وتأثيرهم داخل المجالس، بحيث لا يبقى حضورهم مرهوناً بالتوافقات أو المجاملات أو القوائم العائلية.
ولا يمكن لأي نظام انتخابي أن يحقق دوره ما لم يسهم في تعزيز السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي، خاصة في ظل الانقسامات الجغرافية والسياسية والعائلية التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني. وعليه، ينبغي أن يضم النظام قواعد تمنع تأجيج النزاعات المحلية، وتشجع على المنافسة الشريفة، وتضمن قبول الجميع بنتائج الانتخابات. كما يجب أن يرتكز هذا النظام على مبادئ النزاهة والشفافية والعدالة في كل مراحل العملية الانتخابية، بدءًا من تشكيل القوائم، مروراً بتمويل الحملات، وصولاً إلى فرز الأصوات وإعلان النتائج. فالنظام الانتخابي لا ينجح بمجرد تحديد طريقة الاقتراع، بل من خلال تأمين بيئة آمنة ونزيهة تحمي إرادة الناخبين من المال السياسي والضغوط الاجتماعية.
ومن الضروري أيضاً أن يعبر النظام عن واقع الحياة الحزبية في فلسطين، فلا يعزل الأحزاب ولا يطلق يدها بلا ضوابط، بل يخلق توازناً يسمح بتمثيلها دون أن يتحول الهيئة المحلية إلى ساحة صراع سياسي أو امتداد للانقسام الوطني. ورغم أنه لا يوجد نظام انتخابي مثالي، إلا أنه يمكن-وبشكل واقعي- فكل نظام يحمل نقاط قوة وضعف تتأثر بطبيعة المجتمع وبنيته السياسية والاجتماعية. تطوير نظام قادر على الحد من الفساد الانتخابي، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وتجديد الثقة بالانتخابات كأداة للتغيير. إن النظام الذي نريده هو ببساطة نظام يحترم الإنسان، ويحترم صوته، ويمنحه القدرة على اختيار من يمثله دون خوف أو إكراه، ويجعل من الهيئة المحلية مؤسسة خدمية وتنموية تعمل لكل الناس، لا لطبقة أو عائلة أو تنظيم بعينه.