اسفار التلمود تخالف تعاليم الرب عن سبق اصرار
الوصايا العشر والتي تشكل أساس الديانة اليهودية: لا تعبد غير الله، لا تصنع تمثالًا للعبادة، لا تُسيء لاسم الله، احفظ يوم الراحة، أكرم والديك، لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور ولا تشتهي ما لغيرك. كل هذه الوصايا تنتهكها أسفار التلمود، العدد والتثنية، يوشع، القضاة، الملوك الأول والثاني.
عند التأمل في النصوص الأساسية الموضوعة والتي شكّلت وعي الحركة الصهيونيةالديني والسياسي، يظهر تطور واضح لمفهوم “الأرض بالسيف”، من التشريع الديني الذي يخالف بوضوح التعاليم الربانية إلى التطبيق العسكري، ثم إلى الفوضى، وأخيرًا إلى السياسة المنظمة. هذا التسلسل يوضح كيف برّرت تلك النصوص العنف باسم الإله، وكيف تحولت فكرة الوعد الإلهي إلى مشروع عسكري وسياسي، بينما في جوهرها الأخلاقي والروحي الحقيقي لا علاقة لها بهذه الدموية.
في سفر العدد نجد المرحلة الأولى التي يمهَّد فيها الشعب المخترع للغزو: تنظيم القبائل، جمع الجيوش، تحديد الأدوار، وخوض معارك ضد مدن وشعوب محددة مثل مديان، مع تخصيص الغنائم للرب بما يشمل النساء والأطفال. هنا يبدأ التحول من التشريع النظري إلى التجهيز الفعلي، ويصبح النصر مرتبطًا بالطاعة المطلقة، فيما يظل البعد الديني ستارًا لأهداف بشرية وسياسية.
ثم يأتي سفر التثنية ليضع الأساس التشريعي الواضح للعنف، إذ تتضمن نصوصه أوامر صريحة بإبادة شعوب بعينها: الكنعانيين، الحثيين، الأموريين، الفرزيين، واليبوسيين، وبمستويات تشمل الرجال والنساء والأطفال وحتى الحيوانات، خصوصًا في المدن المحرّمة مثل أريحا وعاي وحبرون. يتم هنا تصوير الغزو على أنه واجب ديني، وكل قتل يُعرَّف باعتباره تنفيذًا لإرادة الله، بينما في الواقع تعكس النصوص مصالح بشرية وسياسية أعمق، بعيدة كل البعد عن الأخلاق والروحانية الحقيقية.
ويأتي سفر يوشع ليجسد المرحلة الثالثة: التطبيق العملي لما جاء في التثنية والعدد. تتوحد القوات لغزو المدن مثل أريحا وعاي، وتُنفذ أوامر الإبادة الجماعية، بما في ذلك أسر النساء والاستيلاء على الممتلكات، حيث يتحول الوعد المزعوم إلى مشروع عسكري ديني مكتمل، ويغدو كل انتصار برهانًا على “رضا الله”، رغم التناقض الواضح بين الرحمة الإلهية وفكرة الإبادة باسم الدين.
وفي سفر القضاة ندخل مرحلة الفوضى والانقسام، تستمر الحروب لكن وفق نزاعات محلية، والعنف يصبح جزءًا من ثقافة متكررة بلا ضوابط، يختفي الطابع المنظم، ويظهر الارتجال وضعف البنية السياسية والدينية، ما يكشف كيف تحولت النصوص الموضوعة إلى أدوات بشرية للصراع والسيطرة في تغييب متعمد للمشروع المرتبط بتعاليم الرب الحقيقية.
سفر الملوك يتقدم إلى المرحلة التي يتحول فيها العنف والوحشية والقتل إلى سياسة دولة ثابتة؛ شاول وداود وغيرهما يخوضون حروبًا توسعية وفق مصالح السلطة، وتُستخدم النصوص الموضوعة لتبرير بناء المملكة وتوسيع النفوذ. هنا يصبح “الوعد المزعوم بالأرض” غطاءً سياسيًا منظمًا، حيث تذوب الفواصل بين الدين والدولة، وتُسخّر النصوص لخدمة المصالح السلطوية بعيدًا عن أي معنى أخلاقي أو روحاني أصيل.
ومع مرور الزمن، اكتسبت هذه النصوص أبعادًا جديدة، ففي زمن أوليفر كرومويل في حقبة الجمهورية البريطانية، جرى توظيف النصوص الدينية الموضوعة لدعم فكرة إقامة وطن لليهود في فلسطين وفق الرؤية البروتستانتية التي تطمح لتسريع عودة المسيح. كرومويل استخدم الحاخامات وعلماء الدين ليقدّموا تشريعات تخدم أهدافه السياسية والدينية، ويضمن دعمًا ماليًا واقتصاديًا من التجار اليهود الذين قدموا قروضًا ضخمة لحروبه ونفقات الدولة. هذا يؤكد أنه تم استخدام النصوص كغطاء بما يخدم المصالح الاستعمارية السياسية والاقتصادية.
إن التسلسل بين الأسفار (العدد والتثنية ويوشع والقضاة وصموئيل والملوك) يوضح رحلة تحول هذه النصوص من تشريع بشري يفترض أنه ديني، إلى مشروع ميداني، إلى سياسة منظمة. وهذا يكشف أن العنف لم يكن مجرد وسيلة لإنشاء دولة في الماضي، بل نموذجًا جرى استحضاره لاحقًا لتبرير مشاريع سياسية جديدة. قراءة هذه النصوص دون سياق نقدي لبعدها عن تعاليم الرب يجعلها ذريعة للظلم والانحياز، بينما تظهر القراءة الدقيقة أنها تعكس مصالح بشرية وسياسية أكثر من أي إرادة إلهية.
ومن زاوية التحليل، توضّح هذه الأسفار الأساس الفكري الذي جرى استخدامه لاحقًا لتبرير الاستيطان والسيطرة، بما في ذلك المشروع الصهيوني الحديث الذي اعتمد على فكرة “الأرض الموعودة”، فكرة طرحها الملحد ثيودور هيرتزل كوعد الهي وكغطاء رمزي وقانوني للتوسع على حساب السكان الأصليين. تقدم النصوص صورة عن كيفية تحويل الدين إلى أداة سياسية، وعن كيفية استخدام الأوامر المزعومة لتصفية مجتمعات وتأسيس على أنقاضها.
الفهم النقدي لهذه النصوص يفرض التمييز بين إرادة الله الحقيقية التي تركز على العدالة والرحمة، وبين النصوص البشرية التي وضعت أصلاً لخدمة مصالح سلطوية واستعمارية. هذا الإدراك يجعل النصوص جزءًا من تاريخ طويل من الاستغلال السياسي للدين، ويثير السؤال الأخلاقي العميق: لماذا يُستخدم الدين لتبرير مشاريع استيطانية؟
في الختام، فإن رحلة النصوص من العدد إلى الملوك تعلمنا أن قراءة الأسفار يجب ألا تقتصر على الدين، بل تشمل التاريخ والسياسة والاجتماع ضمن تحكيم العقل والمنطق. علينا فهم كيفية استخدامها لاحقًا، سواء في فترات الاستعمار الأولى أو في زمن كرومويل. هذا يساعد على كشف جذور السياسات المعاصرة، ويبين العلاقة المعقدة بين الدين والعنف والسيطرة، ويمنحنا الفرصة لقراءة نقدية تحمي القيم الإنسانية من الاستغلال. الحقيقة الجوهرية هي أن هذه النصوص كانت أدوات بشرية لتثبيت النفوذ وتبرير الاستيلاء، وأن ذكر المدن والشعوب عبر الأسفار يكشف كيف جرى توظيفها لخدمة مشاريع سياسية متعاقبة بعيدًا عن الرحمة والعدالة التي يفترض بالدين الحقيقي أن يمثلها.