غزة والمستقبل الوطني… كيف ينقذ الفلسطينيون مصيرهم المهدد؟
بعد أكثر من عامين من الحرب الأكثر وحشية منذ النكبة، و رغم الإعلان عن وقف إطلاق النار ، يبدو المشهد السياسي أكثر تعقيداً وتناقضاً من أي وقت مضى. فليس صحيحًا أن إسرائيل تتعامل مع غزة كملف إنساني أو أمني، بل كفرصة استراتيجية لإعادة هندسة الوضع الفلسطيني بالكامل. في الوقت نفسه، تظهر القوى الدولية الكبرى، سواء الولايات المتحدة أو أوروبا، تردداً واضحاً في مواجهة توسعية الاحتلال ودمويته، مكتفية بإدارة الأزمة دون معالجة جوهرها. أما البيت الفلسطيني، فلا يزال أسير الفئوية والانقسام. فالحسابات الفئوية باتت تشكل هي الأخرى خطراً على المصير الوطني وحقوق شعبنا التي كَلَّفته أعظم وأغلى التضحيات .
في هذا الواقع يصبح السؤال الجوهري: كيف ينقذ الفلسطينيون مصيرهم المهدد وسط التوسع الصهيوني الدموي والتواطؤ الدولي والضعف العربي.
التوسعية الفاشية واستهداف وقف إطلاق النار
إسرائيل اليوم، بقيادة نتنياهو وحكومته المتطرفة ذات النزعة الفاشية، لا تبحث عن تسوية أو حل سياسي، بل عن فرض السيطرة الكاملة على الأرض والموارد الفلسطينية.فهي لا تريد دولة بحدود واضحة، أو سيادة فعلية، أو وحدة جغرافية. أي اقتراح لإنشاء سلطة فلسطينية يجب أن يكون بلا صلاحيات حقيقية، وخاضعاً لسلطتها الأمنية، بعيداً عن أي قدرة على اتخاذ قرار سياسي مستقل،كما أن أي خطوة فلسطينية نحو الوحدة أو سلطة موحدة تُعتبر تهديداً مباشراً لمشروعها التوسعي.
تفكيك البنية الوطنية وفق “الدفتر الإسرائيلي”
الاحتلال يسعى لإعادة هندسة السلطة الفلسطينية من خلال فرض “إصلاحات” تشمل المناهج، والرواية الوطنية، ومكانة الأسرى المحررين، وطبيعة دور المؤسسات. الهدف ليس إصلاحاً إدارياً، بل تحويل السلطة إلى جهاز وظيفي في خدمة مشروع الاحتلال، ويقتل أي قدرة على إدارة الشأن الوطني. هذه السياسات تؤكد الطابع العنصري في النهج الإسرائيلي، الذي يرفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
إبقاء غزة في فراغ دائم
كما تسعى إسرائيل إلى إبقاء أكثر من نصف قطاع غزة تحت سيطرتها المباشرة. الأمر الذي يجعل أي اتفاق على وقف إطلاق النار هشاً للغاية، بل ويهدد استمراره. أطماع إسرائيل التوسعية، وموقف نتنياهو المتطرف والفاشي الرافض لإنهاء الحرب والاحتلال، يخلق بيئة تجعل العودة إلى سياسة القتل الجماعي أو الإبادة، تحت غطاء دولي، احتمالاً قائماً في حال انهيار الاتفاق. فالاحتلال لا يخشى العقوبات أو العزلة طالما أن القوى الكبرى تتحرك بحذر أو تتجنب المواجهة المباشرة، إن لم تكن متواطئة معه.
القوى الكبرى: الاعتراف الرمزي بلا التزام عملي
رغم تزايد التصريحات الداعمة لإنشاء الدولة الفلسطينية، يظل هذا الاعتراف بلا مضمون طالما لم يُترجم إلى خطوات عملية على الأرض، وهذا يعود لغياب الإرادة الإقليمية والدولية في مواجهة إسرائيل . فأي مسار سياسي جاد يتطلب فرض خطوط حمراء على الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، وهو ما تتجنبه واشنطن والعواصم الأوروبية. هذا بالاضافة إلى أن الكثير من الدول تعلن “دعم الدولة الفلسطينية”، لكنها لا تحدد حدودها، أو السيادة، أو الآليات العملية لجعلها حقيقة على الأرض.
الفئوية الفصائلية : خطر على المصير الوطني
بعد أكثر من عامين من الحرب، أصبح الانقسام الفلسطيني حاجزاً أساسياً أمام أي حل سياسي.فالنزاع على الشرعية يغطي على القضايا الوطنية الجوهرية، كما أن الفئوية لم تعد مجرد خلاف سياسي، بل بنية مركبة تشمل مصالح فصائلية وتحالفات إقليمية، وهيمنة على الموارد في غزة والضفة. هذه الفئوية تقدم هدية لإسرائيل كي تستمر في سيطرتها، وتعطيل أي مسار سياسي جدّي، وتضع القوى الدولية في موقف تبريري للجمود. أمام هذه المخاطر لم يعد بالمكان احتمال مثل هذه الفئوية، أو استمرار الاختباء خلف جرائم وسياسات العنصرية الصهيونية. ولذلك فإن السؤال اليوم ليس فقط عن وقف إطلاق النار، بل عن كيفية إنقاذ الفلسطينيين لمصيرهم المهدد وإعادة المبادرة السياسية إلى أيديهم.
حكومة التوافق: مخرج سياسي واقعي
في ضوء التصلب الإسرائيلي، والتردد الدولي، والانقسام الفلسطيني، لم يعد بالإمكان ضبط الأجندة الوطنية بما تريده اسرائيل أو ما ترفضه، فهي لا تريد سوى شطب القضية الفلسطينية حتى لو تم الالتزام بكل شروطها، وهنا يصبح الحل الوطني الواقعي، والذي يضع حدًا للفئوية الضيقة والضارة، هو الإسراع في تشكيل حكومة توافق وطني انتقالية وغير فصائلية، بحيث يتفق الكل الوطني على دورها وأولوياتها الوطنية، وبما يضمن وحدة القرار السياسي والإداري على الضفة وقطاع غزة معاً، ويعيد الاعتبار للشرعية الوطنية التوافقية، لمدة زمنية يتفق عليها، بحيث لا تتجاوز العامين، تركز خلالهما على إعادة إعمار القطاع وإعادة الأمل لشعبنا فيه، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية وتوحيدها، وتهيئة المناخات السياسية والأمنية لضمان اجراء انتخابات عامة وشاملة. فالإصلاح الذي يحتاجه الشعب الفلسطيني بالأساس هو إصلاح سياسي وطني حقيقي، لا وفق “دفتر اسرائيلي غربي”، إصلاح يصون الرواية الوطنية، ومكانة المناضلين وفي مقدمتهم الأسرى المحررين وأسر الشهداء، ويضمن استقلال القرار السياسي، بعيداً عن الضغوط الإسرائيلية والخارجية.اختبار جدية الدول العربية والأجنبية بالدعم الفعلي للحقوق الفلسطينية والدولة الفلسطينية، مرتبط تمامًا بمدى جديتها في مساعدة الفلسطينيين في استرداد وحدتهم الكيانية والجغرافية ، الأمر الذي يعني تشجيعهم على إنشاء مثل هذه الحكومة كبوابة سياسية لمسار اعادة بناء وتوحيد النظام السياسي وقدرته على استعادة المسار الديمقراطي، والكيانية الوطنية الموحدة، كركيزة أساسية لقيام الدولة الفلسطينية، وممارسة حق تقرير المصير، وليس الاكتفاء بالخطاب الرمزي حول الدولة.
هذه الحكومة هي المعيار الحقيقي لقدرة الفلسطينيين على البدء بتوحيد مؤسساتهم، واستعادة المبادرة السياسية، وحماية وقف إطلاق النار من الانهيار أمام الأطماع الإسرائيلية.فأي اتفاق مؤقت على وقف إطلاق النار سيظل هشًا ما لم يترافق مع إطار سياسي فلسطيني قوي. إسرائيل، بقيادة حكومة نتنياهو الفاشية، ترى في الفراغ السياسي فرصة للحفاظ على السيطرة، وتأجيل أي نقاش حول الدولة، وفرض شروطها الأمنية والسياسية على الفلسطينيين، أما القوى الدولية الكبرى، رغم إدراكها لذلك، فهي تتجنب المواجهة المباشرة، ما يجعل أي تهدئة عرضة للانهيار، ويجعل العودة لسياسات القتل الجماعي أو الإبادة احتمالاً قائماً.
إن التنفيذ الفوري لما سبق أن اتفق عليه في بكين، وخاصة تشكيل حكومة الوفاق بات المقياس الحقيقي لإرادة الحل، في اختبار الأطراف الفلسطينية، ولكل دولة عربية أو غربية تتحدث عن دعم قيام دولة فلسطينية، ولكل جهة ترى نفسها شريكًا جديًا وذو مصداقية في إنهاء الصراع. أي خيار آخر سيبقى مجرد إدارة أزمة، لا بناء مستقبل فلسطيني مستقل ، وسيظل وقف إطلاق النار هشًا أمام الأطماع الإسرائيلية العنصرية والتوسعية، وتحديات الاحتلال الفاشي بقيادة نتنياهو أو غيره من أقطاب اليمين الصهيوني.