محاكمة ميلوخ القرن امام المحاكم الدولية شهادة على سقوط كيانه الأخلاقي
إن ظهور اسم “مولوخ” في النصوص القديمة، يشعر القارئ وكأنه أمام ظل كثيف خرج من قلب التاريخ، إله غامض لا يعرف الناس شكله الحقيقي(رغم ان البعض يصوره بجسد انسان وراس ثور) تفاصيل عبادته غامضة ومبهمة، ومع ذلك ظل حاضرًا كرمز للوجه المظلم لكل الهة الشر.
مولوخ هو الاسم الذي التصق بفكرة ذبح الاطفال وتقديمهم قرابين ،ولا زال يمثل النار التي تلتهم “الزرع”، وطقوس القرابين من الاطفال التي حرّمها سفر اللاويين بشدة غير مسبوقة، وكأن النص يريد أن يقول إن هناك خطوطًا حمراء لا تتعلق فقط بالإيمان، بل بإنسانية المجتمع نفسه، وأن عبور تلك الخطوط يعني السقوط من القداسة إلى الهمجية.
عندما نتعمق في نصوص سفر اللاويين، نرى أن الكاتب يتعامل مع مولوخ ليس بوصفه مجرد إله غريب، بل بوصفه الخطر الذي يهدد بنية الجماعة. لذلك يأتي التحذير قاطعًا: “لا تعطِ من زرعك لمولوخ”؛ وكلمة “زرعك” ليست مجرد وصف للأطفال، بل اختزال لمعنى الحياة والاستمرار.
إن الطقوس التي تقوم على ذبح الأطفال وتقديمهم قرابين اضافة الى تدميرمستقبل الناس لا يمكن أن تكون سوى طقوس للدمار، لذلك ربط سفر اللاويين مولوخ بتدنيس اسم الله، لأن هذه الممارسات تمثل تحديًا صارخًا لفكرة القداسة نفسها، اللافت أن العقوبة التي يشرعها سفر اللاويين ليست دينية فقط، بل اجتماعية صارمة، فالشعب كله مطالب بتنفيذ رجم من يعطي ابنه لميلوخ، ومن يلتزم الصمت ويغض الطرف يُعتبر متواطئًا، هذا التشدد يظهر أن النص لم يُكتب خوفًا من أسطورة أو خيال، بل خوفًا من خطر واقعي كان موجودًا حولهم وربما داخلهم أيضًا..
عندما ننتقل من النصوص النظرية إلى الأدلة الأثرية، نجد أنفسنا أمام صورة معقّدة، مواقع الـTophet في قرطاج وصور وصيدا تثير أسئلة لا تنتهي، اوعية فخارية صغيرة فيها عظام أطفال محترقة و ركام من الرماد، اضافة الى كتابات قصيرة على ألواح حجرية، كلها دفعت بعض الباحثين إلى القول إن هذه ساحات لطقوس القرابين البشرية.
كل ما سلف يشكل أدلة عمرية على أن بعض الرضّع ذُبحوا أو ماتوا ثم أُحرقوا ضمن طقوس مما يثير الشكوك بانهم من ضحايا ميلوخ ومع ذلك لا يمكن الجزم المطلق حيث هناك دراسات أخرى تقول إن هذه الجرار قد تكون مقابر مخصّصة للأطفال الذين ماتوا طبيعيًا، وإن علامات الحرق قد لا تكون دليلًا على ذبيحة بل على طقس من طقوس الدفن الخاصة، لذلك بقي العلماء منقسمين، فريق يرى أن قرطاج مارست بالفعل قرابين الأطفال، وفريق يرى أن الأدلة غير كافية، وأن روايات الرومان أعداء قرطاج قد تكون مغرضة و دعاية سياسية،من هنا يتحول ميلوخ من مجرد اله الى ساحة صراع بين العلم والأسطورة والسياسة والتاريخ.
رغم الخلافات في التفسير ، تظل حقيقة واحدة واضحة، ان ميلوخ أصبح رمزًا عالميًا لكل سلطة مستعدة لاستهلاك الإنسان حرفيًا أو رمزيًا لتبقى هي، لذلك لم يكن غريبًا أن يعود الاسم بقوة في الزمن الحديث، لا عبر النصوص المقدسة، بل عبر قصص وروايات ونظريات مؤامرة، أبرزها تلك المتعلقة بجزيرة جيفري إبستين. المبنى الغريب بقُبّته الذهبية وخطوطه الزرقاء والبيضاء، والذي انتشرت صوره عالميًا، بدا للكثيرين كأنه “معبد” لطقس غامض.
مع انتشارفضائح إبستين، كان من السهل جدًا على المخيلة الشعبية أن تلصق به اسم “ميلوخ”. البشر بطبعهم يبحثون عن رموز، وحين تتوفر رمزية قوية مثل ميلوخ، يصبح الربط تلقائيًا،
حتى اللحظة ليس هناك اثبات علمي يدعم كل ما قيل عن “معبد ميلوخ” في جزيرة إبستين ،فحتى تاريخة لا نمتلك دليل حقيقي. المبنى، بعض من دخلوا إليهيقولون انه لم يكن سوى غرفة موسيقى أو جناح استراحة، وأن الباب الزائف ليس بابًا، وأن ما يبدو “معبدًا” هو مجرد بناء غريب الطراز،فلا رموز دينية، لا تماثيل، لا شواهد أثرية، ولا وثائق تشير إلى أي عبادة.
اما البعض الاخر ممن دخلوا الى المبني اشار ولو بشكل مبهم الى امكانية استخدام المبنى لتلك الطقوس ،فالشكل الغريب للمبنى يطرح الكثير من الاسئلة ، فظل تاريخي مثل ميلوخ يفتح الباب على مصراعية لكي يُنسج عالم كامل من الحكايات بعضها حقيقي وبعضها من الخيال ، حيث ان البشر يكرهون الفراغ ويريدون تفسيرًا للغموض، والغموض حين لا يُفسّر يُملأ بالأساطير.
إن الربط بين ميلوخ وإبستين ليست اعتباطياً بالكامل. صحيح أنه لا يوجد جزم ان هناك معبد ولا قرابين، لكن الفكرة الأساسية فكرة استغلال الضعفاء والتضحية بالبشر من أجل شهوة أو سلطة تخلق خطًا ثقافيًا يمكن للقارئ أن يتتبعه عبر الأزمنة، من ساحة الطقوس القديمة إلى قصص العبودية الحديثة، من مقابر الأطفال في قرطاج إلى شبكات الاستغلال المعاصرة، هنا يصبح ميلوخ رمزًا مستمرًا، ليس لأنه إله حقيقي، بل لأنه مرآة للجانب المعتم في النفس البشرية.
ما بين النصوص الدينية والآثار وتاريخ البحر المتوسط والخيال الشعبي المعاصر، يبقى ميلوخ قصة لا تقلّ تعقيدًا عن البشرية نفسها،حيث ليس بالضرورة ان يكون إله حقيقي ، بل يكفي ان يكون فكرة تتكرر بأشكال مختلفة عبر الزمن، كل سلطة تحرق الأبرياء هي شكل من أشكال ميلوخ، وكل مجتمع يسكت عن الظلم يعيد إنتاج الطقس القديم بطريقة جديدة. لذلك حين نكتب عن ميلوخ فنحن لا نفسر الماضي فقط بل نترجم الواقع أيضًا.
في الختام، لسنا بحاجة إلى ميلوخ الصنم النحاسي، ففي غزة تكدست جثث الصغار تحت الركام، وبدا المشهد وكأن الإنسانية تُذبح مرة أخرى أمام مذبح السلطة. ومع أن القانون الدولي اتّهم نتنياهو بارتكاب جرائم خطيرة بحق المدنيين، وغالبية الضحايا من الأطفال، فإن الصورة التي تتشكل هي صورة قائد يقدّم أجيالًا كاملة لجحيم الحرب، لا دفاعًا عن حياة مهددة، بل تكريسًا لهيمنة لا تختلف عن ما فعله ميلوخ في النصوص القديمة. من هنا، يصبح الطفل الفلسطيني رمزًا للبراءة المذبوحة، ويظهر نتنياهو كميلوخ جديد، الذي، بذريعة الدين، يريد أن يبني أمجاد دولته على جثث الأبرياء وكأنها قرابين. واتهامات المحاكم الدولية لنتنياهو وحكومته بالإبادة الجماعية تضعه في ميزان ميلوخ، وتشكل شهادة دامغة على سقوط حكومة إسرائيل الأخلاقي قبل أي سقوط سياسي.