"ومن تطوّع خيراً فإن الله شاكرٌ عليم"
في الخامس من ديسمبر من كل عام، يحتفي العالم بـ«اليوم العالمي للتطوّع»، ليس كفعالية رمزية تُرفع فيها الشعارات وتُلتقط الصور، بل كوقفة تأمل في جوهر الإنسان حين يعطي. منذ اعتماد هذا اليوم عام 1985 من الأمم المتحدة، اتضح أنّ التطوّع ليس نشاطاً هامشياً يقوم على فائض الوقت، بل ضرورة حضارية لحفظ التوازن في عالمٍ تحكمه السرعة والمصالح والفردانية.
وحين نعود إلى أصل الفكرة، نجد أن القرآن يلخصها في ومضة نور:
﴿ومن تطوّع خيراً فإن الله شاكرٌ عليم﴾.
أن يشكرك الله ،،، أي منزلة هذه؟ أي جمال أعمق من أن يرى الخالق فعلك الصغير فيسجّله في ميزانٍ لا يضيع؟ الخير لا يحتاج صخباً، ولا انتظاراً لثواب الناس؛ يكفي أن يكون خالصاً، وسيكفيك أن الله «شاكرٌ عليم».
التطوّع في جوهره ليس وقتاً يُبذل فحسب، بل معنى يسطع. هو حضور أخلاقي قبل أن يكون جهداً عملياً، فعل مقاومة ضد اللامبالاة في عالم يميل إلى الانغلاق على الذات. كل يد تمتد للمساعدة تعلن أن الإنسان ما زال قادراً على الخير. ومع تعدد الأزمات الاقتصادية والصحية والتعليمية، يصبح المتطوع صوت الأمل الذي يرفض الاستسلام.
وفي الميدان، هناك من يكتبون معنى التطوع بالدم والعرق والوقت:
متطوّعو الإسعاف في الهلال الأحمر الفلسطيني وفي مؤسسات الطوارئ الصحية الأخرى.
هؤلاء الذين يركضون نحو الألم بينما يهرب منه الجميع.
الذين يخرجون في الليل والمطر والعدوان، يحملون الأكسجين والضمادات والرحمة في آن واحد.
كم من حياة أُنقذت لأن متطوعاً قال: "أنا قريب ،، سأصل"؟
وكم من جريح وجد كتفاً يتكئ عليه قبل أن يجد سريراً في المستشفى؟
إليهم - لهؤلاء الجنود بلا رتب - نقدم الامتنان كله:
شكراً لمن يسابق الزمن ليصل أولاً.
شكراً لمن يضع خوفه جانباً ليحمي حياة مجهول.
شكرا لمن حمل نقالات الجرحى في الشوارع والغارات والمخيمات.
شكراً لأنكم تصنعون الفرق بين الفقد والنجاة.
وعلى المستوى التربوي، يتحول التطوّع إلى مدرسة قيم لا تبنيها المناهج وحدها. فالطفل الذي يشارك في مبادرة خيرية يتعلم التعاطف، والطالب الذي يساهم في نشاط مجتمعي يدرك معنى المسؤولية. إدماج التطوّع في التعليم بات ضرورة فهو إطاراً لتشكيل الوعي الأخلاقي عبر مشاريع خدمة مجتمع، ساعات تطوّع جامعية، مبادرات طلابية، وأنشطة تضامن في الأزمات.
هكذا نتعلم أن العلم لا يُحفظ فقط، بل يُترجم إلى أثر. وأن القيمة ليست فيما نعرف، بل فيما نفعل بما نعرف.
التطوّع أيضاً فعل شفاء. من يساعد مريضاً يشفي جزءاً من خوفه. من يقف مع طفل يتيم يربّي إنسانيته. من يزرع شجرة يكتب سلاماً مع الأرض. الخير لا يُقاس بحجمه، بل بدافعه؛ ومن كانت نيته نوراً فعمله عند الله حاضر -شاكرٌ عليم.
في اليوم العالمي للتطوع، ليست الدعوة إلى الاحتفال بقدر ما هي دعوة للفعل:
أن يختار كل فرد مساحة خير يقف فيها.
أن تتحول المدارس والجامعات إلى حاضنة قيم ومبادرات.
أن يكون التطوّع أسلوب حياة، لا موسماً.
قد لا نغيّر العالم كله، لكننا نستطيع أن نغيّر زاويا منه. ومن هذه الزوايا الصغيرة بُنيت حضارات كبرى.
ومن تطوّع خيراً فإن الله شاكرٌ عليم.
فطوبى لمن جعل من عمره أثراً، ومن يده جسراً، ومن روحه ضوءاً يكفي ليهدي الطريق.