الميلاد تحت القَهر، حين تتكرر طريق درب الآلام
مع اقتراب ذكرى ميلاد السيد المسيح ، رسول المحبة والسلام ، وصاحب الرؤية في مواجهة القهر والأضطهاد ، لا يستطيع الفلسطيني أن يتعامل مع هذه المناسبة بوصفها طقساً دينيا أحتفالياً مجرداً ، منفصلاً عن الواقع الفلسطيني المعاش . فالمسيح ، كما أستقر في وعينا الجمعي ، لم يكن أبن معبد متصالح مع الظلم ، بل صاحب رسالة حق أصطدمت بمصالح كهنة الهيكل حين حوّلوا الإيمان إلى تجارة ، والقداسة إلى سلعة ، فواجههم وقاومهم ودفع ثمن موقفه صلباُ على طريق الحقيقة .
ذلك الدرب من الآلام والشهادة ، ما زال شعبنا الفلسطيني التواق إلى كرامة الحياة الحرة والجميلة ، يسير فيه حتى اليوم ، عبر عقود طويلة من الظلم التاريخي المفروض قسراً على مرأى ومسمع من العالم أجمع . ففلسطين ، التي شهدت الميلاد الأول في مغارة بيت لحم ، ثم القيامة من على الجلجلة بجبل الزيتون بالقُدس ، بما تمثله من انتصار للنور على الظلمة والحق على الباطل ، ما زال شعبها يُجبر على السير في مسيرة درب الآلام ذاتها ، وبالقهر نفسه ، ولكن بوجوه وسلطات متجددة ، لا تختلف في الجوهر بل ربما تفوق سابقتها عنصرية وأضطهاداً وقهراً وأجراماً . شعب يُحاصر ويُقتل ويُهجّر ، ويُطلب منه في الوقت ذاته أن يحتفل ، أو أن يصمت ، أو أن يتكيّف مع القهر بوصفه قدراً . لكنه شعب عظيم ، يُصر على الصمود والمقاومة ، وعلى أن يحتفل بطريقته ، ليذكّر العالم بأطفال غزة الذين يُحيطهم عيسى أبن مريم بمحبته .
في القُدس المحتلة ، تتجلى هذه المفارقة بأوضح صورها . ففي الوقت الذي تفرض فيه بلدية الأحتلال إجراءات تقيد حق المسيحيين الفلسطينيين ، ومعهم شركاؤهم من أبناء شعبنا المسلمين ، في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية وكرامة ، وآخرها منعهم حتى من الوصول إلى باب الجديد للإحتفال بسبت نور القيامة ، تتواصل في المقابل الاقتحامات التهويدية للمسجد الأقصى المبارك ، ويتسارع تغيير الوضع الديمغرافي والقانوني للمدينة المقدسة ، في خرق فاضح لكل القرارات الدولية ولمكانة القُدس التاريخية والسياسية . ويتكامل ذلك مع دور الجمعيات الأستيطانية في الأستيلاء على عقارات الكنائس التاريخية في حارة النصارى وباب الخليل وميدان عُمر والطالبية وحي الأرمن وغيرها ، عبر صفقات مشبوهة ومؤلمة ، فضلاً عن مشاريع قوانين تسعى لتحويل المسجد الأقصى من مكان مقدس للمسلمين إلى موقع عام يُفتح للأقتحام والفرض بالقوة .
وفي مشهد دعائي مضلل ، تنظم بلدية الأحتلال هذه الأيام أسواقاً ميلادية ، وتُزين شجرة الميلاد في محيط باب الجديد ، في محاولة مكشوفة لأسرلة الحي وتهويده ، وتجميل وجه الأحتلال البشع أصلاً . مشهد لا يَحترم روح الميلاد ، بل يسعى لفرض الإحتفال من أعداء رسالة المسيح على أتباعه ، وتحويل المناسبة إلى أداة سياسية تخدم مشروع الأحتلال العنصري .
وهنا يبرز السؤال الأخلاقي الجوهري ، كيف يروّجون للإحتفال بعيد الميلاد فيما يقصفون كنائس غزة والجنوب اللبناني ، كما تُقصف مساجدها ، ويَقتلون الأبرياء تحت أنقاض دور العبادة والبيوت والمدارس ؟ وكيف يُفرضون الأحتفاء بالميلاد في الوقت الذي يعتدي فيه مستوطنوهم على الكنائس والمساجد في قرى فلسطين ، ويحاصرون بيت لحم بالحواجز وبالتوسع الأستيطاني ، ويكتبون شعارات عنصرية على جدرانها ، ويعتدون بالضرب على الرهبان في ساحة كنيسة القيامة ؟ أليس ذلك انتهاكا صارخاً لقُدسية المكان والإنسان معاً ، ينسجم تماما مع طبيعة مشروعهم الأستعماري الأحلالي القائم ؟
الأخطر من ذلك هو القبول أو الصمت ، أمام محاولات بلدية الأحتلال إختطاف عيد الميلاد لخدمة مشاريعها الخبيثة ، وفرض التهويد المتدرج على مداخل كنيسة القيامة ، كما على سائر أبواب القُدس ، في الوقت الذي تدّعي فيه هي وحكومة الأحتلال الحفاظ على الوجود المسيحي ، بينما تعمل فعليا على إضعافه ، إن لم يكن دفعه نحو التلاشي . هذا الواقع يستدعي من رؤساء الكنائس في القدس للأرتقاء إلى مستوى الصرخة الأخلاقية ، بل السياسية والقانونية ، لحماية ما تبقى من الوجود المسيحي الأصيل الممتد منذ الفي عام ، بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الفسيفساء الفلسطينية الجميلة .
ويزداد الألم حين نقارن هذا الصمت أحياناً بسرعة إدانة الكنيسة المحلية لجرائم إرهابية وقعت خارج فلسطين ، وهي جرائم نُدينها نحن دون تردد ، بل وندينها أكثر ، لأن شعبنا الفلسطيني كان ولا يزال الضحية الأولى للإرهاب المنظم لدولة الأحتلال منذ ما قبل النكبة وحتى اليوم ، مرورا بما يجري من تطهير عرقي في غزة ومخيمات الضفة الغربية .
إن الميلاد في جوهره ، ليس زينة ولا أسواقاً ولا تواطؤاً مع الجلاد ، ولا ازدواجية معايير من البعض الدولي . الميلاد موقف إلى جانب المظلوم ، وصرخة في وجه القهر وانحياز أخلاقي للحق وحماية لما تبقى من هذا الوجود الأصيل ، الذي لم يعد يتجاوز بضعة آلاف في مدينة القيامة والأقصى الشريف . وكل ميلاد لا يُترجم هذا المعنى بفلسطينيته ، يبقى احتفالاً ناقصاً ، مهما أزدانت الشوارع وتلألأت الأضواء .
ما نطلبه اليوم من بطاركة ورؤساء الكنائس هو الأنخراط الصادق مع شعب هذه الأرض للحفاظ عليهم وعلى تُراثهم الوطني من أوقافهم ، ومع المؤسسات المسيحية والإسلامية الوطنية ، ورجالات القدس المخلصين في مقاومة تهويد المدينة وأسرلتها ، وفي وقفة ضمير وحق بوجه بلدية وسلطات الأحتلال . فهذا هو المعنى الحقيقي لرسالة ميلاد المسيح ، الذي وصفه قائدنا الراحل ياسر عرفات بالثائر الفلسطيني الأول المنبعثة رسالته إلى الإنسانية من قلب فلسطين ، حاملة معاني الكرامة والعدل والسلام .
فنحتفل اليوم بوعي وحذر ، كما جاء في رسالة الميلاد الصادرة من القُدس من أجل العَدل ، لأننا نعيش تحت خطر الموت والحرب والتهجير في غزة والقُدس ، وفي كل فلسطين ، نحتفل من أجل أطفالنا ووجودنا ، لا فرحاً بالقهر ، بل مقاومة له . إنها جدلية الميلاد المجيد والسردية الفلسطينية الأصيلة ، أنه ميلاد تحت القهر ، لكنه مشبع بالأمل وبالحق وبمستقبل أكثر أشراقاً لأحباء الحياة .