الشبيبة والطلبة عقل حركة فتح المتمرد

2025-12-29 10:32:26

نقدم هذه الورقة  بمناسبة الانطلاقة 61 للثورة والمقاومة الفلسطينية المعاصرة، وانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح  (1965م-2026م) على يد القادة المؤسسين، والرواد الأوائل حيث  أدركوا  الواقع، ثم رفضوه عملًا لا شعارًا براقًا فأسقطوا زمن الركود  العربي والإلحاق والتبعية وسحق الهوية والنضالية والانبعاث.

 واستبدلوه بزمن الفعل الناجز باتجاه البوصلة، أي من أجل فلسطين المستقلة، فكرسوا  عبر  الجهاد والنضال والكفاح المتعدد، وحرب الشعب طويلة النفس: الهوية  الفلسطينية الجامعة، والوطنية النضالية،  والحضارية ضمن أمتنا، والوسطية والوحدوية والثورية في العطاء والتفكير والعمل لتحرير فلسطين الذي مازال مستمرًا بأشكال وأساليب مختلفة .

كما كرّس القادة الأوائل بفكرهم  الانبساطي الانفتاحي -لا الفكر السوداوي المغلق المقدس لذاته- وبقيمهم وأخلاقهم الحميدة، وبإيمانهم العميق بالله سبحانه وتعالى، وفلسطين والنصر، ومواقفهم  التاريخية المشهودة  كرسوا  فكرة الاحتضان والرحابة للجميع-وأحيانًا بحدها الأقصى لدرجة الفوضى والألم والشِقاق- والمحبة والحوار، والديمقراطية والمدنية للدولة لكل الشعب .

وكان مما ورثناه عنهم  رحمهم الله أجمعين  (غالبهم شهداء وقلة من الأحياء الشهداء) باحترام  وتقديرعقلية  الرفض الملتزم والمعارضة لقرارات أو بعض مواقف القيادة أو بعض  تصريحات القادة بمكانها الصحيح، وبأدب الاختلاف وعّفة اللسان (لا تخوين ولا تكفير ولا تعهير)، ورفض عقلية التجييش والانصياع والتدليس والتهييج والتضليل.  بل إطلاق  عقلية النقد المجاورة لعقلية العطاء والابداع هذه بيد، وتلك باليد الأخرى.

 فكان النقد والنقد الذاتي وكان الاعتراف  بالاخطاء،  والخطايا (ضمن الأطر أو علنًا حسب الموقف وبما هو التزام بالنظام الداخلي ونقد المواقف لا الشخوص) والمراجعات اللازمة، و الرفضوية والنهوض بعد كل كبوة أو نكسة أونكبة أو فجيعة أو بائقة.

 ورثنا ، وطوّرنا أنفسنا في بيئة الحركة الوارفة الظلال-رغم مكامن التقصير والفشل  التنظيمي الواضحة التي نعيها ونحاربها بشراسة الراغب بالإصلاح والتغيير- عقلية  ثبات المرجعيات، والابداع والتجدد وعقلية  التدبّر والتفكر والتأمل والنقد للمآلات، وتفحص ورفض ونقد النتائج الفظيعة ما بين نجاحات أو اخفاقات وفشل وانهزامية.

 والتي نحن اليوم نعيش أفظعها، أي مقتلة  قطاع غزة الفلسطيني (وما يحصل بالضفة الفلسطينية) والإبادة  الفاشية العرقية فيه (2023-2025م)، وما هو  إلا النكبة الثانية بل أشد وأقسى من غالب حروب العالم برمته  خلال أكثر من قرن من الزمان.

كان الاوائل من المؤسسين والرواد كبارًا وقدوة ونماذج -وبالقدوة نقتدي ونسير-وعلى رأسهم الزعيم ياسر عرفات، وأبوجهاد وعادل عبدالكريم، وأبوعلي إياد، وصلاح خلف أبوإياد، وسعد صايل، وعبدالفتاح حمود، وكمال عدوان وخالد الحسن وماجد أبوشرار ، وأبوصبري، وهاني الحسن، ومحمود عباس، وأبوماهر غنيم، وسليم الزعنون،   وأبويوسف النجار، وأبواللطف، وعباس زكي وفيصل الحسيني ونبيل شعث، ونصر يوسف، وأبوعلاء قريع، وصائب عريقات...والكثير الكثير منهم بيننا وفينا.

لقد كان جلّ المؤسسين  لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة حين الانطلاقة من الشباب المؤمن والواعي والمبادر ، وعليه آثرنا أن نجعل  هذا الملف، و هذه الذكرى مخصصة للشبيبة  والطلاب عقل التمرد والمعارضة الملتزمة بالفكرة حيث تتموضع فلسطين، وبالمؤسسة والنظام، لا بالأشخاص.

 ومنهم وعلى دربهم رغم كل الصعاب والمآزق والرزاياالحالية وسوء الوضع الى درجة كارثية عظمى،  سيكون تواصل الانطلاق والجهاد والنضال، والفعل الناجز والاشتباك في مواجهة العدو الأساس والتناقض الرئيس وهو الاحتلال الصهيوني.

لكل ما سبق ولأهمية الشباب والطلاب في مسيرة التحرر العالمي وفي فلسطين  أوقفنا إصدار حلقات الشبيبة، لتكون كلها مجتمعة، سواء تلك  الحلقات التي أصدرناها أوالتي لم نصدرها ضمن هذا الملف الخاص مع هذه المقدمة وعدد من الإضافات، وإنها لثورة حتى النصر. 

 

الشبيبة انجاز وتمرّد

كثرُ الكلام هذه الأيام عن الشبيبة أو الشباب والطلبة وذلك لقيام حركة التحرير الوطني الفلسطيني"فتح" بعقد المؤتمر العام للشبيبة (بالضفة، وإن شاء الله قريبًا في غزة) الذي طال انتظاره.

على أهمية الفئة العمرية وخاصة في مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية والخريجين بعدها، لما تحمله من طموح وإرادة فعل وقابلية إنجاز وأفكار جموحة وأهداف كبيرة ورغبة في تحقيق المستحيل، فإن مجرد الاتجاه نحو عقد المؤتمر يشكل علامة فارقة في تاريخ الحركة، والاهتمام بالشباب من جهة، وأساسًا متينًا لإحداث التغيير. لاسيما وحجم المتغيرات والتحديات الداهمة في العالم سواء سياسيًا أو فكريًا او إعلاميًا أو بقنوات التواصل الاجتماعي والذكاء الالكتروني والمؤثرين بالواقع الحقيقي وذاك الافتراضي الذين في جلّهم من الشباب، والتي تعكس نفسها على واقع التنظيم السياسي عامة بما فيه الحركة.

إن عقد مؤتمر الشبيبة الفتحوية ومُدخلاته التي شكلت عرسًا ديمقراطيًا قلّما يشهده تنظيم فلسطيني فاعل، ومُخرجاته التي تضمنت عديد الأوراق القوية والفاعلة لهو انجاز محاطٌ بهالة الاحترام لأبناء الياسر أبوعمار زعيم المقاومة والثورة الفلسطينية المعاصرة وحامل لواء الثورة العالمية، وأخوة وأخوات دلال وأخوة وأخوات الشهداء الكبار من أمثال صلاح خلف (أبوإياد) الى خليل الوزير (أبوجهاد) الى أبوعلي إياد وسعد صايل وماجد أبوشرار وخالد الحسن، وصائب عريقات، وصخر حبش...، ومثلهم ممن لحقوهم أمثال شرف الطيبي، د.ثابت ثابت، ومروان زلوم وحسين عبيات وعمار أبوبكر وأبوجندل وفادي وشحة...والمئات المئات من شهداء فلسطين وشهداء الشبيبة والطلاب على درب التحرير لفلسطين.

إنه انجاز كبير حين الالتزام بتحقيق الانعقاد الدوري للمؤتمر هذا أولًا، ومن تم بالالتزام بتنفيذ أوراق المؤتمر وبرامجه ثانيًا، ثم ثالثًا بالالتزام الصارم بالمرجعية المتمثلة بدستوره أو نظامه الداخلي والذي بالضرورة هو محقق للنظام الداخلي للحركة وبرنامجها السياسي والوطني وأهدافها طويلة المدى والقصير.

 

 

الاختلاف المطلوب بإطار الالتزام

إن تجاوز وهج عقد المؤتمر للانطلاق بمسيرة تشكل حقيقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح يقتضي فهم الاختلاف المقبول في إطار الالتزام من داخل واقع الشبيبة والطلاب والذي يجب أن يكون مبعث فخر وأداة قوة للحركة في مواجهة الاحتلال، وفي المحافل عامة من داخلية الى عربية وعالمية.

إن قيمة فكرة الطلاب والشبيبة مرتبطة بالطموح والإرادة ومرتبطة بالقدرة الناجزة على العمل وفي الإطار الفكري حيث تعددية زوايا النظر لذات المشكلة في سياق فهم معنى الانتماء لفلسطين وحركة فتح.

إن حركة فتح الديمقراطية تفهم اختلاف الأفكار والتعبير عنها بغضّ النظر عن مساحة الاختلاف لكن بثوب الاحترام والموضوعية والمصداقية، دون الانجرار لخطاب التشويه والاتهام والتخوين أو التكفير للأشخاص الذي هو مصيدة المعارِض أيّ كان ودلالة ضعفه.

إن حركة فتح الحوار بالرأي والرأي الآخر يجب أن تفعّل النقد الذاتي الداخلي، من الشخص لذاته ولمواقف الآخرين، والنقد عامة وإن وصل للعلن فإن ثوابت التعبير عن الرأي يجب أن تأخذ معنى الاحترام للفكرة وللمؤسسة، كما الاحترام لفكرة الفتحوي الآخر، سواء كان قياديًا أو يمثل مذهبًا آخر بتقدير الموقف، ولا يجب اللجوء أبدًا للسهل البسيط حيث مقابلة الحجّة، بالتشويه أو السخرية أو السخط والشتائم.

إن حق الطلبة والشبيبة أن يكونوا الأكثر تعبيرًا عن الأفكار الجذرية حقٌ ثابت.

ولولا هذه الجذرية لما كان للطموح والإرادة أن جعلت من حقيقة العمل نافذًا وقائمًا ومتواصلًا ذو ديمومة هي أصل الحركة، ومن هنا وجب على القيادة الفلسطينية أن تتفهم حقّ الاختلاف الملتزم وحق الاختلاف الموضوعي وحق الاختلاف ضمن النظام واحترام الحركة والمؤسسة. وهو الاختلاف الحريص وليس الاختلاف المدمّر أو الاختلاف المصلحي الشخصاني، الذي يسعى له خصوم الحركة حين يبثون الإشاعات من جهة ويدعمون سرًا وعلانية رغبة البعض بالظهور فيجعلون من توقهم للتعبير عن رأيهم المختلف مساحة تشاتم وخصومة وانفصال وعداء.

إن إعطاء المساحة للشبيبة والطلبة بما هو مغاير للقائم من طروحات، يجب أن يُفهم في سياق الوعي الطلابي والشبيبي لمنطق الاختلاف وآدابه دون شطط وبلا تجريح أو خروج، فالمساحة الواسعة المتاحة للطلبة -التي يجب أن تكون-هي باب بحث ونقد وابداع وتطوير لمصلحة الحركة، والمنظمة (م.ت.ف) وفلسطين، وليس استجابة لضغوط اللحظة أو عواطف التجييش والتحشيد والتدليس التي تواجه الحركة في كل موقف أو مِفصَل، فينجرف المنجرفون ويتساوق الامّعات بلا وعي ولا فهم.  

 

الشبيبة قدرة وتمرد وانطلاق

إن الطلبة والشبيبة طاقةٌ مشتعلة وقدرة وانطلاق لا يجب أن يتم ترويضها، بل إن لها في مساحتها كل الحق أن تخوض تجربتها الفكرية والأخلاقية والعملية فتقرأ كثيرًا، وتتثقف وتتعلم من الكتاب، ومن ممارسة الواقع معًا بتحقيق الانجازات، وإن لها أن تعبّر عن مواقفها في إطار الوعي والفهم العميق للثقافة الحركية الواسعة والمنفتحة وفي إطار شديد الاحترام لمن سبقوهم، وأتاحوا لهم هذه المساحة الرحبة على عكس تنظيمات الانصياع الأعمى والولاء الفكراني (الأيديولوجي) التي تقبض على عنق الشخص فتهدّده بالدين والويل والثبور وعظائم الأمور حين مخالفة القائد.

لن تكون حركة فتح مدرسة ظلامية تحجب الحقيقة، ولا تمنع التنوع في التعبير عن ذات الموقف بحيث يأخذ بُعده الواقعي أو المثالي، فكليهما يقعان تحت ذات النطاق فالواقعي يفهم الموقف في ظل القدرات القائمة والمعسكرات والامكانيات وتقدير الموقف حسب المُتاح، بينما الطموح أو المثالي يقدر الأمور باعتبار ما سيكون، باعتبار مقدار ما سيُحدثه هو بالمستقبل، فينفلت من عقال الواقع ليجد في تعبيراته أشد العبارات (المحترمة) في الاختلاف ومحاولة إثبات وجهة النظر وتحقيقها بالدليل والحجّة، وبما يمثل حقيقة فكر وثقافة الحركة الوسطية المعتدلة من جهة، لكنها المقاومة والثورية الكفاحية بمنطق إزالة الاحتلال والمظالم والانتصار للبرنامج السياسي والنظام الداخلي باعتبارهما مع الأدبيات الدليل المرشد وليس قول فلان أو علان من قادة الحركة، متى كان عن المُرشد قد حاد.

من التجربة الطلابية، وخالد الحسن

نعم إن مرحلة الشباب والطلاب مختلفة عما يلحقها من مراحل لأن فيها روح الطموح والثورة والتمرد وفيها الكثير من الأسئلة والبحث المحموم عن الاجابات، وفيها الجنوح نحو المعارضة، وربما العمل يسبق الفكرة والتضحية تسبق النظر بالنتائج، والرغبة بالنتيجة الحالية أكثر منها مستقبلًا، لذلك كانت الثورات تنطلق على أكتاف الشباب وهو ما حصل في معظم ثورات العالم (الفيتنامية والكوبية والروسية والمصرية والتونسية والجزائرية والصينية، والايرلندية، والفلسطينية...)، حيث قاد الرواد الشباب وفجروا الانطلاقة وخاضوا الصِعاب وساروا في درب الأشواك، وطوّروا في أدائهم، والفكر عبر الممارسة، كما في النظر والوسائل، ثم سلموا الراية لمن تلاهم شريفة نظيفة ليكملوا الطريق.

في إطار التمرد كنتُ في المرحلة الجامعية أترأس اتحاد الطلاب الفلسطيني (في جامعة الكويت) وفي مواجهة الفكر الصهيوني أو بمواجهة الأفكار العربية والفلسطينية المتواطئة التي تُضعّف منه كتناقض رئيس، وتقلل من شأنه وتشن هجومها على منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح وكأنها هي العدو، كنتُ وكنا نخوض مواجهة لا هوادة فيها ضد أصحاب الفكرالإسلاموي الإقصائي للغير، والحصري لذاته وهو الذي يفترض بنفسه "الإسلامية" والقداسة لمجرد أنه يدعي ذلك نازعًا الإسلامية عمّن سواه!؟ او بمواجهة أصحاب الفكر اليساري المتطرف المفرط بألقاب التقدمية واليسار واليمين الرائجة آنذاك، ليلقي بوجهنا وصف اليمين والرجعية وكأننا في خندق الأعداء! فكان أن لجأنا للأخ المفكر الكبير الأخ خالد الحسن "أبوالسعيد" لنحل معضلة الإسلامية والرجعية والتقدمية واليمين واليسار! وكل هذه الأوصاف فقال لنا: لا تنحدروا لمستنقع الاتهام والتشاتم والبذاءة، ولستم معنيين بتبني مصطلحاتهم تلك قط. وردّدوا معي الدعاء التالي: "اللهم اجعلنا من أهل اليسار في الدنيا ومن أهل اليمين في الآخرة" فأصبحنا يسار ويمين معًا! وما للعبارة العظيمة والموجزة والصريحة والواضحة من دلالة رمزية أننا صانعو مصطلحاتنا، لا ننحني تحت ضغط مصطلحات الأخرين التي تصنف الناس أوتتهمهم وتنبذهم. لقد أشار "أبوالسعيد" لليسار بالمعنى السياسي بطرف خفي لكنه أعطاه بُعده العربي اللغوي الجميل كما اليمين، حيث اليسار في عبارته هنا هو اليُسر والغني أي غني النفس والروح والمال، وحيث أهل اليمين هم الذين يدخلون الجنة كما بالآية الكريمة من سورة الحاقة "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ..." لتقرر الآية النتيجة "فهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ".  وما قال إننا لا أهل اليسار ولا أهل اليمين فيقع في دائرة التصنيف والإقصاء للآخرين، ولكن طلب الدعوة لله أن نكون الحالتين، فتعلمنا ألا نكون أسرى شعارات الآخرين وتصنيفاتهم ما دامت الثقة بالله سبحانه، وفلسطين والمؤسسة التي ننتمي اليها لا تزول.

تميز المعارضون للثورة والمقاومة الفلسطينية وحركة فتح بتأبط الشعارات الكبيرة الخلابة، لكنها لا تُطعم جائعًا ولا تكسي عريانًا ولا تساعد ثائرًا أوتُسهم بتقدم المسيرة لذلك كان اللجوء من هذه الشخصيات وأتباعهم من الأبواق الطلابية بالجامعة، الى الاتهام والتشويه والتخوين والتكفير (ومازال المسلسل قائمًا حتى اليوم).

 ففي محاضرة ألقاها عضو مجلس شعب (مجلس الأمة) من الأخوة الكويتيين من المحسوبين على اليسار أدان واتهم وشتم وعرّض بمنظمة التحرير الفلسطينية والزعيم ياسر عرفات بما لا حجّة فيه، فتصديت له بقوة وصوت عالٍ وصراخ شديد أوقفه عن الكلام دفاعًا عن الفكرة والمؤسسة، فما كان منه الا أن ازداد غلوًا وتهديدًا وكأنه يقول: من أنت الطالب الضعيف لتقوّمني أو تصلحني؟ أو تعترض علي؟! وهو ما كان لاحقًا من موقفي الحاد ضد أحد رؤساء التحرير للصحف الكويتية في ندوة بالجامعة حيث مارس ذات الأسلوب، فقمتُ وقصفته بما يستحق حتى ظهر وجهه المشوّه فقام بشتمي فسقطت الحجّة.

 

 

صلاح خلف والمعارضون

أما في مجال معاملتنا الطلابية مع أهل الاختلاف يمينًا إن شئت تصنيفهم أو اليسار فكنت والأخوة والأخوات معي نلجأ للحوار والنقاش ونعفّ عن الألفاظ والشتائم والاتهامات ونجعل من العمل لمصلحة الطلاب ومن أجل رضا الخالق، ولفلسطين ديدننا حيث بالقيم والأخلاق كسبنا القلوب حتى أن المعارضين من التيار الديني الإقصائي، وأولئك من اليسار اقتربوا منَا ودامت صداقتي للكثير منهم رغم الخلاف الفكري أو السياسي زمنًا طويلًا، ومنهم الى الآن.

لقد كان صلاح خلف "أبوإياد" بما عُرف عنه كالرجل الثاني في المقاومة الفلسطينية أي بعد الزعيم ياسر عرفات شهيرًا بنَفَسه المعارض الحاد أحياناً، ولكن من داخل المؤسسة بقسوة ومن خارجها بنقد الظواهر والعموميات والحالات التي تسبب السوس في جسد الثورة. لقد كان يفهم المعادلة جيدًا فلم يعترض ليحرق أو ليدمّر أو لينفّس عن غضبه فقط، أو ليظهر، أو ليتخطى المؤسسة وإنما كان جُلّ همه الحفاظ على الفكرة والكيان والنظام النضالي، وبما هو خدمة لفلسطين والشعب.

لم يكن "أبوإياد" متهاونًا في رصد وتحليل ثم إطلاق النار على الظواهر دون المساس بالشخوص، لا سيما وهو الذي طالما ردّد أمامنا كطلاب في حضرته العبارة الشهيرة المنسوبة للأديب والفيلسوف الفرنسي "فولتير": "قد أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أن أموت دفاعًا عن رأيك".[1] 

في ندوة عقدناها في الجامعة أي جامعة الكويت للشهيد صلاح خلف ذو السطوة والهيلمان والشخصية الآسرة (الكاريزمية) تصدّى له أحد الطلبة المعارضين بسيل من الشتائم طالت الثورة والقيادة، وظن أنه حقق الهدف باستفزاز أبوإياد الذي ظل هادئًا! على عكس ما توقع. والمفاجأة أن تصدى له عدد من الطلاب ممن ينتمون لتياره موضحين له أن "أبوإياد" لم يقل الا ما تعبر عنه لكن بأسلوب عقلاني، وحصلت مجادلة وكادوا يضربون هذا الطالب حتى تدخل العملاق "أبوإياد" وأوضح لهم أن للشاب أن يعبر عن رأيه، وإن خانته الكلمات فاستخدم العبارات النابية. فكان درسًا للمعارضين ولنا، ومنّا من كان يتأهب للرد على الشاب المعارض بمثل أسلوبه.

وفي هذا المجال لديّ الكثير مما عايشته من أحداث أصابت روح التمرد وعدد من المغامرات وحُسن أوسوء الفهم. وتتكلم عن الثورة والطموح، الذي لا تحدّه الجبال ولا يقف عند حدود السماء، وتظهر روح المعارضة التي تنقضّ على فعل الخاطئ بشدة لكن بلا إساءة لشخصه، وما تغيّر عبر الزمن هو الانتقال من الشدة والعنف بالطرح الى الوسطية والاعتدال، ومن الجنوح أحيانًا الى الاستقرار النفسي الذي يغلف الانسان بالسكينة التي ترتبط بالثقة بالله والنصر، وباستقرار المفاهيم، وقليل من الحكمة ربما.

من هاني الحسن الى الشبيبة[2].

المسافة طويلة منذ العام 2007م عندما بدأنا مع الأخ هاني الحسن-مفوض التعبئة والتنظيم في اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح بتنفيذ سلسلة من الدورات التنظيمية استكمالًا لما سبق، وتواصلًا لنهج اختطه الأخ أبوماهر غنيم منذ عملنا معه في مكتب التعبئة والتنظيم في تونس العام 1991م، وكان للعطاء والفعل أن أسهم عديد الكادرات والقيادات الطلابية والشبيبة التي تسلمت مفاتيح الغد ممن سبقوهم واعترفوا بفضلهم وانطلقوا برحابة.

ونحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة في مسيرة حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح وانطلاق مؤتمر الشبيبة الفتحاوية (شهر 11 للعام 2025م) ومع اقتراب عقد المؤتمر الثامن للحركة، فإن فكرة التثقيف والتربية والتعبئة والتدريب سواء الذاتي من الشخص لذاته، أو من التنظيم للكوادر والأعضاء أصبحت فكرة مستقرة رغم ما تعانيه من عقبات عديدة داخلية وخارجية، ومنها لحجم الأزمات المحدقة بنا وعلى رأسها العدوان الصهيوني الذي لا يتوقف على فلسطين والامة. الا أنها سرعان ما تبرز أهميتها كلما تقدمت المسيرة وبدأت الكوادر تنظر في عقلية البناء والتقدم ضمن آفاق المستقبل.

عقدنا في إطار لجنة التدريب وإعداد الكادر في الحركة، ولزمن طويل عديد الورشات والندوات والدورات واللقاءات بغض النظر عن طريقة النحت بالصخر التي صاحبت عديد المراحل الا أننا نترك إرثا قابلًا لاستمرار العطاء والتطوير لاسيما في ظل عالم المعلوإتصالية اليوم وبما فيه من وسائط التواصل الاجتماعي والذكاء الالكتروني.

لا غني البتة عن اللقاء الانساني المباشر فيما يتعلق بالاتصالات وبناء العلاقات وتحقيق التأثير بالأعضاء والكوادر وبالناس.

ولا غني مطلقًا عن تنمية الشخصية وبناء الذات والمجموع من خلال القراءة العميقة والكتابة وحُسن الاستماع، والنهل من منابع الحكمة الكثيرة، ومن الاجتماعات الدورية والقيام بالتكليفات والنشاطات (التجارب الذاتية، والجماعية).

ولا غنى عن الندوات أو الدورات التكوينية (التدريبية) وفيها كلها لا غنى عن المواجهة المباشرة التي لا ينفع معها التواصل الالكتروني الا ما ندر.

إننا في كل دوراتنا نقول للأعضاء أن عليكم أن تستوعبوا نقاطًا ثلاث هي

1-أنكم يجب أن تستفيدوا، وهذا واجبنا أن نزودكم بالمعرفة والمهارة

2-وعليكم بناء أو تمتين الاتصالات وبناء العلاقات في إطار الدورة

3-كما أن شعوركم بالمتعة ثالثًا هو هدف يعني أننا نلقي على كاهل المدربين عبء عملية الجذب والتفكير والتأثير والاستقطاب والتعمير معًا.

إن العمل المثمر لتحقيق استقلال دولة فلسطين القائمة بالحق الطبيعي والتاريخي منذ الازل، والى الأبد وبالرواية العادلة هو الذي بتراكماته الايجابية سيقصّر من حبل النجاة المطلوب، ويزيد من أطواق السلامة ضمن عقلية

1-النضالية لا الوظيفية

2-وعقلية الرسالية، لا الانتهازية

3-وثالثًا بطول النفس والمثابرة والاستمرارية.

اليكم نضع بين أيديكم الطبعة الثالثة من الكتاب/المادة (تطوير قدرات القيادات الشابة). ولم نتدخل بأي إضافة او تعديل بها رغم أكثر من 30 نوع من الدورات الهامة التي عقدناها عبر السنوات، وبآليات التفكير والتحفيز والتثوير والتطوير وبنفس العقلية التي سار عليها القادة والرواد الاوائل: أعمل وناضل، وخطوة تتلوها خطوة بانسجام وتناغم.

ومن مقدمة الكتاب/الدورة بتاريخ 15/1/2007م بقلم الشهيد هاني الحسن مفوض التعبئة والتنظيم في الوطن آنذاك، نقتبس التالي:

"إن تطوير قدرات القيادات الشابة وخاصة الطلابية في التنظيم علم، وبناء الوعي وتدعيم الفكر منهج مؤسسي، وتحصيل المعارف بغية إدخالها في المنظومة الفكرية للكادر يعد ميزة من ميزات التطور.

إن التطوير والتغيير في الذات والجماعة وبروح الفريق الواحد رغبة، تتحول بالإرادة والجهد إلى فعل، وبالمثابرة والإصرار والتدريب المستمر إلى قدرة عندما تتكرر ممارستها فإنها تصبح عادة، أي يصبح التفكير الناقد والإبداعي والايجابي وقدرات التأثير في الآخرين والحوار والاجتهاد وفتح مساحات رحبة للتفهم والتقبل والتفاعل سمة من سمات الشخصيات."

يضيف هاني الحسن "إن هذا الكتاب الذي يركز على ثلاث محطات أساسية هي قدرات التفكير والتأثير والتعمير في مسارات سبعة لكل محطة منتخبة في كل منها، يعتبر جهدا مميزا لعدد من القادة والكوادر الفتحويين نخص بالذكر منهم الأخ بكر أبو بكر رئيس لجنة إعداد الكادر الذي له السبق في إبراز هذه المفاهيم وبلورتها بقوة، والفريق الذي عمل معه من الأخوة د.محمد الحروب ود.مجيد عثمان ود.أحمد قدورة والأخ سميح ذويب والأخ علي أبو ربدة والأخ جمال الديك ود.يوسف أبو ماريه والأخ عمر أبو شرار، والأخ صالح الزق ... والعشرات من أعضاء لجنة إعداد الكادر والمدربين ولجان التعبئة والتنظيم والعشرات من أعضاء الملتقى الفتحاوي الذين أسهموا باقتراحاتهم وتعديلاتهم ونقاشاتهم ما أدى لظهور هذا الكتاب بشكله الحالي. والذي يتكامل مع أدبيات حركة فتح في الاتجاهات الأخرى ومطبوعات مكتب التعبئة والتنظيم، والحركة عامة."

    ليختم بالقول "ان فتح الوسائل لا تقبل الجمود، وفتح المسيرة المشعة نقيض الجمود والقوالب المصبوبة على طريق بناء الكادر وتحقيق الحلم الفلسطيني والغايات."

 

 الشبيبة والطلبة نفسٌ إيجابي وقيمٌ، وفِعلُ انتصار

إن الشبيبة نفسٌ إيجابي ونفس تقدمي ونفس انتصار وليس انهزام ونفس فعل وليس قول نظري حجري مقولب بلا أي معنى، وقيم وخلق قويم بالتأكيد والا فلا. والشبيبة حين تتقدم بأفكارها وآرائها ضمن معادلة الانضباط الثلاثية (فكر فتح وثقافتها وقيمها وقيم مجتمعها، الهيكل الناظم، النظام الداخلي) فإنها تتسلح بقوة المرجعية وبحضارية اللغة والخطاب فلا تنزلق وعن الحق لا تحيد.

إن العقول السبعة لدى الشبيبة والطلبة هي عقول دائمة النهوض لا تخشى مواجهة المسؤول بثلاثية المرجعية، مما ذكرنا، والمنطلقات فهي تنتمي كليًا لحركة الشعب الفلسطيني وأحيانًا بانتماء أشد من قياداتها التي لربما لظروف ضغوط الواقع في مفصل من المفاصل حاد بعضها عن العقلية الحركية النهضوية المقاتلة.

إن الشبيبة كما الحركة فكرٌ وفعل وقيمٌ أصيلة، وكلها تظهر في المسلكية الثورية، فالقيم الحضارية والعربية الفلسطينية تمثل حقيقة الجماهير ومجتمعنا الأصيل، ونحن الأولى بتمثيلها وتطبيقها فنتحول الى قدوة ونموذج ومثال. أي الى الفتحوي الحقيقي، المواطن الحقيقي المنتمي لفلسطين، والمنتمي لقيم وحضارة وأخلاق مجتمعه الايجابية. إن بنت أو ابن الشبيبة هو التمثيل الحي للفدائي البطل صاحب القضية، والتمثيل الحيّ للمواطن الصادق والمؤمن الطموح، والمواطن عالي الهمة، إنه الصديق المحِب، المُؤثر للناس على ذاته، الخدوم، المِقدام والشجاع والمتعلم المتواضع، وهو العضو الفاعل ضمن الجماعة أو الفريق مهما كان دوره، وهو الأمين مع أهل بلده، والمقدّر للآخرين والمحترم لهم، إنه العفيف باللسان وكل ما يصدر عنه، في دوائره الثلاثة: في دائرته الاولى مع ذاته وربه وأفكاره وشخصيته، وفي دائرته الثانية حيث الأقربون من تنظيمه والعائلة والأصدقاء والجيران، وفي الدائرة الثالثة حيث مجمل المجتمع والجماهير.

كتبنا فيما سبق ونكرر اليوم[3] أن فتح من الجذور فدائي ومناضل عسكري وسياسي ونقابي وإعلامي ومجتمعي ذو قيم ومبادئ... وكاتب وفلاّح وابن مخيم ومدينة، وفتح في طريق المستقبل والإزهار هي:

قاعدة للديمقراطية، لا للظلامية وكتم الأنفاس كما تنظيمات العنوان الأوحد أو القائد الواحد. وحاضنة للتعددية في المجتمع، فهي تمثل كل فئات الشعب وتعدديته، ورافعة للعقل على طريق احترام حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وهي بالحوار المتواصل واحترام الرأي والرأي المخالف تنمو وتتعاظم قوتها، إنها حركتكم حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح التي اختارت التغيير، ورفضت الثبات والجمود، وأقفلت باب البكاء والتفجع واللطميّات.

إنها فتح التي انتقلت منذ الشرارة الأولى إلى حالة النور والإبصار في الذات، والمحيط حيث اعتنقت التجدّد والتطوير فكرًا وممارسة حيث الوعي والإدراك العميق للمتغيرات، وهي التي جعلت من الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والوطن وحُسن تخيّر الوسيلة منطلقات تُفتح ولا تغلق تسمو ولا تهتز.

لقد شكلت حركة فتح، وأظن ذلك أوسع وأشمل بشبيبتها والطلبة، خماسية العمل في: 1-المبادرة والعطاء   و2-الحوار واحترام الاختلاف والمؤسسة، و3-الحرية مع الالتزام، و4-حسّ الرسالة في الأهداف والوسائل، والعقلية النضالية لا الوظيفية، والمثابرة 5- واحترام الجماهير والاعتماد عليها والتعلم منها وتعليمها، بل التضحية من أجلها وليس بها، حيث أن الفتحوي دومًا في مقدمة الركب يصنع الحدث، ويقاوم ويكافح ويجاهد بكل الأشكال، ويحمي أهله ويذود عن قضيته.

 

الثورات والشبيبة و دور العُمْر

عمر الشباب يرتبط بالطموح والانطلاق بل والجموح الملازم لحالة التمرد والرغبة بتغيير العالم لذلك فإن استثمار هذه الحالة المرتبطة بالسن يعتبر مقدرة لدى الرواد الشباب أنفسهم حين يكون بين أعينهم قضية، كما هو مقدرة لدى القيادات الاخرى حين تراهن على الطلبة أو الشبيبة المثقفة والطموحة والقادرة على الفعل داخل التنظيم السياسي فتجتهد هذه القيادات في تثقيف وبناء وفسح المجال أمام شبيبتها بكل عناية ومحبة، وتمازج الأجيال.

 وفي محاول منا لرصد الأعمار مرتبطة بالثورات وجدنا التالي:

·         الثائر العظيم عبدالقادر الجزائري ثار ضد المستخربين (المستعمرين) الفرنسيس بعمر 24 عامًا تقريبًا. (تم احتلال الجزائرعام 1830م، وانصرفوا الى غير رجعة عام 1962 بانتصار الثورة الجزائرية)

·         الثورة الفيتنامية بقيادة "هوشي منه" ارتبطت به وهو بعمر 51 عامًا

·         بينما قائد الثورة الصينية "ماوتسي تونغ" عند تأسيس الحزب الشيوعي الصيني كان عمره 28 عامًا. وعند الانتصار (عام 1949م) كان عمره 56 عامًا.

·         وفي كوريا الشمالية كان الزعيم "كيم إيل سونغ" عند بروز قيادته لحركة التحرر ضد الامريكان 33 عامًا

·         وتجد أن "فيديل كاسترو" قائد الثورة الكوبية ضد الرأسمالية الامبريالية في بلاده بدا معه منذ كان عمره 27 عامًا

·         وفي عمر 27 عامًا للقيادي الثائر "تشي غيفارا"

·         أما "دانييل أورتيغا" قائد الثورة الساندينية في نيكاراغوا ، فعند الانتصار عام 1979 كان عمره 33 عامًا

·         أما الثورة الروسية على القيصرية فلقد حقق لينين انتصاره بعمر 47 أي أنه كان مناضلًا بمرحلة الشباب وكذلك الحال مع "ليون تروتسكي" بعمر 38 عند الانتصار عام 1917م.

·         وفي المنطقة العربية فلقد بدا المناضل الحبيب بورقيبة نضاله وهو بالثلاثينيات من عمره مع تصاعد الحركة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي وتحقق الاستقلال وهو بالخمسينيات من عمره.

·         وبرز الدور العسكري للرئيس القائد الجزائري العظيم هواري بومدين هو بعمر 27 عامًا، فيما كان أحمد بن بله بعمر 38 عامًا عند اندلاع الثورة الجزائرية المجيدة (1954-1962م).

·         وعند اندلاع الثورة البيضاء في مصر ضد الملكية التابعة للإنجليز (ثورة 23 يوليو 1952م) كان عمر الرئيس جمال عبدالناصر هو 34 عامًا.

·         وكان الزعيم ياسر عرفات عند تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح أواخر العام 1957م بعمر 28 عامًا وعند الانطلاقة المجيدة عام 1965 كان عمره 36 عامًا. وقس على ذلك كل من القادة الكبار صلاح خلف "أبوإياد" الرجل الثاني في الثورة الفلسطينية، وأمير الشهداء خليل الوزير"أبوجهاد" أول الرصاص وأول الحجارة، والمفكر العروبي الطاغي خالد الحسن ومن تلاهم.

·         وأسس جورج حبش "حركة القوميين العرب" وهو بالعشرينيات من عمره بالجامعة، وكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهو ببداية الأربعينات من عمره.

·         وفي إفريقيا عند تأسيس الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الإفريقي كان "نلسون مانديلا" بعمر 43 عامًا

·         بينما الخميني (في حالة استثنائية جدًا) عند انتصار الثورة الايرانية ضد الشاه الامريكي التوجه فكان عمره 77 عامًا

الاستنتاج الأولي هو أن دور العمر هام نعم، لكنه لم يكن عاملًا حاسمًا في التغيير والتمرد والثورة بقدر الفكرة والاكتاف الصلبة القادرة على حملها رغم وضوح أن السن (غالب القادة  للثورات كانوا بالثلاثينيات والأربعينيات من أعمارهم) كان عاملًا مهمًا أيضًا لكن ليس الأوحد في اطلاق ومسيرة ومن ثم نجاح التمرد او المقاومة أو الثورة وعليه يمكن القول أن حالة الاستعداد غالبًا ما ترتبط (من ناحية العمر) بالشبيبة والطلبة أولًا: متى ما توفر لديهم الشعور العميق بالظلم ووجوب التمرد، ثم ثانيًا ردة الفعل المرتبطة بإرادة التغيير بوعي وعمل مثابر وثقافة متواصلة، ثم ثالثًا بإدراك القادة الرواد لقدراتهم، وللحظة التاريخية المناسبة، ولطبيعة العوامل الداخلية والخارجية وكيفية تعاملهم معها واستثمارها.

وفي إطلالة تاريخية بسيطة فإن الاسكندر الاكبر بدأ حروبه التوسعية بعم 21 عامًا وكات فتوحات هارون الرشيد في العشرينات والثلاثينات من عمره اما سيف الدين قطر عندما انتصر على المغول في معركة عين جالوت في فلسطين فقد كان بالأربعين من عمره، فيما كان جنكيز خان عندما وحد قبائل المغول تمهيدًا لغزو العالم 44 عامًا (صعود متأخر لكنه الأعنف والأقسى على العالم)، وعندما انتصر الناصر صلاح الدين الايوبي في معركة حطين ف فلسطين ضد الفرنجة كان بأواخر الأربعينيات من عمره بينما تولى وزارة مصر في الثلاثينيات، والى ما سبق فإن السلطان محمد الفاتح فتح القسطنطينية (اسطنبول لاحقًا) بعمر 21 عامًا كما حال صقر قريش عبدالرحمن الداخل عندما أسس مملكة الأندلس بالعشرينيات من عمره، والى ذلك تجد الخليفة علي بن أبي طالب قد استلم زمام الامور بعمر 58 عامًا.

من الكبار الذين حققوا الأهداف كان في نموذجنا كل من الخميني (حالة استثنائية جدًا) ولينين وقطز وهوشي منه، وفي المقابل كان الانطلاق الشبابي بالتاريخ (من رصدنا) من نصيب الاسكندر الاكبر وعبدالرحمن الداخل، وهارون الرشيد (وكلهم وراءهم دول عظيمة او أرث كبير)، بينما جمال عبدالناصر وهواري بومدين وياسر عرفات وغيفارا وكاسترو جاءوا في عصر القطبين العالميين وعصر الثورات المدعومة. وللأمانة العلمية فإن هذه المقارنات تحتاج لبحث أطول وأعمق ما لايمنع من أخذ العبرة هنا والقياس.

دعنا هنا ننطلق للقول أن فكرة الاحلال بمعنى إسقاط القادة الكبار سنًا بشكل كلي وإحلال قادة شباب سيحققون الانطلاقة والتقدم غير مثبتة تاريخيًا وإنما الشباب يصنعون الانطلاق الصعب والشيوخ يضمنون الاستمرارية، والشباب يشكلون قوة جسدية وفكرية (حين الثقافة) أكبر كما القرار والحسم السريع وبمخاطرة عالية جدًا تتعلق بالعوامل الداخلية والخارجية وفهم اللحظة وغدراك الفرصة لذلك كان القادة من كبار السن ذوي استدامة أطول ويقومون بمخاطر محسوبة وبحسم أضعف يعتمد على الموقف، وأحيانًا يكونوا بطيئين الاستجابة مقارنة بالقيادات الشابة.

الخلاصة هنا أن السن لوحده بما فيه من جرأة ومخاطرة وطاقة نفسية وعاطفية وجسدية وهمة عظيمة وكما أسلفنا ليس العامل الحاسم الوحيد لتحقيق التمرد أو الثورة او الانطلاق وتحقيق الأهداف، بقدر ارتباطه بالفكرة واللحظة والوعي كما الحال بمتطلبات المرحلة. فقد تحتاج المرحلة طوفانًا ثوريًا شبابيًا، او قد تحتاج صبرًا استراتيجيًا يتميز به الشيوخ، وربما قدرة على إدارة التوازنات. ولربما التعامل السريع مع مسألة معقدة قد يؤدي للفشل فيما في حالات أخرى فإن اقتناص الفرصة السانحة تحقق النصر.

 

فتح العمل الناجز لا الشعار العاجز

وقلنا أيضًا أن في التكرار انتصار للفكرة، وأشرنا بوضوح الى أن:

1.       فتح صانعة الفكر الوطني، والهوية الوطنية المرتبطة برائحة الأرض ولون الطين، وهي قدر العطاء حيث تعطي الجميع بلا تمييز أو حساب. 

2.       هي فتح تحرير فلسطين من الاحتلال والصهيونية والعنصرية

3.       فتح البناء المؤسسي، والدولة الديمقراطية المدنية المستقلة

4.       وفتح التنمية المستدامة في البشر والشجر والحجر

5.       فتح الأفكار الثرية، والكوادر والشبيبة المتجددة حيث المعين الذي لا ينضب

6.      فتح بوابة العدالة الاجتماعية، والمجتمع المدني التقدمي

 7.      إنها فتح التي نريد، ممثلة الجذور الصلبة، والاحتضان والرحابة

8.       وفتح المستقبل حيث أنتم ونحن تجمعون ولا تفرقون

9.       تتفقون ولا تتباغضون، تختلفون ولكن تلتزمون (بفلسطين والفكرة والمؤسسة).

10.     هي فتح الحياة والتحرير، والوحدوية، والفعل الناجز

11.     وهي فتح الوسطية المرتبطة جدلًا بأمتها العربية الاسلامية، بالمسيحية المشرقية المتسامحة فينا، كحضارة جامعة، والمنفتحة على العالم.

12.     هي فتح العمل الناجز، لا الشعار العاجز

ومن هنا وجب على كل الكوادر الحركية بما فيها بل وفي طليعتها الطلاب والشبيبة فهم الحركة وحُسن الانتماء لها للمؤسسة، أي الانتماء لفلسطين وللفكرة الوطنية الجامعة، والثقافة وحضارية المدرسة والمبادرة، والالتزام بالنظام الداخلي، وبمنطق الحوار المتواصل بالحجة لا بالشتيمة الموصلة للشهرة الفاشلة، أو بالاتهامات الشخصية المودية للخراب الداخلي والمحققة للهدف التخريبي الخارجي.

العقولُ السبعة والوسطية والتوازن

إن حركة التحرير الوطني الفلسطيني -فتح بشبيبتها وبكوادرها تحتاج لعملية ذكية تستطيع أن تجعل من العقول السبعة (طُرُق التفكير المختلفة) مساحة توازن قوية تبث روح التمرد مع المحبة، وروح التوثب مع الوعي، وروح الثورة مع الرفق حتى بالمختلف في مواجهة التناقض الرئيس الأوحد وهو المحتل الصهيوني، فتمازج بين عقولها السبعة والتفكير بالأدوات السبعة حيث

 1-التفكير الماضوي التاريخي

 2-والتفكير العملي التنفيذي

 3-والقضائي الناقد

 4-والتفكير الإبداعي

 5-والتفكير الفلسفي (الأيديولوجي)

 6-والتفكير المستقبلي

و7-التفكير المنظم الإداري المتمم للأعمال

إن واجب الحركة بشبيبتها والكوادر الفاعلة والطلاب أن تجعل من كل ما سبق يتحرك في مساحة صراع ذاتي واحدة متناسقة متفاعلة. فلا ماضوية بكائية تجعل من كل ما يحصل سيئا ما قُرِن بالماضي، بل يجب أن تنظر للماضي بعين الاستفادة لإطلاق ينابيع الثراء منه، وإدخالها في صلب الحاضر وبريق المستقبل، لأن من يتوقف عند الأطلال لن يقول إلا شعرًا، ومن يمر بها ويعتبر سيجعل في قلبه ذكرى متقدة متطورة.

ومن ينخرط بالعمل التنفيذي ويقبل عليه يحتاج لنظرات للخلف نعم حيث العبرة، ونظرات للأمام تفهم المستجدات وتدرك المتغيرات حيث منهج التفكير المستقبلي وحيث مساحات واسعة لتحقيق الآمال والأحلام والأهداف، ونصرنا قادم بإذن الله.

وإن من ينتهج النقد المجرد (أي النقد لذاته ما يتحول لحفلة شتائم) سيُردِي بالتنظيم ويحوله إلى مزبلة أفكار معدومة، أو الى حفلة (تحشيش فكري) أما من يرتفع بالنقد ليطبّقه على شخصه هو أولًا، ولمواقف الآخرين إلى مستوى وضع البدائل وتخير الأفضل وإقرار القابل للتنفيذ، فهو الذي يرتفع بعقله الناقد وضمن المجموع إلى مستوى الرقي بالتنظيم، وتجديده فيتآلف منهج التفكير الناقد مع منهج التفكير المنظم المتمم، ويكون للإبداع تنوع السُبُل والطرائق الموصلة الى تحرير فلسطين.

إن الشبيبة والطلبة عقل حركة فتح المتمرد، لكنه من الهوى والنزق والمصالح الشخصية متجرّد. وهم مدرسة متميزة في حركة فتح أثرَت معالم الطريق عبر المسيرة النضالية الطويلة، وشكلت دربًا من الدروب العديدة التي يجب النظر لها بمنطق التفهم والتقبل والتجاور من القيادة، بل ويجب العمل على تشجيع هذه العقول الوثابة والمتوازنة، والتفكير بالمساحات من حيث رؤية المتغيرات وتلمس المخارج ومواجهة التحديات، وليس التحطم تحت ضغط الظروف. فالشبيبة أيضًا عنوان الأصالة ومدرسة التقدم والبناء الحضاري المنفتح الذي يرفض الظلامية والتقديس للأشخاص أو الوسيلة أو الجماعة، ولا يقبل مدرسة العجز والقنوط والاتهام. إنه يخطو الخطوات الثابتة المثابرة المتواصلة نحو تحرير فلسطين والنصر بإذن الله.

دعني هنا أذكّر هنا بحادثة الاعتذار الشهيرة للزعيم ياسر عرفات حينما قدِم الى جامعة النجاح في نابلس عام 1996م، مخاطبًا الطلبة والشبيبة لا مدافعًا عن الخطأ، وإنما واضعًا الأمر في نصابه فلم يتهم المؤسسة ورفض الأخطاء ووعد بعدم تكرارها، وأعطى للطلبة معنى لاحتجاجهم ضد الممارسات السلبية من بعض كوادر الأمن في السلطة الوطنية الفلسطينية آنذاك. ياسر عرفات العملاق استطاع بعقله الواسع وصدره الرحب أن يستوعب غضب الطلاب وتمردهم ولم يشعر بالانتقاص من قيمته عندما خاطبهم، او عندما اتخذ إجراءات بحق المقصّرين لكنه بعقوله المتآزرة حقق الوسطية والتوازن فاحتضن واستوعب ووحّد ولم يُقصي ولم يكسر.

شبيبة حركة فتح وقيادة التنوع

تميزت قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني -فتح بروح التوثب وكسر الأنماط ورفض السكون الذي لف المنطقة بعد هزيمة جيوش العرب السبعة فيما سمي حرب 1948 بينما الحقيقة أن الخسارة كانت مؤكدة لأسباب عدة والتي منها أن معظم هذه الجيوش كانت إما حديثة العهد وبتسليح يرثى له، ولا تعرف فلسطين الجغرافيا والسكان والطبوغرافيا..الخ، او بقيادة انجليزية أي ذات القيادة التي مكنت الغازي الصهيوني من احتلال فلسطين.

بعد العام 1948 عاشت المنطقة حالة اليأس أحيانًا والقنوط، لاسيما ودور المخيم الأساس في إبراز الشخصية الفلسطينية المتعلمة والعاملة والمناضلة، وكانت لحظات القنوط تتجاور مع بصيص أمل كان يتناوش التيارات الفكرية الكبرى آنذاك (الشيوعي والقومي والاسلاموي) رغم اقتران الشعارعندهم بعدم العمل، ما مكن الفريق الأكثر شعورا بالاضطهاد والظلم والرغبة في مقاومة العجز والانطلاق الجريء أن يطلق الرصاصة الاولى-أي قادة حركة فتح.

وكان المعظم شباب كما هو الحال مع الاستفادة فيهم من تجارب من سبقوهم (بتقييم التجارب سلبًا او إيجابًا) أمثال عبدالقادر الحسيني والحاج أمين الحسيني والشيخ عزالدين القسام وكافة المناضلين الآخرين، ومن مسيرة ثورات العالم، ضمن مسيرة الانطلاق أما ما أريد التركيز عليه هنا فهو حالة (الفريق) المؤسس والالتقاء في ظل التنوع فنجد التالي:

1-اتسم المؤسسون الأوائل، وكذلك الرواد لاحقًا (المؤسسون الذين كانوا بغالبهم شبيبة مع الانطلاقة) في حركة فتح بالتنوع الجغرافي في فلسطين، ما بين ما أصبح الضفة وغزة والداخل فتجد قيادات من صفد وحيفا والقدس، ويافا... (ياسر عرفات-القدس، خالد الحسن-حيفا، محمود عباس-صفد، ، صلاح خلف-يافا، هايل عبدالحميد-صفد...) وتجد قيادات من غزة (أبوجهاد-من الرملة ثم غزة، وأبوصبري-الرملة ثم غزة، وكمال عدوان-بربرة ثم غزة، سليم الزعنون-غزة...) وقيادات من الضفة (فاروق القدومي-نابلس، وعادل عبدالكريم-طولكرم، أبوعلي إياد-قلقيلية، سعد صايل-نابلس، رفيق النتشة-الخليل، ماجد أبوشرار-دورا-الخليل، عباس زكي-سعير-الخليل، أبوعلاء قريع-القدس، وأبوماهر غنيم-القدس...) وهكذا. وكان هذه الترتيب قد جاء بتعاون مشترك والتفاف حول الهدف الجامع بين كل الفلسطينيين.

2-السمة الثانية للرواد كان أنها آمنت بدور القلم والفكر فكتبت الوثائق التأسيسية الأولى (خاصة من عادل عبدالكريم-من طولكرم) وعملت على الالتزام بها مع تقديم الفعل على النظري ففاقت كافة التنظيمات الفكرانية (الأيديولوجية) آنذاك وتقدمت عليها بالتجربة والمبادرة التي ميزت الحركة حتى الآن.

3-أما من الناحية العلمية والدراسية فتجد التنوع بالدراسة (أبوعمار وعبدالفتاح حمود، وهاني الحسن مهندسين، بينما أبوإياد خريج كلية اللغة عربية/تربية وعلم نفس، فيما درس أبوالأديب القانون،وآخرون لم يكملوا دراستهم الجامعية....).

4-التنوع التنظيمي السابق كان واضحًا بين أصحاب التجربة مع المنظمات (التنظيمات) الشمولية آنذاك امثال ماجد أبوشرار وأبوصالح مع الشيوعيين، وأمثال أبوجهاد وأبوالاديب وأبوإياد مع "الاخوان المسلمين"، وخالد الحسن مع "حزب التحرير"، وفاروق القدومي مع البعثيين وهكذا، لكنهم بأجمعهم طلقوا هذه التنظيمات او ما يسمى بالحركة "خلعوا رداء الحزبية" لينتموا لفلسطين وعبر بوابة حركة فتح.

5-تنوع التجارب وتنوع الثقافات: ومما لا شك فيه أن تنوع البيئات التي عاش فيها الأخوة المؤسسين بعد النكبة وكذلك دراستهم ومكان إقامتهم أو عملهم وطبيعة قراءاتهم، وتأثيراتجاهاتهم الفكرية السابقة كان لها الدور الهام تحت مظلة فلسطين أن تخوض صراعاتها الداخلية لتستقر نحو عنوان التحرير وبوصلة فلسطين، وما استقر بينهم من معادلة وحدة- صراع- ثم وحدة، وهكذا في تذبذب مذموم أحيانًا ومقبول ومحبّذ أحيانًا أخرى كان أن حدّ من غلواء السلطة او الهيمنة او الاستبداد بينهم.

6-طرق التفكير والمهام: ارتبطت المهام (الوظائف التي شغلوها) بطبيعة الاتجاه الذهني لديهم فحيث كان ياسر عرفات يمثل الشخصية الاكثر دراكية (دينامية) وقدرة على الجمع والاستقطاب كان أن قدمه إخوانه قائدا لقوات العاصفة ثم ناطقًا باسم الحركة ثم رقائدًا عاما للثورة الفلسطينية ورئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية وصولًا لرئيس فلسطين، فيما استقر من ركزوا على العمل العسكري في إطارهم امثال كمال عدوان وأبويوسف النجار وابوجهاد وكان للمثقفين الكبار أن رسموا ومن نسيج تجاربهم السابقة مفاتيح العبور للحركة فكريًا من امثال ماجد أبوشرار وخالد الحسن وصخر حبش وهاني الحسن. وكان الهاجس السياسي المقترن بالامني من نصيب تفكير أبوإياد وأبوالهولن ولا يغيب عن الوعي ما كان لأبي إيادمن دور المعارض الشرس لأي من أخطاء القيادة وخاصة أبوعمار وما جعل من إطار اللجنة المركزية لا ينبع من فكرة الطاعة العمياء والانصياع كما حال التنظيمات الفكرانية (الأيديولوجية)ن وإنما أقرب للتنظيم الديمقراطي التشاوري.

7-السمة السابعة التي أريد التوقف عندها ما عايشتها أو (درستها او سمعتها) مع كثير من هؤلاء القادة هي الايمان بالله والوطن والسلوك الحسن، والمحبة رغم الاختلاف والوعي رغم تعدد وجهات النظر، واحترام الإطار الجامع، والقدرة على الاحتضان للأفكار والمبادرات ودعمها. رغم التجاذبات الشديدة. فكانوا بغالبهم بحق مدرسة لليُسر (اليسار) وحضنًا دافئًا لكل صاحب رأي، وجعلوا من بيوتهم ومكاتبهم بيوتًا مفتوحة لا ترد طالبًا وتنصف كل ظالم وتتحمل كل مشاغب أو متمرد، وتتفهم كل معارض بمعنى آخر أن الرحابة مع القدرة العالية على التحمل كانت سمتهم التي صبغت الحركة ككل.

قوة الاستمرار في لماذا ننتمي 

للشبيبة الناهضة والطلاب شحنات الغضب الساطع ضد المحتل، ولكل الكوادر دعني اختم بما كتبته حركة "فتح" تحت عنوان: قوة الاستمرار في لماذا ننتمي للحركة،[4] حيث قالت:

كان من المهم أن تكون فتحاويا، هذا ما واجهني به قائدي في لحظات تأمل، فلما قلت له لماذا؟ تبسّم، ثم أسهب القول وأفاض، والتقطتُ مما قاله نُتفا لافتة!

قال لي: من المهم أن تكون فتحاويا لأن الطريق طويل، وإن لم تتجّهز له جيدا تعجز... وتخور وتموت بلا ثمن، وهي "فتح" هي الطريق.

من المهم أن تكون فتحاويًا لتستطيع أن تخرج من الشرنقة، وتستعيد الفضاء الذي ضُغط ضغطًا شديدا، وصُوّر لك أو لغيرك أنه حصرًا في شرنقتك أو شرنقتهم، وفي قالبك المغلق، ولا فضاء خارجه. كان من الأجدر بك أن تكون فتحويًا، فلا تنتمي سياسيًا لغير فلسطين، ولا يغزو خلاياك إلا هي أي فلسطين،

لتأخذ من أنسام الربيع القادرة قِدرأ كبيرة، تحوي القُدْرِة الكبيرة على إنهاض رئتيك اللتين ترفضان عطن الهواء، ولا تقبلان إلا نسائم الزهور والخِلّان والإيمان بالقَدَر. كان من الأولى لك أن تنتسب لحركة

التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) لا غيرها، وسيلة رحبة ومدىً مفتوحا، وسياجا آمنا ورباطا بلا ثمن، وسعيا عند الله مشكورًا، وسبيلا للمحسنين نحو المعشوق.

 استطرد...وأنا مُصغٍ: "فتح" هي الحبُ بلا حدود، وهي فكرة العِشق دون انتظار القُبلة، وهي النباهة حين تضيق العقول فلا تدخل حتى من ثقب إبرة.

 حركة فتح هي النُبل حينما يفسد الكثيرون، وهي الأرض حين يهتز الآخرون ويميدون ويتساقطون ويعجزون، وهي الصمود حينما يتراخى الفاشلون، وهي فروسية العقل حين يعيش الأتباع في عباءة الظلاميين أومن خلال مفاتيح التفكير التي لا يملكها سواهم.

عاد قائدي منتشيًا بعد لحظات ترقّب، نظر فيها خارج النافذة المطلّة على حريق الفجر البازغ مختالًا، فقال: في حركة فتح قد ترى الألوان كثيرة حين تختلط، ولكنك حتمًا ترى نور القمر المنير جليّا فتهتدي ولا تضلّ.

 الموئِل حيث ترى الفرق جليًا بين ضيق الحقد والكراهية، ورحابة الصدر المنشرح هو في الوسط الفتحاوي المرحاب، بلا سدود أو مصائد أوشِراك.

 من الضرورة أن تقدّر وتثمّن عاليا ما قُمتَ به باختيار التمرد والثورة والانتفاضة والحرية والمقاومة لمجرد اختيارك حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح سبيلا، ووسيلةً ومتسعا، لأنك بتمردك على تراجع الذات لا تقبل الفكرة المحصورة المشرنقة، ولأنك بثورتك على الأوثان ترفض العبودية لغير الله، فترفض العبودية لأصحاب الفكر المغلق والفكر المطلق، وأصحاب القداسة الموهومة الذين يعكسون رأيهم أو فهمهم كِسَفا مقدسة تتساقط على رؤوس الناس كالقَدَر، وكأنها والقرآن الكريم واحد، وما هم إلا كاذبون دجالون.

 أشار لي بسبابته كأنه يخاطبني أنا لا سواي، وأفصح: تقديرك لذاتك جاء مع اختيارك نبض الحرية في الفكر والوطن والفعل الحر، بالثورة أنت تعيش الانتصار وبالتمرد والانتفاضة والمقاومة والصراخ بكل الإشكال لا تتخلى عن أخوانك، فتجاهد في ذاتك كثيرًا وفيهم.

"فتح" هي المساحة الرحبة الواسعة المتاحة لي ولك دون أن تفتش في عقلك "لتتوقف وتتبين"، ودون أن تفرض عليك في كل أمر (فهما) محدودا و(فكرا) مقدسا وأسلوبًا بلا بدائل يمتزج مع فساد الأمزجة ومتغير الرأي، فيها أنت تحاورُ وتناظرُ وتعبّر وتجاور وتنقد وتعترف وتخالف فلا تُضار.

لأنك أخترت أن تُمسك يومَك بيديك فلا تهدره، وتضع غدَك بين عينيك فتديم النظر، ولأنك عندما تنظر إلى الخلف قليلًا فإنك تتعلم وتنتقد وتُراجع خطواتك وتعترف بأخطائك ولا تقف عند هذا الحد، بل تُصوّب الخطة أو المسار وتعدّل وتطور، ولأنك اخترت "فتح" فإن عليك أن تقدّم الجديد دوما بأن تبادر وتُبدع، ولا تكلّ العمل ثم العمل ثم العمل لخدمة الشعب فتَبرَع.

 بعد نفسٍ طويل قال: عندما خرجت الفكرة، فكرة حركة التحرير الوطني الفلسطيني -فتح من ركام آهات الموجوعين الملدوغين "اللاجئين" من ظُلمة الكلام إلى نور الفعل، عندما تجلّت من واقع بؤس الأحزاب بشعارات الرنين والطنين كان الاستعصاء السياسي والثقافي والفكري هو الخطرُ الماثل، وكان التشتتُ و التمذهب والتحزّب والفكرَنة (الأدلجََة) هو الطاغي تمامًا كما هي الحال اليوم، فكلما انتشرت فتاوي التكفير والتخوين والتشهير كلما سقطت الأوراق الباهتة وعلت راية صلاح الدين الصفراء راية الفتح المبين.

 أنت إبن عائلتك، وابن وطنك أولًا، لذلك تُقسِم في حركة فتح على الولاء والانتماء لفلسطين، وسبيلك ووسيلتك وحضنك الداخلي حركة فتح، لا كما يُقسم الآخرون ليموتوا فداء لأفكار الأصنام والأسلاف، فداء للفكرة الضيقة بلا هواء منعش، أو تجدد في شرنقة الزمن الفائت.

إن من الجميل أن تُنير كلما أشرقت الشمس، وبان سِنُ الفجر الضحوك، فالشمسُ المشرقة هي فكرُنا العربي الإسلامي بصيغته الحضارية الوطنية الرحبة، الجامعة لكل الأفكار، المتآلفة في نسقها الانساني الكوني، ومنها لتراث المسيحية المشرقية الجميلة، وتلاقح الحضارات، أما الفجرُ الضحوك بإشراق الشمس فهو أنت ... الفتحاوي الأبي القابض على بندقيته والقلم.

أن تكون فتحويًا يعني أن تعيش ضباب فلسطين فتتكاثف فيك، وتتنفّسها، وتعلو بها سحابًا، فتمطرها، بل وتُمطرك عبر "فتح"، وتندمج مع اشتياقات قطرات الندى، وفتيل اشتعال نور الصباح.

أن تكون فتحَويّا يعني أن تكون عربيًا فلسطينيا، أن تكون إنسانا، فلا توجّه بندقيتك أبدا إلا إلى صدر الأعداء الذين كانوا لنكبتك صانعين ولأرضك محتلين ولثقافتك سارقين.

 لك أن تفخر بالتاريخ وحضارة أمتك العظيمة، ولا تتوقف عنده، فأنت التاريخ يمشي على قدمين فيضع الفاسدَ منه في خطوة يطأها، ويرفع رجله الثانية ليبني لبنة جديدة -من عريق تراثه وتجدّد عقله وكونية حضارته- في مستقبل الأمة، وفي مستقبل فلسطين، لأنك كما ترى، تسير في درب الفتح المبين.

 يجب أن تصمد ولا تنهزم أبدا، ولا تتراجع، فأنت العربي الأبيّ الفلسطيني المارد ابن العمالقة منذ الفلسطيني الأول من مليون عام ومنذ كنعان الأول وخالد الأول وعمر الأول، ومنذ ظهر ظاهر العمر الزيداني ثم أوصى بعمامته ميراثًا لعزّ الدين القسام الذي أوصى أصحابه بها ليلبسها ياسر عرفات كوفيةً مرقطةً، لتصبح مشعل مقاومتك اليومية، وعرفانك الدائم وخلاصك الأبدي يا ابن الحركة المنيرة العلم المتجدد، والعمل المتقن، بدأب... من المهد الى اللحد.

 أنت المؤمن ممن قال فيهم الله تعالى-وفي كل المؤمنين- حاثًا على التفكّر والنظر والبصر (وفي أنفسكم أفلا تبصرون – الذاريات 21) وأنت، وأنتم ممن قال فيهم جلّ ثناؤه (لهم قلوب يعقلون بها – الحج 46)، ويجب أن تكونوا ممن قال فيهم الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء – فاطر 28)، فتخشون الله بكل المعاني بمعنى توقّي غضبه وجحيمه وبمعنى (الحب) لله، بعدم الوقوع بالزلل الفكري أو الخلقي أو المسلكي، وبمعنى (الرجاء) من الله تعالى وبمعنى (العِلم) فمن يعلم يرجو ويخشى ويُحب فلا يضرّ محبوبه أبدا.

ارفع رأسك عاليا، فأنت تتنسم هواءً نقيا، ولا تقبل فاسد الهواء المتمركز في مغاليق العقول وتلافيف أدمغة الظلاميين ممن يصورون لأتباعهم أنهم ظل الله في الأرض في احتكار للرأي يظنونه الحقيقة المطلقة! ما هو فعل مرذول، وما هو إلا رأيٌ قابلٌ للأخذ وقابل للرد، ونحن نرُدّه فلا نتّبع الفكر الجامد والمغلق والعدواني والبارد أبدا.

 كن فتحويا فلا تهاب إلا الله، وكن فتحويا فتصبح غايتك تحرير ذاتك وتحرير مجتمعك وناسك وتحرير فلسطين، وتكون أهدافك وطنية أولا وتاليًا في عمق أمتك العربية الاسلامية المسيحية الانسانية، فترتفع رايتك حتى عنان المساء، وكن فتحويا فتدرك معنى حريتك، ولا تهن ولا تكِل ولا تتراجع ولا تحزن ولا تقطع صلاتك ولا تخنع ولا تجبُن ولا تفحش ولا تمتلئ سوادا أو سلبية أبدا.

 كن كما أنت، فأنت بذا تكون فتحويا، لأن حركة "فتح" بِنْتُ فلسطين وهي أمُّ فلسطين، وهي شبهُ فلسطين بلا ألوان تجميل أوعلامات تجارية مستوردة سواء من عمق فاسد التاريخ، أو جحيم مستورد الأفكار.

 أنت المتجدّد المتعدّد، غير المتردد، ولا المتبدّد، أنت القابض على جمر دينه ووطنه ووعيه لا يفلت أي منها أبدا، فلا يهوى في سحيق وديان الظُلْمة وأمراء التكفير والتجهيل والتخوين، فلست نبيًا وإنما إنسانًا تُحب المسيح عليه السلام، الفلسطيني المؤمن العظيم كما تحب كل إخوانه، وخاتم الرسل وأعظمهم، وتراب الأرض.

 أن تكون فتحويًا فإنك تتموضع بثقة حين تشرق فلسطين فتصبح الفلسطيني في سنا الفجر الضحوك...المنتصر.

 قال لي قائدي الذي لا أتوكأ على كتف أحد غيره- بعد هدى الله- وذلك حين تهب "العاصفة" أو في حالات الهدوء والسكينة، وفي الأمور الشِداد، قال لي قائدي وهو عقلي: أنتَ الحرّ، وأنت الذات المتموّجة الأنغام، الذاتُ المتصلة بما سبق، والممتدة في المسافات والدروب والأهداف والأحلام لمن الحق، وأنت الكُلّ المتكاملة المتداخلة المتشابكة بحنوّ في روح واحدة، لذلك كان من المهم أن تكون فتحويا...لأنك تعيشُ فلسطين.

دعني أكرر: كُن كما أنت، فأنت بذا تكون عربيًا وفلسطينيًا ثم فتحويا، لأن حركة "فتح" بنت فلسطين وهي أم فلسطين، وهي شبه فلسطين بلا ألوان تجميل أو مساحيق، أوعلامات تجارية مستوردة سواء من عمق فاسد التاريخ، أو جحيم مستورد الأفكار.