محمد بكري وعصام مخول: إرث فلسطيني ثقافي ووطني لا يُمحى

2025-12-30 11:47:22

مع نهاية عام 2025، فقدت فلسطين شخصيتين بارزتين جسّدت كلّ منهما جانباً مهماً من تجربة الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948: الفنان والمخرج محمد بكري، والسياسي والمناضل عصام مخول. ويمثل رحيلهما فرصة للتأمل في أبعاد النضال الفلسطيني التي تتجاوز المواجهة المباشرة، لتشمل الفن، والثقافة، والسياسة، مسلطة الضوء على الدور الحيوي للفرد في الحفاظ على الهوية الوطنية في ظروف صعبة ومعقدة.

محمد بكري وعصام مخول لم يكونا مجرد أسماء في تاريخ فلسطين الحديث، بل تجسيد حيّ لمقاومة فلسطينية متعددة الأوجه. فبينما استخدم بكري الفن والسينما كأداة للذاكرة الوطنية، مؤكداً على الإنسان الفلسطيني بوصفه محور الصورة، قدم مخول نموذجاً للنضال السياسي المبدئي في الداخل الفلسطيني المحتل، مجسّداً نضالات الفلسطينيين ضمن الأطر والشروط المعقدة التي يفرضها الاحتلال.

في ظل محاولات الاحتلال تهميش الهوية الفلسطينية، تُعد أعمال بكري ومساهمات مخول رافداً مهماً للذاكرة الوطنية، وتشكل نموذجاً لكيفية دمج الفن والسياسة والثقافة في صون الحقوق والحفاظ على الهوية. وتوفر دراسة مسيرتهما فهماً أعمق للتحديات التي تواجه الفلسطينيين في الداخل المحتل، وتوضح طرق مقاومة التهميش الثقافي والسياسي عبر الإبداع والعمل المستمر.

محمد بكري: السينما كفعل مقاومة

رحل محمد بكري ابن قرية البعنة في الجليل عن عمر يناهز 72 عاماً، تاركاً إرثاً سينمائياً وثقافياً امتد لنحو خمسة عقود. وقد ارتبط اسمه بالسينما الفلسطينية منذ البدايات، حيث ساهمت أعماله في نقل التجربة الفلسطينية من هامش السينما المحلية إلى فضاءات المهرجانات الدولية، مؤكداً على الإنسان الفلسطيني كشخصية كاملة، لا مجرد ضحية أو رمز سياسي.

اشتهر بكري بأدواره البسيطة والتأملية أمام الكاميرا، التي حملت دائماً نزعة شعرية، معتمدة على النقد الفني والإنساني للاحتلال الإسرائيلي. ومن أبرز أعماله المبكرة Hanna K (1983) وعرس الجليل (1987)، وحيفا (1996)، وصولاً إلى الوثائقي جنين جنين (2002)، الذي تناول أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وقد نالت أعماله العديد من الجوائز الدولية، مثل جائزة الفهد الذهبي في مهرجان لوكارنو، وجوائز مهرجانات قرطاج وغيرها، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة السينمائية الفلسطينية.

بلغ إرث بكري ذروته مؤخراً في فيلمه الأخير (( All That's Left of You، الذي عُرض في مهرجان صندانس السينمائي بداية العام 2025، وتم ترشيحه لجائزة أفضل فيلم روائي دولي في حفل الأوسكار لعام 2026، ليصبح بكري أيقونة فلسطينية تنافس على الأوسكار حتى بعد وفاته، مؤكداً استمرار حضوره الفني والإنساني.

في آخر لقاءاته الإعلامية، وصف محمد بكري عمله بأنه جهد لإبراز الفن والإنسانية والارتقاء بالقيم في مواجهة قسوة الاحتلال، محافظاً على أصالة السرد الفلسطيني، ومقدماً نموذجاً ومرجعاً للأجيال الجديدة من الفنانين والباحثين في الثقافة الفلسطينية.

عصام مخول: السياسة الفلسطينية في الداخل

شكل رحيل ابن حيفا البار عصام مخول عن عمر 73 عاماً فقداناً للقامة الوطنية والسياسية الفلسطينية في الداخل. وقد شغل مخول عدة مناصب قيادية، منها الأمين العام للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وعضو الكنيست بين 1999 و2006، كما ترأس "معهد إميل طعمة للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية".

تميز مخول بمواقفه الوطنية وسعيه المستمر لتحقيق الحقوق المدنية والقومية للمواطنين العرب، وكان أول من طرح موضوع الترسانة النووية الإسرائيلية ومفاعل ديمونا للنقاش العلني، كاسراً سياسة التعتيم التقليدية. وقد شكّل مخول نموذجاً للمناضل الفلسطيني الذي يمزج بين السياسة والموقف الوطني والأخلاقي، وناضل حتى الرمق الأخير للحفاظ على الهوية الفلسطينية في الداخل المحتل عام 1948.

 

إرث مستمر

يمثل محمد بكري وعصام مخول نموذجين متكاملين للمقاومة الفلسطينية: الأول من خلال الفن والثقافة، والثاني عبر السياسة والمؤسسات. ويجسد إرثهما العلاقة المتشابكة بين الفن والسياسة، وبين الذاكرة الوطنية والتعبير الإبداعي، ليشكّل قاعدة صلبة لتوثيق التاريخ الفلسطيني وتعزيز الوعي الثقافي لدى الأجيال القادمة.

تؤكد دراسة أعمال بكري ومساهمات مخول أهمية دمج الفن والثقافة والسياسة ضمن برامج التربية الوطنية، ليصبح ذلك جزءاً من مشروع مستدام للحفاظ على الهوية الفلسطينية وتعزيز قيمها في المجتمع.

رحيل هذين المناضلين يمثل خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني وقضيته، لكنه في الوقت نفسه يذكّرنا بقيمة الإرث الثقافي والسياسي، ويدفعنا للعمل على نقله للأجيال القادمة بما يحفظ الذاكرة الوطنية ويكرّم تضحياتهما. كما يُبرز هذا الإرث أن النضال الفلسطيني يتجلّى في كل فعل ثقافي وفني وسياسي يرفع صوت فلسطين في الداخل والخارج، ليظل حضورهما مستمراً عبر الأجيال القادمة.. رحم الله روحيهما وطيب ذكراهما.