العدسة الاستعمارية.. كيف يفرغ الخطاب الاستعماري القضية من معناها؟

2025-12-31 21:23:38

لا يمكننا قراءة التقارير الإعلامية الإسرائيلية التي تتناول حياة الفلسطينيين اليومية كفعل صحفي مهني أو مجرد محاولة لنقل الخبر. إننا أمام ماكينة بصرية تعمل وفق استراتيجيات الاستعمار الناعم، حيث تُستخدم الكاميرا لا لنقل الواقع، بل لإعادة اختراعه بما يخدم الرواية المهيمنة. في هذه التقارير، لا يظهر الفلسطيني كإنسان يعيش تحت وطأة أطول احتلال في التاريخ الحديث، بل يُقدم بوصفه مادة للفرجة كائنا غريبا يُستكشف في محمية طبيعية مما يحول مأساته الوطنية إلى نمط حياة يثير فضول المستعمر.

هذا التوجه يعيدنا إلى جوهر نظرية الاستشراق التي صاغها إدوارد سعيد. فالمراسل الإسرائيلي يدخل المدن الفلسطينية بعقلية المكتشف الذي يقتحم عالم اللا – بشر المليء بالأكشن والمغامرة. هذه الدهشة المصطنعة أمام تفاصيل الحياة الفلسطينية هي في جوهرها فعل تجريد من الإنسانية، حيث يتم وضع الفلسطيني في خانة الآخر الذي يجب دراسته وتصويره لا كذات فاعلة، بل كموضوع للمراقبة والاستهلاك البصري.

أخطر ما في هذه التقارير هو لجوؤها إلى نظرية الإنكار من خلال العرض. فبدلاً من أن ينكر الخطاب الإعلامي وجود الفلسطيني أو معاناته بشكل فج، يقوم بعرض صور منتقاة بعناية لأسواق ممتلئة أو مراكز تسوق فارهة أو شباب يرتدون ملابس باهظة الثمن. الرسالة الضمنية هنا قاتلة: “انظروا، الفلسطينيون يعيشون في رغد، كل حديثهم عن الفقر والحصار هو محض ادعاء”.

عندما يركز تقرير إسرائيلي مثل تقرير "أيكون مول" قبل عدة إيام على وجود بنطال يصل سعره إلى 450 شيقل في مدينة فلسطينية محاصرة فهو لا ينقل خبراً اقتصاديًا؛ بل يمارس اغتيالًا رمزيًا للمظلومية الفلسطينية. إنه يحول الاستثناء (وجود طبقة ميسورة أو مظاهر استهلاكية) إلى قاعدة ليوحي للمشاهد الإسرائيلي والعالمي بأن الأزمة الإنسانية الفلسطينية هي كذبة كبرى. هذا الخطاب يفرغ المعاناة من معناها السياسي، ويحول الحواجز العسكرية والجدار الفاصل إلى مجرد خلفية سينمائية لا تؤثر على جودة الحياة المتخيلة التي يروج لها التقرير.

من منظور فرانز فانون، يسعى المستعمر دائمًا إلى ترويض الوعي الوطني من خلال خلق احتياجات مادية تربط المستعمَر بالمنظومة الاستعمارية. التقارير الإسرائيلية التي تحتفي بـالتعايش الاستهلاكي هي محاولة لفرض تطبيع قسري. إنها تريد إقناع الفلسطيني بأن الحل لا يكمن في التحرر الوطني، بل في تحسين جودة الاستهلاك.

هذا النوع من التغطية هو محاولة لغسل دماغ المتلقي بأن الاحتلال يمكن أن يكون ناعمًا أو غير موجود طالما أن الأسواق مفتوحة. إنها محاولة لتحويل القضية من صراع على الأرض والسيادة والكرامة إلى نقاش حول القدرة الشرائية. هكذا، يتم تذويب الهوية النضالية في الهوية الاستهلاكية ليصبح الفلسطيني المثالي في نظر هذا الإعلام هو المستهلك الهادئ الذي لا تزعجه الدبابة طالما تتوفر له الماركات العالمية.

أثار نقد تقرير هيئة البث الإسرائيلية عن مجمع أيكون مول التجاري في مدينة رام الله ردود فعل متباينة تكشف عن انقسامات عميقة في فهم طبيعة الصراع، يمكن تفكيكها إلى ثلاثة أصناف تعكس مستويات مختلفة من الهيمنة الثقافية كما وصفها أنطونيو غرامشي:

1. المستهينون بسلطة التراكم: هذا الصنف يتعامل مع هذه التقارير كأحداث عابرة، متجاهلاً أن القوة الاستعمارية لا تغير الوعي بضربة قاضية، بل عبر تراكم الصور والرسائل المبطنة. الأفكار لا تُزرع دفعة واحدة بل تُبنى من خلال جعل غير الطبيعي (وجود المحتل كمصور وسائح في مدننا) يبدو طبيعيا بمرور الوقت. هؤلاء يغفلون عن أن المعركة الحقيقية هي معركة تعريف الواقع.

2. أصحاب المقارنات التبسيطية: وهم الذين يقارنون بين تقرير ناعم عن الأسواق وبين بروباغندا عسكرية فجة مثل خطاب أفيخاي أدرعي في داخل المدن الفلسطينية. هذه مقارنة قاصرة فالخطاب العسكري الفج يسهل رصده ومقاومته، أما الخطاب الناعم فهو يتسلل تحت جلد الوعي بصفته صحافة إنسانية أو اجتماعية، وهو ما يجعله أكثر قدرة على التخريب الثقافي طويل الأمد.

3. صنّاع الوصم: هذا الصنف يرى في أي نقد وطني لهذه التقارير مجرد خطاب إخواني أو تفكير قديم من السبعينيات. هذا الموقف يمثل ذروة الاستلاب الثقافي. أو وصف التمسك بالثوابت الوطنية ورفض التطبيع الإعلامي بـالرجعية هو انتصار كامل للمنظومة الاستعمارية التي نجحت في جعل الدفاع عن الكرامة يبدو كفعل خارج عن العصر.

إن هذه التقارير الإسرائيلية لا تهدف إلى الإخبار، بل إلى صناعة اللا – حدث. أي جعل الاحتلال حدثًا ثانويًا غير مرئي أمام وهج الصورة الاستهلاكية. إنها محاولة لكيّ الوعي الجماعي وجعل الفلسطيني يرى نفسه بعيون سجانه، كموضوع للدراسة أو كزبون في سوق، وليس كصاحب حق في وطن.

إن مواجهة هذه التقارير تتطلب وعيًا نقديًا يتجاوز مجرد الغضب العاطفي، تتطلب تفكيكًا لبنية الخطاب الاستعماري وفضح أهدافه المتمثلة في تفريغ القضية من محتواها الأخلاقي. الفلسطيني الحر يدرك تمامًا أن بهرجة التقارير الإسرائيلية لا يمكن أن تحجب حقيقة أن كل قطعة ملابس تُباع وكل رف يُملأ يقع تحت وطأة سيطرة استعمارية تتحكم في الهواء والماء والحركة.

في المحصلة، تظل التقارير الإسرائيلية عن الفلسطينيين سلاحًا إعلاميًا يهدف إلى تجميل وجه الاستعمار القبيح. إن الاستسلام لهذه الصور يعني القبول بتصفية القضية وتحويلها إلى مجرد مشكلة اقتصادية. لذا، فإن النقد الحاد لهذا النوع من التطبيع الإعلامي ليس تشددًا، بل هو فعل حماية للذاكرة والوعي الوطني. إن المعركة اليوم هي معركة على المعنى والانتصار فيها يبدأ برفض أن نكون مادة للفرجة في مسرحية يخرجها الاستعمار.