"الأترمال" في غزة

2012-03-05 12:54:00

نظمت جمعية الحياة والأمل والكائنة في مخيم جباليا مؤخرا مؤتمراً ليومين حول مخاطر الأترمال موجهاً للمواطنين والصيادلة بشكل خاص. المؤتمر الذي أمّه عدد غفير من أصحاب الاختصاص سلط الضوء على هذه المخاطر وسبل معالجتها والحد منها، وعبر خلاله المشاركون عن قلقهم من ضعف السياسات العامة المتبعة للحد منه.

قصة الأترمال في غزة ليست بقصة جديدة، فهو ظاهرة يصح أن نقول إنه بات قديماً قدم الانقسام، بل إنه أحد أهم ظواهره في القطاع الذي وجد نفسه ضحية هذا الانفلات في تجارة الأنفاق والبحث المحموم عن الربح والكسب حتى لو كان على حساب الوطن والمواطن. وجد الاترمال مبكراً بالطبع في الصيدليات والعيادات والمستشفيات، ولكنه كان يوجد مسكناً للآلام يتم تداوله وفق وصفة طبية ولغايات طبية، لكنه فجأة أصبح بعد الانقسام تجارة رابحة حين صار يتم تداوله كمادة مخدرة للترفيه مثل باقي المواد المخدرة الأخرى. جملة من الأسباب تدافعت ليصل الوضع في غزة إلى ذلك. منها حالة اليأس التي أصابت المواطنين و انسداد الأفق والمستقبل المعتم الذي ينتظرهم. ووفق الأوراق المهمة التي قدمت في المؤتمر آنف الذكر، فإن جلّ المدمنين هم من الفتيان والفتيات كما الشبان والشابات في المدارس والجامعات. صحيح أن هذه الفئة هي عادة الفئة التي تشهد بداية الجنوح والبحث عن عادات جديدة وأفكار غريبة حيث ينتقل المرء خلالها من مرحلة إلى مرحلة يكون عليه الإجابة خلالها على الكثير من الأسئلة التي يستعيض عنها بتصرفات جديدة. وهي مرحلة حرجة تربوياً وعادة من يصاحبها سلوك مختلف وممارسات غير سوية إذا لم يلتفت الآباء لأبنائهم ويساعدوهم في اجتياز عتبة المراهقة. ولكن حقيقة الأمر أن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي هز غزة إثر الانقسام وغياب أي أفق في المستقبل دفع هذا الجيل للهرب من الواقع إلى عالم المخدرات. وهذا أمر أقترح أن يحظي بكثير من البحث والتنقيب لنعرف كيف دمر هذا الإنقسام البغيض حتى صحة مواطنينا. بعبارة أخرى فإن هؤلاء الشباب والشابات الذين يعرفون أنهم لن يجدوا فرصة عمل، ففرص العمل محدودة ونادرة وبحاجة لواسطة كبيرة، كما أن فرصهم في سوق الانتاج ليس أوفر حظاً، كما أن البحث عن مستقبل أفضل معدوم في ظل المعابر المغلقة والحركة المقيدة بجانب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والاعتقالات والمضايقات. كل هذه أسباب تقود إلى البحث عن الهروب من الواقع والبحث عن واقع أفضل يمكن من خلاله تناسي هذه القسوة. وربما كانت كلمة أترمال (وهذه لعلماء للسنيات والاجتماعيات) أهم مفردة في غزة ظهرت بعد الانقسام. وطبعاً يمكن للشبان أن يتلامزوا بكلمات أخرى لوصف الأترمال ومشتقاته من المنشطات تكون كلمة سر بينهم.

أشار المختصون إلى مدى انتشار تعاطي هذه العقاقير المخدرة، حيث قالت إحدى الصيدالانيات: إن الفتيات في المدارس الإعدادية يأتون إلى الصيدلية لشرائه، كما ذكرت أخرى إلى حالات إغماء متكررة في مدارس الفتيات ليتم اكتشاف أشرطة اترمال في حقائبهن المدرسية. الشباب بدورهم يطحنون هذه الحبوب ويخلطونها

مع تبغ النراجيل أو مع مشروبات عادية. ببساطة صار انتشار الظاهرة بشكل متغلغل في المجتمع.
بل إن أحد المتحدثين أشار إلى أن حبوب الأترمال تعطي من قبل القائمين على الأنفاق للفتيان الذين يعملون في حفر الأنفاق وفي جر المواد المهربة من أجل أن يتمكنوا من نسيان ما يعملون به والعمل بجهد وكد اكبر. وبالطبع ليس من أحد بحاجة لأن يتذكر بأن واقع عمال الأنفاق أيضاً مأساوي وهم لا يلجؤون لمثل هذا العمل لولا العوز والفقر والحاجة القاتلة. فشروط عملهم مضنية وغير إنسانية وهم ضحية آلة رأسمالية بشعة تسخر طاقتهم وأجسادهم كي تلتهم اموال الناس. فنحن أيضاً ننجح في تحويل حتى الوسائل التي ابتدعتها حاجتنا للتغلب على الحصار إلى أداة مسلطة على رقاب الناس لجنى الأرباح منهم. هؤلاء الفتيان العاملون في الأنفاق ليسوا تجاراً يبحثون عن الربح وليسوا هواة مغامرات بل إن بعضهم لم يبلغ سن الرشد ويذهبون هناك من أجل البحث عن لقمة عيش. يتم إعطائهم حبات الأترمال لكي لا يدركوا بؤس الحال الذين يعيشون ولا قسوة العمل الذي يقومون به. يا للبشاعة.

اشتكي الصيادلة من أن شرطة المكافحة تعدّهم فئة مستهدفة وليست جهة شريكة في مكافحة انتشار العقار. فبدلاً من التوجه إليهم لرسم سياسات للحد منها تقوم بمداهمة صيدلياتهم وتفتيشها بطريقة من يفتش مجرماً، بل إنه يتم توريطهم في بعض الأحيان كما يورط المهرب من أجل القبض عليهم وتدفيعهم الغرامات. ما يقترحه هذا، رغم حاجته للتحقق، من أن ثمة غياب لرؤية سليمة لمكافحة الظاهرة وأن ثمة غياب للإدراك بمخاطرها.

كانت الزميلة الكاتبة نسمة العكلوك كتبت مسرحية بعنوان "أترمال" قبل سنتين نشرتها مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي تعرضت فيها درامياً لمخاطر الأترمال على الفتيان والفتيات وكشفت بشكل حي ومن خلال شخصيات واقعية تلامس الحياة في غزة عن هذه المخاطر. كما أن العديد من المقالات والأبحاث نشرت والبرامج الإذاعية أطلقت حول هذا الخطر الكبير الذي صار يعيش بيننا وصار مسلماً به. الكل يدرك صعوبة الحال من مواطنين وآباء وجمعيات مجتمع مدني وكتاب وصحفين. أين الأزمة إذاً؟؟ أحد أهم الاقتراحات التي قدمها الصيادلة المشاركون في مؤتمر جمعية الحياة والامل المشار إليه هو ان تقوم الجهات المختصة بتشديد المراقبة على الحدود والمنافذ المختلفة كي يمنع تهريب الأترمال. وهي بالمناسبة توصية هامة ولكنها بسيطة وكان لابد أن يتم إدراكها مبكراً. إلا أن واقع الحال بأن تنفيذها ربما يكون حلماً في ظل وجود منفعة كبرى من وراء اقتصاد الأنفاق تجعل مثل هذه الرقابة مضرة بالمنتفعين. لكي يظل الضحية أبناءنا وبناتنا. و"وطن يباع ويشترى ونقول فلتحيا الوطن" على ذمة إبراهيم طوقان قرابة عقود تسعة. والحقيقة تقول: إن زوال النتيجة لا يكون إلا بزوال السبب؛ فانتشار الاترمال أحد أهم افرازات واقع الانقسام وليس من حيلة للتفكير قبل كل شيء في ضرورة إنهاء هذا الواقع، والذين لا يرغبون في ذلك لابد أن ثمة لعنة ستلاحقهم في التاريخ عليهم أن يقرأوها على وجوه الناس الباهتة في شوارع غزة.