في اسباب هروب الفضائيات من 'قضية شبانة' ومضاوي الرشيد ضمير مستتر في 'البي بي سي'
راية نيوز: قالوا كثيرا عن الفساد في السلطة الفلسطينية فلم يبق هناك شيء يذكر: مال وجاه ونفوذ وجنس (فأين ولمن تركتم الثورة؟) يا للعار!
غير أن الذي لفت انتباهي في قصة ضابط المخابرات الفلسطينية فهمي شبانة، قوله إنه اتصل بفضائيات عربية، بينها 'الجزيرة'، لكشف فضيحة مدير مكتب الرئيس. غير أن اتصالاته باءت بالفشل ما دفعه الى التعامل مع القناة العاشرة الاسرائيلية، حسب كلامه.
ما الذي يدفع محطة فضائية كبرى وناجحة وقوية لا تخشى أحدا، الى رد قضية ساخنة كهذه كان يمكن أن تجعل من شعبيتها نهرا جارفا؟ وهل 'الجزيرة' وغيرها من الفضائيات العربية مكتفية بالنجاح ونسب المشاهدة المحققتين لها؟
بصراحة لا هذه ولا تلك! المشكلة أعمق ـ وأخطر ـ تتلخص في الذهنية الإعلامية والتلفزيونية العربية ـ وهي بائسة مثل بؤسنا في الباقي.
بسرعة، تتكون هذه الذهنية من ترسبات عدة: تفضيل الأسهل، والخوف (غير المبرر أحيانا) من الانتقام ومن المتابعة القانونية، وتجنب إحراج الآخر، والحذر المفرط وانعدام روح المغامرة. يمكن أن تضيفوا لهذا كله قلة الإطلاع والتحكم في الموضوع، والبعد عن صحافة التحري وما تحتاجه من جهد وصبر ووقت وتكاليف.
وثمرة هذه الذهنية، هي برامج تلفزية فيها الكثير من الكلام العائم المعمم والأقرب الى التهريج دون دقة وبلا وقائع وبلا مراجع ومرجعية.
مثلا: تابعوا 'الاتجاه المعاكس' مساء اليوم (ولا أعرف حول ماذا ستكون الحلقة) أو أي يوم، وحاولوا أن تلاحظوا كيف يتدخل فيصل القاسم لـ'تصويب' أحد الضيفين ما أن ينوي الخوض في التفاصيل أو ذكر أسماء ووقائع.
عبارة فيصل المشهورة وماركته المسجلة هي: خلينا في الموضوع، خلينا في الموضوع.. مش هذا موضوعي!
طبعا، التفاصيل والأسماء والوقائع تعني مزيدا من وجع الرأس للقناة وقطر ووزير خارجيتها! فيبدو حرص القاسم والمذيعين الآخرين مضاعفا مرتين أو ثلاث مرات.
ولا تختلف القنوات الأخرى.
أتخيل مذيعا، وليكن القاسم مرة أخرى (ما عليش سامحنا يا رجل، من شدة محبتنا! عندنا يقولون رأس الأصلع أقرب الى الله، إذن هو أول من يناله الغضب) يناقش في إحدى حلقاته الفساد في الجزائر ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ ورائحته العفنة تصل الى لندن هذه الأيام: من المفروض أن الحلقة لن يكون لها طعم، بل لن تصلح بدون تحديد الأسماء والوقائع وتفاصيل أخرى تساعد المشاهد على الفهم والتفريق بين الأشياء. ناهيك عن اضفاء مزيد من الإثارة والتسخين، وهما بهاران ضروريان في الصناعة التلفزيونية اليوم.
لكن مع سيطرة الذهنية المذكورة آنفا، سينجح المذيع في الخروج بالحلقة الى بر الأمان وانهائها بأقل الخسائر، بل بدون خسائر.
كل ما سيسمعه المشاهد، كلام معوّم لزج عن الأنظمة العربية الفاسدة والحكومات العميلة لأمريكا والجيوش المهترئة وغيره.
عندما تُعمِل قليلا من العقل في الحلقة (وأي نقاش مشابه) بعد نهايتها، تحتار كيف تمكن المذيع من انهائها بهذه السلامة مثل بهلواني سيرك!
بيد أن الخروج بالحلقة الى بر الامان يحتاج هو الآخر الى مهارة وكفاءة وذكاء مثله مثل الذهاب بالحلقة في الاتجاه الآخر.
هناك ثمرة أخرى لهذه الذهنية، وهي أن المنطقة العربية، بفضائياتها ومشاهديها وحكوماتها، ما تزال منطقة استهلاك تلفزيوني كبير (مما ينتجه الغرب) رغم أن 400 محطة فضائية أو أكثر تبث منها.
هل تذكرون مثلا أن القضايا الكبرى في المنطقة كلها انكشفت على يد الإعلام الغربي وفضائياته؟ هل تذكرون أن فضيحة سجن أبو غريب، مثلا، رغم أنها أمريكية الصنع، كشفتها تلفزيونات أمريكية؟
بعد أن تنكشف هذه الفضائح، نأتي نحن فنبحث عن مؤامرة في مكان ما ونسأل لماذا في هذا الوقت بالذات؟ ثم نتسابق الى اقامة البرامج والنقاشات من حولها، لكن دائما بـ'خليني في الموضوع يا زلمة'.. 'لا لا ما بدي أذكر أسماء'!
وبعد، تعالوا نقلب السؤال المطروح في بداية هذا المقال (كي نصل الى السؤال الأصح والأسلم): ما الذي يدفع قناة عربية (ناجحة وصلت الى ما تبتغيه، أو فاشلة مسالمة) الى استقبال شبانة وفتح صندوق الفساد معه، الذي قد يفتح عليها ـ وأصحابها ـ أبواب جهنم؟
لا شيء! فلماذا يضع أحدهم أصبعه في عش الدبابير، وهو غير مضطر لذلك؟!
هل كانت 'الأم' ستسمح بالمبني للمجهول؟
ـ معذرة يا لغة الضاد ويا حماتها في الشرق والغرب، تحملوا سؤالي الأحمق: هل قلة المهنية مرادف للغة العربية؟
هناك عدة أشياء وملاحظات تدفعني الى التساؤل، آخرها تغطية في 'بي بي سي' العربي لقرار الحكومة الكويتية منع الاستاذة الجامعية السعودية، الدكتورة مضاوي الرشيد، من دخول الكويت.
في أكثر من نشرة الخميس الماضي، أعادت 'بي بي سي' بث تقرير بالصور أعده مراسلها بالكويت العاصمة عن منع الرشيد لأسباب لم يوضحها المراسل جيدا، لكنها لا تحتاج الى حصيف (لم ترد الكويت ازعاج السعودية، أو استجابت لضغوط منها).
ما يلفت في التقرير أنه لم يحتو ولو على صورة واحدة، مهما كان نوعها، للدكتورة الرشيد. ولم يتضمن ولو تصريحا واحدا لها.
هذه أول مرة اشاهد في 'بي بي سي' عملا بمثل هذه البراعة!
والدكتورة الرشيد ليست صحنا طائرا، وليست نكرة، وليست منقبة ولا تمانع من نشر صوتها وصورها. شخصيا أعرف شكلها، وهي زميلة من كتّاب هذه الجريدة. لكن أفترض دائما أن هناك في مكان ما من لا يعرفها ولم يسمع بها، أو يسمع عنها ولا يعرف شكلها وصوتها، فلماذا تهضم 'بي بي سي' العريقة حق هذه الفئة من الناس؟
هذه اسمها تغطية مبني للمجهول (وحتى لا يقول عني أحدكم إنني أعمل مثل 'بي بي سي' العربي، ها أنا أسارع الى وضع صورة الدكتورة الرشيد مع هذا النص).
عودة لسؤال البدء: هل لو كانت نشرة الأخبار في 'بي بي سي' الأم (بالانكليزية) كان سيُسمح ببث تغطية مبنية للمجهول؟
أين نزال؟
ـ لا أعرف ماذا حدث لذاكرتي هذه الأيام، فهي توسوس وتخنّس علي وتصر على احراجي مع القراء الكرام.
في مرة سابقة استيقظت فجأة وتذكرت مصطفى بكري وألحت عليّ أن أسأل عنه هنا، فتسببت لي في حرج مع فئة من القراء رأوا أنني تجنيت على أحد رموز القومية العربية.
ثم عادت الى سبات عميق واستيقظت اليوم لتسألني أين اختفى قيادي حماس الفلسطينية، محمد نزال.
طبعا لا مجال للمقارنة بين الرجلين. لكن السؤال عن نزال بريء لأنه اختفى فجأة بعد صولات وجولات في الفضائيات أثناء الحرب الاسرائيلية على غزة قبل عام من الآن.
يذكرني نزال بمحمد سعيد الصحاف في 2003 عندما كان الجيش العراقي، طبعا مدعوما بجيوش 22 دولة عربية، يتقدم لاحتلال واشنطن والإطاحة بنظام الرئيس جورج بوش الإبن.
فصوْلات الرجلين تتشابه وتسابق الفضائيات عليهما يشبه بعضه، مع فرق أن حماس لم تسقط بعد الحرب على غزة.
ورغم ذلك اختفى نزال.
قرأنا في أكثر من مكان أن حماس أعادت مؤخرا ترتيب بيت قيادتها العليا، فأتمنى أن يكون هذا هو سبب اختفاء الرجل ولا شيء غيره. والأهم أن لا يكون اختفاؤه مشابها لاختفاء الصحاف، أو على علاقة بالحرب على غزة ونشاطه التلفزيوني خلالها.
كاتب من أسرة 'القدس العربي'