حقوق الإنسان والانقسام
رايه نيوز: لم يترك الانقسام جانباً في الحياة الفلسطينية إلا وأصابه ببعض مصائبه. ولم يقتصر الأمر على مكونات النظام السياسي وحده ولا على تفاصيل حياة الناس ومأكلهم ومشربهم بل أيضاً أصاب استقلالية المجتمع المدني وحيادية المؤسسة التعليمية والصحية وما شابه والقائمة طويلة.
إذ إن ثمة من يصر على أن يتم تقسيم كل شيء وأن يكون لكل شيء نصيب من هذا الانقسام دون أدنى إحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع ولا تجاه منظومة الأخلاق التي تربط البشر بعضها ببعض حتى في لحظات الخلاف والاقتتال.
وهو نمط في التفكير والممارسة يجد صداه في كل تداعيات الحياة الفلسطينية ويجد من يشجع عليه للأسف، فالجبهة الفلسطينية مفتوحة نوافذها كلها لريح التأثير الإقليمي الخارجي سواء من الدول أو الأحزاب أو حتى العصابات والمؤسسات والشركات.
وضع كارثي لا يتم البحث في سبل الخروج منه بقدر ما يتم النظر في كيفية تعميق الانقسام واقتسام الكعكعة بصورة أكثر "إنصافًا" لأن هذا منطق الأشياء.
لم تكن مؤسسات حقوق الإنسان بعيدة عن هذا التنميط "الغنائمي" للأشياء في فلسطين. وبالأساس وللدقة لم يكن المجتمع المدني خاصة الجمعيات الخيرية والإغاثة بشكل أكثر دقة بعيدة عن هذا الاقتسام. فمنذ اليوم الأول صار ينظر إلى هذه المؤسسات بوصفها "غنائم" لابد من اقتسامها، فكل ما كان سابقا لوجود الوضع الحالي هو حق مكتسب ضمن شروط المعادلة الجديدة.
وعليه صار التدخل في أعمال هذه الجمعيات بشكل يخل بمبادئ العمل المجتمعي ويخرجها من دائرة الفعل النشط القادر على خدمة الناس حقاً.
فتوزيع المواد الاغاثية صار غنيمة لابد من اقتسامها ووجود "حصة" لهذا ولذاك وإلا فإن هذه الجمعية أو تلك مهددة بالمصادرة، مثلها في ذلك مثل الوطن الذي صار حصصاً يتكالب الجميع على ما يدعي أنها حصته منه. وعليه فرض على هذه الجمعيات أن تكون طرفاً في الانقسام ومعززة له في ذات الآن.
ولا أحد بريئة يده من الانقسام لأن الإنسان كما قال ألبيرو كامو ليس مذنبا تماماً فهو لم يبدأ التاريخ كما أنه ليس بريء تماماً فهو يكمله.
ومنظمات حقوق الإنسان التي قامت بدور كبير ومهم في توثيق انتهاكات الاحتلال وجنوده ومؤسساته بحق أبناء شعبنا وجدت نفسها في خضم هذا الصراع غير المبرر على السلطة والخلاف غير الأخلاقي على اقتسام الوطن.
وهي مثلها مثل كل فرد ومؤسسة منا ليست بريئة تماماً من الانقسام ولا هي مذنبة بشكل كامل في ذلك.
فهي وتحت حجج الحيادية وعدم الاصطفاف مع أي من الأطراف المتناحرة وعدم تسييس عملها فضلت أن تقف جانباً وكانت تتردد في رصد الانتهاكات بحق المواطنين في غزة كي لا يقال مثلاً إنها تعمل مثلاً دعاية لصالح حركة فتح وتهاجم حركة حماس وسلطتها في غزة.
وطبيعة العمل في مجال حقوق الإنسان هي عمل منحاز مئة بالمائة. فالناشط الحقوقي منحاز للحقوق وهو في مجال حقوق الإنسان هو منحاز بشكل كامل للدفاع عن حقوق الإنسان. وهذه هي المعادلة التي لم تعرف هذه المنظمات كيف تحافظ عليها. حيث آثرت أن تقف شبه صامتة لا تنتقد إلا على خجل ولا ترصد إلا بلغة شبه صحافية لا تحمل موقفا. بل إن بعض أرباب منظمات حقوق الإنسان ومنذ الشهور الأولى لحكم حماس بعد أحداث حزيران الدامية العام 2007 تبرع بكيل المديح والثناء على الوضع الجديد واضعاً نفسه برغبة منه أو بحكة رأس غير موفقة في صف الانقسام والمدافعين عنه.
بالطبع من أساس عمل المنظمات الحقوقية أن لا تكون طرفاً في الصراع المحلي لكن أيضاً من أسس عملها الواجبة التحقق أن تكون طرفاً في الدفاع عن حقوق الإنسان. والحكمة المنشودة في هذا أن هذه المنظمات أرادت أن تشتري رضا القائمين على الوضع الجديد دون أن تستفزهم ما قد يكون له تبعات على إمكانيات عملهم بحرية.
وهي حكمة سعت وراءها كل المنظمات العاملة في قطاع غزة سواء أكانت تلك المنظمات تعمل في حقوق الإنسان أو في النشاطات الاغاثية أو المجتمعية الأخرى وسواء أكانت تلك المؤسسات محلية أم دولية.
فالجميع أدرك أنه بحاجة للحياة في غزة التي يجلب اسمها الدعم والمال من الخارج والجميع يريد أن يستمر في تلقي هذا الدعم.
غير أن هذه السلبية الشديدة خاصة في وضع المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان لم تفلح في ضمان حياة هذه المؤسسات.
فسلطة حماس في غزة لم تقابل هذا الحرص غير المهني على الحيادية من قبلها بحرص على إعطاء هذه المنظمات فرص العمل بمهنية ما.
بدا هذا أكثر وضوحاً في محاولة اقتسام هذه المنظمات وأخذ ما لزيد لزيد وما لعمرو لعمرو. فنواب كتلة حماس في التشريعي في غزة يناقشون مشروع قانون تنظيم عمل الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان. والهيئة التي أوجدت بمرسوم رئاسي يسبق الانقسام بسنوات وهي مكلفة بالدفاع عن حقوق المواطن أمام الدولة، لم تكن طرفاً في أي صراع. ودون مناقشة شرعية القانون حيث عدم اكتمال النصاب القانوني في جلسات المجلس بسبب الانقسام وتعطيل المؤسسة التشريعية التي آثرت أن تكون طرفاً فيه بل وطرفاً فاعلاًَ، فإنه لا يمكن فهم هذا إلا أنه اقتسام غنائم الانقسام. فإذا كانت الهيئة لا تقوم إلا بقانون يقره التشريعي فإن تشريعي سلطة غزة أولى بتنظيم عملها. وقد يفهم المرء، دون أن يوافق على، القيام بتقسيم الغنائم الاقتصادية أو الصراع على عائدات ضرائب السيارات التي لم تدخل لغزة منذ أربع سنوات، ولكن ما لا يمكن فهمه كيف تكون حقوق الإنسان جزءاً من القسمة بل ومعولاً لتعزيزها. إلا أن المرء وحين يتذكر أن الإنسان نفسه صار كله مادة للقسمة قد لا يبقى له إلا أن يتشبث بحقوقه الغائبة والمضيعة أو يبكي عليها.