وجع الكتابة .. وكتابة الوجع

2010-10-04 11:53:00

رايه نيوز: لست كاتبا محترفا .. لكنني أقر بان الكتابة كانت ولا زالت ، أحدى هواياتي المفضلة ، وبأنني أتعاطاها سرا ، وعلانية أحيانا .و في مرحلة ما ... حاولت الالتزم بنشر ما أكتب ، ولكنني سرعان ما عدلت عن ذلك ، وفضلت البقاء في مقاعد كتاب المناسبات . وظلت الغالبية العظمى من كتاباتي حبيسة الإدراج وملفات الحاسوب .

وفي الحقيقة ، ربما عملت دائما على التملص من الوصول إلى المصير المحتوم الذي ستاخذني إليه الكتابة ، علني بذلك أنجو بجلدي من وجعها ووعورة دربها ، وكي اتحاشى استحقاقات الاشتغال بها ، فالكتابة مخاض .. آلامه مبرحة ومخاطره جمة .

مرارا ، قررت الإقلاع عن الكتابة وتدخين لفائف التبغ ... لكنني فشلت في كل مرة ، فمن كان قدره ان يكون فلسطينيا ،وحسن انتماؤه لفلسطين وطنا وشعبا وقضية .. وكان له إطلالة واعية على هذا الواقع ، فخياراته حتما محفوفة بالمخاطر ، وقد لا تكفيه الكتابة ولا التدخين متنفسا عما يفتك به من الم ، بل وقد تقوده استحقاقات كونه فلسطينيا إلى الإدمان على ما هو أخطر من ذلك .

قبل أيام ، وكالعادة ، تفقدت بريدي الالكتروني ، فوجدت ان رفيق برش أرسل لي مقالة تحت عنوان " كيف مات عدنان أبو محمدية " ، وقد نكأ هذا الرفيق بما جاء فيها جراحا لم تكن لتندمل ، وطوحت بي الذكريات إلى دروب وعرة لأربعة عقود خلت .. إلى مكاتب الغربي.. وقواعد الجنوب ... وظروف العمل السري تحت الاحتلال .. وزنازين التحقيق ... ومسيرة ما وراء القضبان ، وصولا إلى نشوء السلطة وتطوراتها واللحظة الراهنة . واسترجعت شتات الحلم الذي نزف في غبش الدروب وعلى أرصفة المحطات ... وداسته الاقدام ، دون ان تدرك بانها تعلوا بأقدامها هامات ودماء وعرق ومعانيات أجيال عدة ، عبدت لها الطريق لكي لاتتغبر أحذيتها بتراب الوطن .

تزاحمت الكلمات والافكار في راسي ، واختلطت بسيل من الشتائم المعهودة ، التي أضحت جزءا أصيلا من المعجم اللغوي للمرحلة ... ولم أجد أمامي من ملاذ سوى الكتابة ، رغم يقيني بأنها لن تجر علي - وكالعادة - سوى الويلات وتزايد الخصوم وتضاؤل قائمة الأصدقاء .

لا أستطيع أن اعرِف القاريء ب"عدنان أبو محمدية " بكلمات واسطر ، فأمثاله تضيق بهم المجلدات .. فالجبال الشاهقة ، ومهما طالتها عوامل التعرية ،تبقى شامخة و لا تتقزم إلى حفنة من التراب والحصى ، وتبقى عصية على أن تحيط بها أو تقارب قممها قامات الأقزام ا ومجال رؤياهم ، وأحيل المهتمين بالتعرف على هذا النموذج من جيل العمالقة ، إلى من تبقى من الرعيل الأول لمسيرة الأسر ، وسنواتها العجاف الأول .

وباختصار ، فان عدنان أبو محمدية ، ومثله في ذلك مثل الكثيرين ، قد أمضى سنوات رجولته ما بين القواعد والمعارك والأسر ، وكان طوالها نموذجا للانتماء الصادق والبساطة والقوة ، وعندما نال حريته عام 1985، عاش معدما ومريضا حتى لبى نداء ربه قبل اشهر ، دون أن يسمع بموته احد ، كما لم يعرف ببطولاته إلا القليل ... عاش على هامش السيرة ... ومات على هامش المسيرة .

بحياته ومماته ، مثل عدنان ظاهرة من ظواهر مسيرتنا بسلبها وإيجابها ، وأثار الكثير من علامات الاستفهام وأصابع الاتهام . فالانتماء كالعشق ، لا يكون منتجا إذا كان من طرف واحد دون الآخر ، والوطن مطالب بمبادلة من ينتمي إليه الانتماء ، أما أن يأخذ الوطن من أبنائه دون أن يبخلوا بالعطاء ، ومن ثم يشيح بوجهه عنهم عندما يداهمهم الكبر والمرض والعوز ... فهذا لا يمكن تصنيفه تحت باب الانتماء ، بل هو الأنانية والخذلان بعينه .

على مدى مسيرتنا النضالية ، كان هنالك آلاف من أمثال عدنان ، قدموا جل ما يملكون ، ولم ينتظروا كلمة شكر من أحد ... منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في الظل مخالب الموت بصمت وعزة نفس لا تبارى ، لو كان هؤلاء جنودا في تجربة أخرى لنحتت لهم التماثيل وشيدت النصب ، أما نحن فتركناهم على قارعة الطريق ، فلم نفيهم حقهم ، ولم نتجشم عناء حفظ أسمائهم في ذاكرة الأجيال . القائمة طويلة وتستعصي على الحصر .. ولا أريد أن أتحدث عن الأحياء ...ولكن من يعرف عن الشهداء عبد القادر أبو الفحم وراسم حلاوة وعلي الجعفري ؟؟ ومن استمع إلى ملحمة أبي سنارة وخالد الأطرش وبدران وعاطف أبو عكر وخالد الديك ؟؟ كم منا سمع عن أم خضر قنداح وأم عمر البرغوثي وأم احمد أبو هدبة ، اللواتي قدمن أكثر بكثير من أم غوركي ؟؟

لماذا تجاهلنا أهمية تخليد أبطالنا وبطولاتنا ؟؟ وهل هي مجرد صدفة أم ضرورة ، أن يسدل الستار على هذا الكم من النجوم التي أنارت ظلمة الدروب على مدى عقود ؟؟

قال لي صديق ساخر ، بأننا نعمل فلسطينيا وفق نظرية الطرد المركزي ، حيث يقذف بالعناصر الثقيلة إلى المدارات الخارجية ، في حين تبقى العناصر الخفيفة في المركز . .

ولكن الأمر جد جلل ، والمقام يستفز الدمع في مآقي الرجال ... ولا يحتمل السخرية ، فكيف نسمح بإلحاق مثل هذه المهانة بتاريخنا ؟؟

لست ادري لماذا تقفز إلى سطح الذاكرة ، قصة الكاتب الجزائري المشهور الطاهر وطار " الشهداء يعودون بعد أسبوع " ولماذا يلح علي ذات السؤال ... ماذا لو عاد الشهداء فعلا ؟؟ وهل سنستطيع تحمل نظراتهم وأصابع الاتهام التي تطل منها ؟؟ .

في رائعته اللاز ، قال الطاهر وطار " عندما تصبح الثورة شرفا وأوسمة ، يتراكض إليها كل المتخلفين "، ونحن لا نعارض في ان " يتعربش " هذا الكم من المتخلفين بقطار الثورة ، ولكننا لا نقبل بان يقوم هؤلاء برمي أوائل الركاب من نوافذ القطار ، واحتلال مقاعدهم ، والسطو على أمتعتهم .

عدنان .. يا رفيق الدرب والمعاناة ... ليس في معاجم اللغة من كلمات تليق بحمل اعتذارنا إليك ولرفاقك ... كما اننا لا نسألكم العفو والمغفرة ، لأننا نعلم بأننا لا نستحقها ... فذنبنا اكبر من إمكانات الصفح ... ورجاؤنا الوحيد ان تكون صورة الوطن الجميلة التي رسمتها له ، كما كانت ، عندما أغمضت عليها عينيك للمرة الأخيرة ... وعزاؤنا الوحيد ، إننا على ثقة بأنك ، وكعادتك ، قد استقبلت الموت برجولة ، وبكلماتك الساخرة المعهودة " عادي يا بن عمي " .