في الخليل: أطفال بعمر الزهور .. مع كرتونة بضاعة وحلم بالتجارة
الخليل - شبكة راية الإعلامية:
كتب: فؤاد جبارين ...
في الخامسة عشر من عمره، يستيقذ مبكراً كل صباح، ويحمل بضاعته ليتجول في شوارع الخليل ليلتقط رزقه ببيع ما يتسنى له من بضاعة، فيوم يبيع السجائر ويوم آخر اللبانة أو حتى المحارم الورقية، ويوم يربح أموالاً تؤمن له بعض المال، ويوم اخر يعود بالبضاعة الى البيت في ساعات المساء مكسور الخاطر لعدم بيعه الكمية التي يحملها طول النهار، لانه فقط عجز عن فهم ما يقوله الأستاذ في المدرسة من مواد معقدة، هكذا يعيش الطفل (م.و) 15 عاماً من مدينة الخليل، والذي طلب من شبكة راية الاعلامية عدم طرح اسمه. وهو هكذا يعيش طفولته منذ خمسة سنوات بين الزبائن والتجار والبضاعة بدلاً من المدرسة والأستاذ والكتاب.
ويقول (م.و) أنه ترك المدرسة في الصف الرابع لعدم قدرته على استيعاب الدراسة، حيث لم يقدر على تعلم القراءة والكتابة كغيره من الطلاب في الصف، ويضيف:" أنا لم أكن أحب الدراسة ولم أقدر على استيعاب كلام المدرسين بالأحرف والأرقام وحفظ الأحاديث والأناشيد، فلجأت بعد معاندة أهلي الذين هددوني بعدم اعطائي المصروف عند رفضي التوجه الى المدرسة، فقررت ان اعمل في التجارة لكي لا اعود الى المدرسة التي تعبت من اقناع المدرسين انني لا احب المدرسة ولا اريد ان استمر فيها".
ويعمل (م.و) يومياً في شوارع مدينة الخليل يتجول ويتنقل بحثاً عن زبون متعاطف، أو شخص يتعب من رفض الشراء، فيقبل بالشراء بعد إلحاح شديد من الطفل البائع، ويقول:" كل يوم بطلع الصبح من البيت عالشارع وببيع علكة او محارم ودخان وقداحات يعني كل ما يصحلي اشي جديد بجيبو وببيع منو لانو البيع بجيب مصاري وبقدر اشتري الي بدي اياه ورح احقق حلمي واصير تاجر كبير بالمستقبل".
حلمه بأن يصبح تاجراً كبيراً غلب على حلم والده الذي كان يتمنى أن يكمل ابنه الدراسة ويصبح مهندساً أو طبيباً، الا أن الطفل البائع لم يستطع تحقيق هذا الحلم حيث يقول الوالد:" تعب لساني وانا اقنع في ما يبطل من المدرسة ويصير يقرأ ويكتب ووعدته اعلمه في افخم الجامعات، الا انه رفض او بمعنى تاني ما قدر يستوعب الدراسة، ومش غباء هو بس ما حب الدراسة وانا بحمله المسؤولية وكمان بحملها لقطاع التربية والتعليم الذي ينقصه جانب ترغيب الطالب بالمدرسة والذي لم نستطع أن نحققه داخل العائلة".
ومن الجدير بالذكر أن عائلة الطفل(م.و) غير محتاجة مادياً، حيث يعمل والده كموظف ويستطيع ان يقدم له الأموال إلا أن الطفل البائع هو من قرر مصيره بنفسه .
تجولت شبكة راية الاعلامية في شوارع مدينة الخليل ولاحظنا العدد الكبير الذي يشغله قطاع العاملين الأطفال، ولاحظنا مرونة كلامهم ودهائهم في البيع لانهم يطمحون لبيع البضاعة بأي طريقة، وأيضاً شاهدنا البضاعة في العلب من جميع الأنواع يحملها أطفال أكبرهم 16 عاماً.
العديد من الأطفال هربوا من اجراء حوار معنا رغم فصاحة لسانهم وطلبوا منا عدم استخدام جهاز التسجيل، لانهم يخافون من لوم أهلم وسخرية أصدقائهم على حد قولهم.
أحد الأطفال الباعة قال لنا في عبارة سريعة:"التاجر الكبير كان اصلو بياع زغير وانا في يوم من الأيام رح أصير أكبر رجل أعمال في الخليل".
ومن خلال الحديث مع الأطفال بصورة جماعية تبين أن بعضهم ترك المدرسة والبعض الاخر يستغل العطلة الاسبوعية لكسب بعض المال.
وفي الأحوال العامة لعائلاتهم توضح ان بعضاً منهم غير محتاج وبعضهم الاخر يعيش هو وعائلته على مكسب بيعه في الشوارع.
لاحقنا أحد الأطفال للتعرف على وضع عائلاته لكنه فر هارباً برؤية الكاميرا وجهاز التسجيل الا ان بعض المواطنين أشاروا الى أن والده عاطل عن العمل ووالدته مريضة غير مصرحين عن اسمه واسم والده أو حتى مكان بيته، لانهم يرون ان نشر قصتهم مهيناً لهم على حد تعبيرهم ولكننا لم نكل.
احد الأطفال في شوارع الخليل قبل التكلم عن حالته حيث أن والده توفى قبل سنوات طويلة ولا معيل لهم الا الجمعيات الخيرية التي تهبهم بعضاً من المال، ولكنه لا يكفي للعيش في هذا الوقت في ظل الارتفاع الضخم في الاسعار فهو يبيع ليأكل من عرق جبينه.
ويقول:" لن أقوم بالتسول في الشوارع حتى نأكل في البيت، أنا عمري 16 عاماً وأستطيع تدبر أموري بحمل كرتونة من البضاعة وبيعها للناس وخاصة القادمين من الداخل وفي بعض الأيام أبيع كل بضاعتي للناس وأعود للبيت وأشتري لامي وأختي بعضاً من الطعام وأشتري بضاعة أخرى فأنا تاجر ولكني في بداياتي، مع العلم أن بعض المحلات في الخليل لا تبيع الكمية التي اسوقها من خلال كرتونتي".
بعض المواطنين في مدينة الخليل عبروا عن استيائهم من هذه الظاهرة حيث قال مواطن من الخليل أن الأطفال يتسولون بذريعة البيع، فهم يتوسلون للزبائن في كثير من الأحيان لشراء علبة مياه أو لبانة ويضيف:" الأهل هم من يرسلون بعض الأطفال الى الشوارع للبيع لأن اسم تاجر في مدينة الخليل هو الأكثر تمنياً من قبل الأهالي للأولاد، وبعضهم محتاجون ولهم كل الاحترام لانهم يأكلون من عرق جبينهم ولكن الصورة السيئة غطت على الصورة الايجابية".
من جانبها أكدت سوزان سلمي مديرة مديرية الشؤون الاجتماعية في محافظة الخليل أن المديرية عملت وتعمل على رصد ظاهرة العمالة لدى الأطفال في الخليل، من خلال شبكة حماية الطفولة بمساعدة شركائها من المؤسسات والشرطة وغيرها لحل هذه القضية، وأوضحت سلمي أن المديرية ستخفي هذه الظاهرة من خلال الشبكة.
وأضافت سوزان سلمي أن ظاهرة عمالة الأطفال في الخليل متزايدة وأشارت الى أن الأسباب من خلال رصد الحالات لا تدل على الوضع المادي الحرج أو الفقر في كل الأحيان، إنما يعود اسباب بعضها الى النظرة التجارية لدى أهل الخليل، حيث يسعى الأهالي لرؤية أولادهم رجالاً يعملون حتى لو كانو أطفالاً على حد تعبيرها.
وفي هذا الخصوص قالت سلمي :"وزارة الشؤون الاجتماعية تشهد هذه الظاهرة في جميع المناطق، إلا أن الخليل تشهدها بكثافة وسنعمل من خلال شبكة حماية الطفولة في مديرية الشؤون الاجتماعية في الخليل على الضغط على كافة الأطراف لإنهاء هذه الظاهرة التي تسئ للأطفال".
المياه المعدنية والمحارم الورقية واللبانة هي الأكثر رواجاً بين يدي هؤلاء الباعة ولا غنى عن الكرتونة المليئة بالبضاعة والتي يحملها شخص حلمه أن يكون تاجراً من رواد التجارة في الخليل.
واقع غريب وأليم يعبر عنه الباعة الأطفال في الخليل بتواجدهم بين السيارات والمواطنين وأزقة المنازل يبيعون بعضاً من البضاعة، منهم من يحتاج المال ليطعم عائلته، ومنهم من اتخذ المهنة للهروب من المدرسة، وبعضاً منهم يتخذها هواية في أيام العطلة الاسبوعية المدرسية أو ما بين الفصلين الدراسيين، وبضعاً منهم يطمح ذاك الطموح بأن يكون تاجراً كبيراً في الخليل، يفتتح محلاً تجارياً أو بقالة يكون فيها ملكاً لنفسه يكسب رزقه بالجلوس خلف الطاولة وليس تحت اشعلة الشمس الحارقة وفي الشوارع العامة، تلك البداية التي تمنحهم خبرة للوصول الى مكانة تاجر عظيم على حد قولهم، وعلى العموم فهي مشكلة خطيرة منتشرة في جميع المناطق ولكن بكثافة في الخليل ولا بد من معالجتها لما لها من تأثير على الأطفال من ناحية اجتماعية وتربوية وأخلاقية وتعليمية وثقافية وهنا يكمن هذا الواقع الأليم الغريب الذي لا بد من المسارعة في التخلص منه وتحويله الى واقع طفولي جميل يتمثل في المدرسة والتعليم وليس في الشارع والبيع.