التطبيع والمقاومة الشعبية

2015-04-20 05:42:00

في (التطبيع) عامة يستطيع المرء أن يقول الكثير، رغم أن المفهوم أو المصطلح إشكالي بمعنى ان كل طرف يعرّفه من الممكن أن يتعامل معه بسعة وشمول او ضيق وتقييد، إلا أن التطبيع كعملية تطل برأسها بقوة هذه الأيام في ظل الإغلاق الإسرائيلي لمنافذ الحل السياسي تحتاج لمعالجة وتحديد ونظرة وطنية.

هل اللقاءات السياسية تطبيع؟ أم اللقاءات غير المتفق عليها؟ أم تلك التي هي خارج الإجماع؟ أم تلك التي يقوم بها غير المخولين أو المختصين؟ أم أن أي علاقة مع الإسرائيليين (تجارية، ثقافية، اقتصادية، سياحية، فنية...) هي تطبيع سواء تمثلت بالاستيراد والتصدير أو اللقاءات أو المهرجانات؟

وهل يعتبر حضور العرب للّعب رياضيا أو للأداء فنيا في فلسطين تطبيعاً أم لا؟ وهل زيارات العرب والمسلمين للقدس الآن تطبيع أم إنقاذ؟ ومثل هذه الأسئلة الكثير مما يحتاج فعلا لضبط المصطلح وتحديده بدقة.

ان التطبيع بشكل عام بجعل العلاقة طبيعية غير عدائية بين طرفين مفهوم قابل للتفكير، ولكن عندما يكون الطرفان نقيضين بمعنى أن احدهما يسعى لإلغاء الآخر لا محالة فكيف يكون التطبيع؟! ان لم يكن هنا في حقيقته فرض إرادة القوى على الضعيف؟

إن التطبيع وكذلك الحوار وكما هو شأن المفاوضات مع (الآخر) تحتاج لعوامل محددة وضابطة يمكن ان نلخصها بالنظر إلى الآخر ورؤيته أولاً، وثانيا النّدية في التعامل وثالثاً توفر إرادة الحل، أما مع النقيض (المحتل والرافض للحل) فان هذا المجال أي التطبيع او الحوار او المفاوضات فيصبح صعبا جدا ان لم يكن مستحيلا (ثقافيا وفكريا وتاريخيا على الأقل) لأن (النقيض) سعْي لدمار الآخر، وان تحت صيغ الاعتراف المبهم وإظهار الموافقة على الحل، ما هو حال التعبئة والتحريض والادلجة الصهيونية ضد الوجود الفلسطيني بشكل عام.

في محاضرة له تكلم د. المتوكل طه عن رؤيته ككاتب ومفكر للتطبيع فأجاد في التعريف وان اختلفنا معه في بعض الأمور اللاحقة.

عرف المتوكل التطبيع بأنه: قبولنا برواية النقيض ( وليس الآخر) عنّا وعنهم، أي قبول ما يريده أو يدعيه(الاحتلال الإسرائيلي) سياسيا ودينيا وثقافيا، وأي شيء يمكّن (إسرائيل) ويعطيها حقوقها التي تدعيها فهو تطبيع.

تعريف مهم ونقدره ولكن التوسع اللاحق باعتبار كل علاقة مهما كانت محددة أم غير محددة، أو كل نتيجة لهذه العلائق تعد تطبيعا قد يوسع المفهوم إلى الشكل العدمي بحيث لا تكون هناك أي صلة مع الإسرائيليين بشكل قطعي ما هو غير ممكن فلسطينيا خاصة في الوطن بحكم التشابك الكبير القائم حاليا.

وان كنت أقدر رأي المتوكل بعدم تمكين الرواية الإسرائيلية تاريخيا ودينيا وثقافيا، فإن السياسة استجابة وتعاط مع الواقع وتعاط معه لمصلحة القضية والناس ما يستدعي الفكر العملاني القادر على الصمود والمقاومة وفتح آفاق تعامل غير مفتوحة على الغارب مع الإسرائيليين.

ان مفهوم الدولة الفلسطينية هو مفهوم يعترف بالتجاور مع الآخر، ومفهوم الدولة الديمقراطية على كل فلسطين مفهوم يستوعب كل التناقضات والتعديات لذلك، فإن الأفق السياسي في ظل ( رؤية الآخر والندية والإرادة) يعني عدم إقفال الأبواب وضرورة الخطو إلى الإمام.

إن التوسيع أو التضييق للمفهوم قد يجر البعض لتأويلات وتفسيرات تدخل في النوايا من جهة والقدرات والمقاصد من جهة أخرى، رغم أن المقاصد أو الأهداف من الممكن النظر اليها بسوداوية او بعين فاحصة من خلال النتائج او مستوى تطور الفعل.

بمعنى أن هناك من يعتبر أن المقاومة الشعبية هي تطبيع لأنها أغفلت العمل المسلح واتجهت لشكل منضبط يتساوق مع منطق التطبيع؟! وهذا أراه في سياق التشكك من جهة وفي سياق توسيع مصطلح (التطبيع) ليشمل كل شيء حتى فعلنا الايجابي، بينما يمكن النظر للمقاومة الشعبية من حيث المقاصد والسبل والنتائج المرجوة انها وسيلة واقعية حقيقية ضرورية لأنها تستثمر الطاقات الوطنية ( ما يجب ان تكون مقاصدها ووسائلها ان تعم كل البلد والمواطنين وتحظى بالقبول الدولي وتشكل رفضا مباشرا لاستمرار الاحتلال).

إن ( التطبيع) بمنطق التنازل والتشظي والانسحاق أمام رواية الآخر او النقيض (يصبح الآخر عندما يعترف بي بوضوح وبحقوقي) هو المسار المرفوض، وما يستدعي فتح آفاق الحوار السياسي مع المفكرين والفنانين والكتاب والسياسيين المعارضين الإسرائيليين عوضا عن إقناع أنفسنا انه لا يوجد وراء السور إلا الهباء.

ان صرخة رفض اسقاط رواية الآخر علينا صرخة ثقافية وفكرية ضرورية وتحتاج منا الى مؤتمر خاص أو ورشات عمل تتصدى للمفهوم وضبطه ووضع قواعد للتعامل معه.
ان الثبات والمقاومة والصمود والتمسك بروايتنا التاريخية والدينية والثقافية لا يعني أن نتمدد أمام عجلات القطار ولا يعني الصمت بل العمل الجاد لتحقيق النصر.