الأردن: «الدولة»عندما تمارس «الإقصاء» ضد رموزها

كنت في اقرب مسافة من الدكتور مروان المعشر وهو يطرح سؤاله الاستفهامي الحائر وسط نخبة من المثقفين والأكاديميين في دارة العالم الجليل والوزير الدكتور أمين محمود: لماذا وإلى متى تستهدف الدولة وتقصي أولادها ؟
سمعت الكثير المهم في تلك الجلسة الحوارية الوطنية في الصالون الفكري السياسي الوحيد الفعال باعتدال وموضوعية في عمان.
ما قيل وما سمعته ليس هو موضوعي في هذه المقالة بل السؤال الحائر المرير المتكرر والذي يدلل على «ضيق الأفق والصدر» بالمشهد الوطني والسياسي الأردني للأسف الشديد: لماذا تبعد نخبة من أرقى المثقفين وانقاهم في بلدي لصالح متاجرين وأنصاف سياسيين وبيروقراطيين ومسحجين؟.
قد يبدو السؤال ساذجا او مناكفا خصوصا وان معرفة الجواب لا تحتاج للكثير من الاجتهادات والفهلوة.
لكن لا يمكنني القبول بما يقال في السوق في هذا السياق وأشك تماما بتلك النظرية التي تتوقع بأن شعور طبقة كبيرة من رجال الدولة والفكر والسياسة بالاقصاء ناتج عن حاجتهم للبقاء في دائرة الضوء والمنصب او عن إحاطة مركز القرار لنفسه بنخبة من البسطاء.
لا أجد جوابا شافيا بهذه المعلبات والمسألة فعلا تستحق التأمل والتوقف خصوصا بعدما اكتشفت بان تكنيك «التشفير» في الحياة السياسية والإعلامية الأردنية يطال الكثير من الرموز والوجوه الذين يعترف بهم العالم ولا تعترف بهم بلدهم.
لعل بعض الأصدقاء والأساتذة من الساسة يسمحون لنا بكشف أمثلة عن بعض الذي يحصل لهدف نبيل وهو إيصال فكرة لا أكثر ولا أقل مع الاعتذار مسبقا عن اضطراري للاعتراض هنا:
يستأذن سياسي بحضور دولي وعربي وإقليمي من وزن طاهر المصري مرتين على الأقل في نفس الشهر لتسجيل مشاركة تلفزيونية في الإعلام الرسمي بمناسبتين ويتلعثم المتصلون في اللحظات الأخيرة وهم يبلغونه بالإعتذار في الوقت الذي لم تترك فيه شاشة عربية او دولية الرجل لاستقباله والتحدث معه باعتباره شاهدا على أهم المحطات في تاريخ المملكة والمنطقة.
تستمع مؤسسات عريقة وعميقة في العالم بعضها متخصص في إنتاج القادة والزعماء وكبار الباحثين لصوت وتقييم وتحليل رجل بوزن الدكتور عون الخصاونة صاحب الخبرة النادرة والكبيرة فيما يحرم الأردني وفي كل منابره الوطنية من الإصغاء لمثل هذا الوزن.
تعتد مراكز البحث المتألقة في عدة بلدان متطورة في العالم الحقيقي بخبرات وقراءات مفكر من حجم عدنان أبو عودة فيما يتخصص الإعلام الأردني بكل أجنحته في نهش الرجل والإساءة له بين الحين والآخر وتجاهل طروحاته التي تتحول يوميا إلى وقائع وحقائق.
لاحقا تصر زميلة في صحيفة الحكومة الأولى على تسجيل مقابلة يتحدث فيها شخص بمواصفات الدكتور مروان المعشر فيسأل الرجل ما إذا كان المطلوب حقيقيا ويتأمل المراجعة للتأكد قبل تسجيل المقابلة وبعد تسجيلها تتعرض للشطب والتثقيب والاختصار رغم ان الرجل غادر قبل سنوات موقعه كوزير لبلاط الأردنيين ولا مجال للمزاودة عليه حتى عندما يتعلق الأمر بالاختلاف معه.
لدينا أمثلة كبيرة عن طبقة من كبار رجال الدولة تستمع لهم قنوات القرار الدولي ويتحدثون على منابر كونية لكنهم لا يستطيعون قراءة اي نشاط لهم في صحيفة رسمية ويتعامل معهم القوم في البيروقراط وكأنهم تمثيل حقيقي للفيلم الأمريكي الشهير «عدو الدولة».
لا بل لا يستمع لهم او يستدعيهم احد للتشاور وتلاقح الأفكار وأزعم عن معظمهم بانهم يستطيعون تخصيص الوقت الكافي وبدون مقابل لتقديم خدمات نوعية من أجل الصالح العام.
لا اعرف سببا يدفع دولة في اي مكان لإظهار كل هذه الخصومة مع رموزها ورجالها عندما يغادرون او حتى عندما تختلف معهم لأي سبب وفي اي مساحة خصوصا وان مؤسسة النظام نفسها تطرح فكرا مستنيرا عن التعددية وإحترام الرأي الآخر.
وأعرف بالمقابل ان القنوات الرسمية الصغيرة التي تصنف الناس فتبعد فلانا او تقصي علانا ليست مركزية وتتصرف بناء على انحيازات او مصالح شخصية وحتى لا تنكشف ضحالتها وليس بناء على إعتبارات موضوعية لأن توجيه الإتهام سهل جدا في الأردن خلافا لإثباته.
انا اميل للقول بان تلك القنوات تخون واجبها عندما تزاود وتحجب المعلومات عن القيادة وتضلل الرأي العام لا بل تتصرف على اساس ان بقاءها في مواقعها النافذة رهنا ببقاء المشكلات التي يمكن حل معظمها لو أستمع مركز القرار لأصحاب الرأي السديد والخبرة المجربة والرأي الآخر المستنير.
خبرتي بـ«الفلاتر» بسيطة وسطحية ولا تتجاوز تبديل جلدة فلتر المياه في مكتبي عند الحاجة.
لكن بالمقابل لم أتوقع يوما أن داخل الصف الرسمي سلسلة طويلة من «الفلاتر» تنحصر وظيفتها في إلتقاط ومنع تسرب الأفكار النبيلة حصريا وخصوصا تلك التي تخدم القصر والنظام والثوابت وتحذر من كل تفصيلات الأزمة المعقدة التي تعيشها البلاد اليوم.
لم اتوقع يوما ان تلك الأصناف من الفلاتر الإنتقائية غير المخلصة الأجنداتية والشللية لديها فائض من الطاقة والنشاط خلافا لكل حلقات الإدارة الوسيطة الخاملة والكسولة.
لكنه نشاط معاكس ويستند إلى فكرة إقصاء الرموز التي حظيت باحترام الجميع والسعي لعدم تمكين الرأي المختلف من البروز خصوصا عبر وسائل إعلام رسمية مغرقة بالبؤس المهني وهي فلاتر وظيفتها تنحصر في زيادة عدد المثقفين المستنيرين من طبقة رجال الدولة سابقا الذين يطرحون السؤال الجارح في عمق المجتمع: لماذا تقصي الدولة وتستهدف اولادها؟
درسنا في الابتدائي حصة «الثورة التي تأكل أولادها» لكن حصة دولة عريقة تجاوزت كل أسئلة الشرعية في الكون لا زالت خارج المنهاج مع الاعتذار من الذين ذكرت أسماءهم ومن لم أذكر اسماءهم.