الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:30 AM
الظهر 12:37 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:22 PM
العشاء 8:43 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

لعبة الكراسي

الكاتب: أحمد غنيم

 

حاصرتنا الحرب داخل مسرح المدرسة العمرية الملاصق للجدار الشمالي للمسجد الأقصى المبارك، كانت إدارة المدرسة قد أخلت الطلاب على عجل  ظهيرة يوم الإثنين الخامس من حزيران سنة 1967، بعد أن أُبلغت من مصدر ذي شأن أن حشوداً من الآليات العسكرية الصهيونية بدأت تتقدم من  الجنوب الغربي نحو المدينة، وأن أصوات اشتباكات مسلحة بدأت تُسمع في شمالها الغربي،ليس بعيداً عن مشفى العيون. كُنَّا ثمانية عشر طالباً من النخبة المختارة لتمثيل المدرسة في الاحتفال السنوي الذي يقام على شرف ملك البلاد، وتحت ضغط اللحظة المفاجئة بنذور الحرب التي تكاد تنطلق، لم يفطن مدير المدرسة وأيٌّ من المعلمين إلى وجودنافي قاعة مسرح المدرسة  بينما هبوا لحث الطلبة على سرعة التوجه إلى بيوتهم.

وما هي إلا ساعات  قليلة حتى بدأنا نسمع هدير الطائرات المغيرة  ودوي الانفجارات القادم من باب حطة وحارة السعدية، انطلقنا نحو النافذة الوحيدة لقاعة المسرح والتي تطل على قبة الصخرةكي نستطلع الأمر، كانت باحات الحرم الشريف خالية على غير عادتها في ساعات الظهيرة، حيث يتوافد الناس من كافة الأحياء وعبر كافة البوابات استعداداً لصلاة الظهر. 

سارع الأستاذ مأمون إلى الباب فوجده قد أُقفل من الخارج .فجأة عاد هدير الطائرات وصوت الانفجارات، وبدأنا نسمع أزيز الرصاص البعيد. إنها الحرب، قال الأستاذ مأمون وقد شحب وجهه، وزاغت عيناه، وأخذ يتلفت يمينا ويساراً بشكل هستيري مضطرب.

ثم صاح فجأة : المذياع... المذياع....

وتوجه نحو غرفة الكنترول، وأدار مفتاح التشغيل فدوى في قاعة المسرح صوت موسيقى عسكرية، كانت تعلو وتنخفض ليتقدمهاصوت المذيع وهو يقول: "طائرات العدو تغير على أحياء البلدة القديمة، وقوات الجيش العربي ترد بقذائف المدفعية".

كانت أنامل الأستاذ مأمون ترتجف وهي تحرك مفتاح المذياع من موجة إلى أخرى، ثم يعود ليضغطه بإبهامه لتستقر الموجة علىإيقاع الموسيقى العسكرية. تدافع الطلاب نحو الباب، وعمت الجلبة قاعة المسرح، وعلا الصراخ ونداءات الاستغاثة، قرعنا الأبواب بقوة حتى كلت أيدينا. 
بدأ الخوف والقلق يعلو وجوهنا، وتحلقنا حول الأستاذ مأمون الذي لم يكن في حال أفضل منا، نظر أحدنا إلى الأستاذ مأمون، وقال:علينا أن نجد طريقة للخروج من هنا بسرعة قبل أن تشتدَّ الحرب، خاصة أننا لا نملك هنا طعاماً أو شراباً.

قال الأستاذ مأمون : لا بد أن يفطن المدير أو أحد المعلمين لنا،ويأتي مع النجدة لإخراجنا من هنا، دعونا ننتظر، لا بدَّ أن يأتوا لإنقاذنا، أنا واثق من ذلك.

قال طالب آخر من ذوي الهمة: لا جدوى من الانتظار، فمن نسينا ساعة النداء لن يذكرنا ساعة الغفلة، وإنْ تذكرَنا أحد فمن يضمن استعداده للتضحية والمغامرة في الوصول إلينا تحت قصف الطائرات وأزيز الرصاص. ليس لنا سوى الاعتماد على أنفسناوالبحث عن مخرج من هذا المأزق. وأضاف: هناك شرفة تُطلُعلى أحدِ البيوت الملاصقة للمسجد الأقصى تبعد عن نافذة المسرح قرابة عشرة أمتار أو يزيد قليلاً، لو استخدمنا أخشابالديكور وبعض مقاعد المسرح، يمكننا أن نصنع سلماً منزلقاًننتقل بواسطته إلى شرفة البيت المجاور، ومنها إلى باحات الأقصى، ومن هناك كلٌّ إلى بيته، أو ساح الوغى، إن شئتم.

لم ترق الفكرة ولا نبرة صوت الفتى للأستاذ مأمون، وأحسَّ أنهاتُشعره بعجزه، كما أحسَّ أنها لا تخلو من غمزٍ واتهام، لذا هرولإلى النافذة، حَمْلَقَ وقدّرَ المسافة بينها وبين الشرفة، ثم نظر إلينا وقد علا وجهه لون الأسى، ثم عاد وحدَّق من جديد بالمسافة الفاصلة بين حدِّ العزلة وحدِّ الحرية والخلاص، ثم التفت إلى زميلنا صاحب الاقتراح، وقال: لا شك أنك مغامر، لكنك لا تجيد تقدير المسافات، فما بين النافذه والشرفة يزيد على خمسة عشرمتراً، وأي محاولة لعبورها ليست سوى مغامرة غير محمودةالعواقب، ثم من يضمن أن أبواب الحرم الشريف ما زالت مشرعة، اقتراحك غير مجدٍ وقد يؤدي بنا إلى التهلكة.
قال زميلنا بعزم: دعنا نُجرب، ولتبدأوا بي، يكفي أن نصل إلىشرفة البيت المجاور لنُبلغ عن وجودنا هنا أو نطلب المساعدة.
أدرك الاستاذ مأمون أن اقتراح الزميل وشجاعته يُعريان ضعفههو، ويكشفان عجزه، وهذا ما زاد في تعنته ورفضه للفكرة،فأمرنا بالصمت والحفاظ على التهدئة التي يحتاجها ليُمْعن التدقيق في الموقف، ويقرر لنا ما العمل.

لحظات صمت ثقيلة سادت، كُنَّا ننظر بعضُنا لبعض، والأستاذ مأمون يجول بنظره نحو النافذة ونحو المذياع، بينما صوت الموسيقى العسكرية يصم الآذان.

فجأة نهضَ الأستاذ مأمون، وصاح: اجمعوا سبعة عشر كرسياً، سنقتل الوقت باللهو حتى يأتي الفرج. كانت حيلة الأستاذ مأمون أن يشغلنا ويبعد عن ذهننا فكرة الخلاص عبر النافذة والشرفة،كانت القذائف تتساقط على حي اللاتين وباب الخليل وحارة السعدية وباب حطة، وأزيز الرصاص يتصاعد. جمعنا الكراسي ظناً منا أن الأستاذ مأمون سوف يجعلنا نشرع بصنع سلم الخلاص، غير أنه رفع محرك صوت المذياع، وقال: سندور بسرعة حولَ هذه الكراسي، وكلما انتقل البث من الموسيقى إلى المذيع نجلس كلٌّ على الكرسي الأقرب، ومن لا يتبقى له كرسيٌّ يخرج من اللعبة، هكذا نقتل الوقت، فلا بد أن يفطن لنا أحد، لكن قبل أن نشرع في اللعب دعونا نُدَربس بالخشب وقضبان الكراسي هذه النافذه اللعينة التي تأتينا بالأصوات الرهيبة المخيفة. وهذا ما فعلناه.

على إيقاع الموسيقى العسكرية وصوت القذائف المخنوقة المتسللة من فتحة صغيرة في النافذه المغلقة كُنَّا ندور حول الكراسي،وكلما انتقل المذياع من صوت الموسيقى العسكرية إلى صوت المذيع، كُنَّا نجلس كلٌّ إلى الكرسي الأقرب، ليبقى في كل مرة ٍأحدنا من غير كرسي فيخرج من اللعبة. لم نكن ندري ونحن ندور حول كراسي الوهم هل نقتل الوقت أو يقتلنا، لكن الثابت الوحيد أن الأستاذ مأمون مع كل دورة للعبة كان يحافظ على نفسه واقفاً إلى جوار الكرسي الأول، وكلما انتقل المذياع من صوت الموسيقى العسكرية إلى صوت المذيع، جلس الأستاذ مأمون إلى الكرسي الأول الملاصق له تماماً.

بقينا على هذا المنوال منذ يوم الاثنين الخامس من حزيران 1967 نمارس لعبة الكراسي، والفائز في كل مرة معروف سلفاً، وذات صباح، ومن شدةِ الصخب والهرولة، سقطت بنا خشبة المسرح،وهوينا إلى دركٍ أسفل، بينما كانت أشعة الشمس تتسلل من فتحة صغيرة في تلك النافذة الوحيدة التي أقفلناها بأيدين

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...