الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:44 AM
الظهر 12:39 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:15 PM
العشاء 8:34 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

حاضر في غيابه

قال له الفريق الطبي النمساوي المعالج: بَيَّنَت الفحوص ونتائج العلاج المتعددة، أن هذا النوع من السرطان شرس جدا، فما أن يتراجع قليلا حتى يواصل الهجوم في أماكن مختلفة من جسدك، أمامك أسابيع وفي أحسن الأحوال بضعة أشهر لتتدبر أمرك قبل أن تفارق الحياة. أجابهم محتجا: ما بِتْوَفي معي، هذه مدة قصيرة جدا، أنا بحاجة الى عشر سنوات كحد أدنى، أولا: أريد أن تبلغ ابنتي شام عمر 18 عاما وتعتمد على نفسها، ثانيا: أريد إكمال فيلم (ميونيخ .. حكاية فلسطينية)، ثالثا: أود كتابة سيرتي الذاتية وقد شرعت بكتابة أجزاء منها.

نظر الأطباء إلى بعضهم البعض وابتسموا بإعجاب وتقدير، والتزموا الصمت!

لم يستسلم نصري للأمر الواقع، حاول دخول السباق مع سرطان لا يرحم، ويهاجم كل مكان في جسده، بينما قرر متابعة مهامه، مستعينا بسلاح الإرادة ولا شيء غيرها. فقد ألح على منتج وطاقم تصوير فيلم (ميونيخ .. حكاية فلسطينية) على تصوير الحلقة التي تدور أحداثها في فيينا وتخصه هو، وقد استجابوا له، ذهب فعلا الى التصوير وهو في حالة صعبة من التعب وضعف الحركة، وأدى الدور وسط ذهول الطاقم. كان ذلك هو الفصل الأخير من التحدي، بعد ان خذل جسده المستباح بالسرطان إرادته الصلبة، انهار جسده ولم يعد يقوى على الحركة والحديث، وعندئذ كتب بوسته الأخير الموجه الى شام ابنته التي وضعها في مركز اهتمامه كل الوقت قال: ادرسي يا صغيرتي فأبوك سوف ينام، وأمك سوف تحرسك، وتحرس نوم أبيك، وأنا يا حبيبتي لا أدري متى سأعود لتلك الحراسة المحببة. وبدأ يعد العدة لعبور الموت مقدما فلسفة للموت بصيغة شعرية قائلا: الأموات لا يتوقفون عن الحب/ فقط يتوقفون عن الكلام عن الحب/ لأنهم يحرسون حدائق الغياب/ من ثرثرات الأحياء.

تعرفت على نصري حجاج قبل 47 عاما، أثناء رحلة نظمها اتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة. كان جيفاري المظهر نسبة الى ارنستو جيفارا وهو الشكل المفضل لدى ثوريي فلسطين والعالم حينذاك. كثيرون وأنا من بينهم حاولوا التحدث معه وهو القادم من معقل الثورة في الجنوب اللبناني. ولم يستطع أحد الدخول الى عالمه. بعد أشهر قليلة، التقيته في مهرجان شعري في مدينة صور، سمعته يلقي شعرا نابعا من معاناة أبناء المخيمات الذين اصبحوا فرسان الثورة. وبعد انتهاء المهرجان ذَكّرته بلقاء القاهرة، رحب ودعاني إلى منزله في مخيم عين الحلوة/ صيدا. قبل ذلك، ذهب معي الى قاعدة الفدائيين كي أطلب إذنا بالمغادرة والمبيت خارج القاعدة، وقد رحب المسؤول بنصري وتبين أن المقاتلين يعرفونه. أمضينا ليلتنا في مخيم عين الحلوة داخل غرفته المعبأة بالكتب وبأشرطة الشيخ إمام وأغاني الثورة وتغطي جدرانها ملصقات الثورة والشهداء. في هذه الغرفة "التي تشحن من يدخلها بالثورة، تعرفنا على بعض".

منذ ذلك الوقت، ترددت على بيت نصري في عين الحلوة وتعرفت على معظم أفراد عائلته، شعرت بأن لي أهلا وقاعدة اجتماعية في هذا المخيم الذي يغص بالمقاتلين. ولاحظت البصمات التي تركها نصري على عائلته وبخاصة البنات. كان كل فرد من العائلة ينتمي الى تنظيم وقد توزعوا على أكثر من أربعة تنظيمات، البنات يصطحبن خطابهن ممن وقع عليهم الاختيار والاختيار المتبادل. يشعر الزائر انه أمام تعدد سياسي، وأمام حرية الاختيار، ويتأكد بالملموس أن التحرر الوطني لا ينفصل عن التحرر الاجتماعي، لا ينفصل تحديدا عن إزالة التمييز ضد النساء، وان الثقافة ليست ديكورا بل ممارسة ورافعة للرقي الإنساني والمجتمعي.

هناك علاقة بين استجابة الأبناء داخل العائلة للثورة وللتحولات الموضوعية المترتبة عليها والفطرة الطبيعية للأب والأم والجدة. فالأب الفلسطيني المهجر من قرية الناعمة قضاء صفد والسني المذهب تزوج من اللبنانية الجنوبية التي تنتمي للمذهب الشيعي، في ذلك الوقت، كانت الطائفية على هامش المشهد، وفي زمن الثورة لم نعرف الهوية الطائفية ولم نسأل عنها، كان الفرز بين الثورة والثورة المضادة، فقراء وأغنياء، وكان الفرز بين قومي ويساري ووطني، بين الثورة والثورة المضادة. وكان الفرز الأهم بين أنظمة وشعوب. بقي نصري أمينا على ذلك الفرز السياسي والطبقي والثقافي. تزوج من شابة كردية من حلبجة تتشارك معه ظلما تاريخيا، وبعد انفصالهما تزوج من شابة سورية. كان انتماؤه لثورة الشعوب ضد أنظمة مستبدة وقامعة، ظل داعما قويا للشعوب المستعبدة طوال الوقت، ولم يفقده انقلاب الثورة المضادة والتدخلات الاستعمارية والرجعية والمؤامرات الخارجية البوصلة. بقي مخلصا ومدافعا صلبا عن الشعوب. الامتزاج بين الوطني والقومي والعالمي، أظهره نصري في فيلمه (ظل الغياب) امتزاجا في الثورة والموت، من خلال مقبرة الشهداء في مخيم شاتيلا بفروعها الثلاثة. سلط نصري كاميرته على شهداء ينتمون الى البوذية والى المسيحية بفروعها والى الإسلام بمذاهبه المختلفة والى بلدان عربية وأجنبية وشهداء ينتمون الى اليسار وشهداء ينتمون الى أحزاب قومية، وشهداء الوطنية الفلسطينية، وكلهم قضوا من اجل حرية وتحرر الشعب الفلسطيني التي لا تتجزأ عن حرية وتحرر شعوب العالم.

بعد عودته للوطن، قرر نصري ان يذهب الى قرية الآباء والأجداد (الناعمة) وقد اصطحبه الى هناك الفنان محمد بكري. عندما اقتربت من البلدة، قال صديقي نصري، شعرت بتشنجات غريبة وغير مسبوقة، اعتقدت أني سأموت هنا في بلدي الأصلي، وبعد ان جلت على أطلالها المدمرة، استعدت توازني، وحاولت إيجاد تفسير للمشهد، وأضاف، يبدو ان هناك شيئا مشتركا بين الأرض وأصحابها الأصليين، اعتقدت ان أرضنا تعرفت علي، وأن جينات الأرض وجيناتي أصبحت وجها لوجه، ما جعلني اضطرب. علاقة الفلسطيني المهجر، بالأرض علاقة حرمان في الحياة وحرمان في الممات. لذا أراد نصري أن يكون حاضرا في موته وحياته في فلسطين، من خلال نثر جزء من رماده في الناعمة وفي البلدان التي أحبها، كما ورد في وصيته. ترجل نصري بعد أن استثمر كل لحظة في حياته وكانت بوصلته الحرية لفلسطين، ولكل الشعوب المضطهدة. وداعا صديقي العزيز.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...