بانتظار «ديغول» إسرائيلي
الكاتب: عماد شقور
بالمعنى الإستراتيجي والتاريخي العميق، شكّل السابع من أكتوبر النقطة الأخيرة في الدائرة التي كانت نقطتها الأولى العدوان الثلاثي على مصر في خريف سنة 1956. واكتمال أي دائرة، بفعل طبائع الأمور في الحياة، هي بدء تشكل الدائرة التالية. هذا ما نتعلمه من دروس التاريخ، وفي معالجتنا لهذا الموضوع، نتحدث عن التاريخ الحديث.
الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل في حربها الإجرامية على كل ما له علاقة بالحياة في غزة، يستحق الحد الأعلى من الإدانة. لكن ما يجب أن لا يغيب عن الذهن هو أن هذه السياسة الأمريكية تقف، على ما يبدو، عند أول عتبة التغيير.
لا بد من شرح وتوضيح: في العدوان الثلاثي على مصر، كان هناك انتصار عسكري حاسم لأطراف شاركت في الحرب، قابله انتصار سياسي حاسم لأطراف شاركت في الحرب، ولأطراف لم تشارك أيضا.
الأطراف الستة الفاعلة مباشرة في هذه المشاركة هي: مصر (المستهدفة بالعدوان) وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا (الأطراف المعتدية) والولايات المتحدة الأمريكية (قائدة المعسكر الغربي الرأسمالي) والاتحاد السوفياتي (قائد المعسكر الشرقي الإشتراكي):
ـ بريطانيا، هي الخاسر الأكبر: خسرت هيمنتها على قناة السويس، وخسرت مستعمراتها في كل ما هو «شرق السويس» وعادت لندن لتصبح مجرد «مدينة الضباب» بعد أن كانت «لا تغيب الشمس عن مستعمراتها». واعترفت بهذه الهزيمة التي تمت ترجمتها بما نراه حتى اليوم: انعدام سياسة بريطانية خارجية مستقلة، وتبني كل السياسات الخارجية لأمريكا، من الموقف تجاه المعسكر الشرقي، الى موضوع الصين الشعبية ومسألة تايوان، مروراً بالخروج من الاتحاد الأوروبي، والمشاركة في كل حروب أمريكا العدوانية من العراق الى أفغانستان وغيرهما، وانتهاء بالحرب الحالية (نيابة عن إسرائيل) على اليمن الشقيق.
ـ فرنسا: هي الخاسر الثاني: خسرت في محاولتها كسر شوكة زعيم الأمة العربية، جمال عبد الناصر، «عقاباً لدعمه ثورة الجزائر» وجاءت النتيجة عكسية تماماً، واندحرت من الجزائر التي كانت تعتبرها امتداداً للأرض الفرنسية على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وسحبت المستوطنين الفرنسيين من أرض الجزائر، وبدأت مرحلة خسارتها لكل مستعمراتها في القارة الإفريقية.
ـ إسرائيل، كسبت الجلوس على المقعدين: مقعد المنتصرين عسكرياً على الأرض، والمهزومين سياسياً، ومقعد المنتصرين في فك تحالفها المباشر مع معسكر المهزومَين، (بريطانيا وفرنسا) واستبداله بالتحالف المباشر مع زعيمة وقائدة المعسكر الغربي:
1ـ بعد انتصارها المذهل، في احتلال كل شبه جزيرة سيناء المصرية، والوصول الى الشاطئ الشرقي لقناة السويس، وجزيرتي تيران وصنافير في خليج العقبة، واحتلال قطاع غزة، أصيب زعيمها، دافيد بن غوريون، بلوثة نشوة الانتصار العسكري، وبدأ الحديث عن «مملكة إسرائيل الثالثة» (بعد أساطير التوراة عن الهيكل الأول والهيكل الثاني) وأعطى الجزيرتين في خليج العقبة أسماء توراتية، لكنه واجه موقفين حازمين متكاملين: إنذار جدي من الاتحاد السوفياتي (خروتشوف) بالتدخل لمواجهة العدوان الثلاثي ونتائجه العسكرية على الأرض، وإنذار الولايات المتحدة الأمريكية (آيزنهاور) بالانسحاب الكامل الى خطوط الهدنة. وهذا ما أُجبرت أسرائيل على تنفيذه نهائياً في آذار/مارس 1957.
2ـ أعجبت «الدولة العميقة» في أمريكا بالأداء العسكري الإسرائيلي، وبدأ، جرّاء هذا الإعجاب، نسج أمريكا لخيوط تبنّي إسرائيل، أو قل وراثة تبنّي الدول الأوروبية الثلاث الأكبر لإسرائيل: بريطانيا (الدعم السياسي) وفرنسا (الدعم العسكري: طائرات الميراج، والمفاعل الذري في ديمونا) والمانيا الغربية (الدعم المالي). وبدأ «التحالف» الأمريكي الإسرائيلي، بدعم وتضخيم دور اللوبي الصهيوني، وتطوير ذلك الى «تحالف استراتيجي» عانينا وما زلنا، كفلسطينيين وكعرب من تبعاته، وما ترتّب عليه، حتى الآن.
ـ مصر، خسرت جزئياً على الصعيد العسكري، باحتلال إسرائيل لسيناء والجزيرتين وقطاع غزة (الذي كان يخضع للإدارة المصرية) لكنها صمدت في معارك السويس. وشكل اندحار العدوان الثلاثي انتصاراً سياسياً غير مسبوق، أعطى مصر (عبد الناصر) دوراً سياسياً حاسماً على الصعيد العربي والافريقي والآسيوي بشكل خاص، وعلى الصعيد الدولي، من خلال قيادة «حركة عدم الإنحياز» الى جانب الهند (نهرو) ويوغسلافيا (تيتو).
ـ الاتحاد السوفياتي، كان من الكاسبين، دون الاضطرار للمشاركة الفعلية في الحرب، والاكتفاء بالتهديد الجدّي، الذي ثبّت دوره كقوة عظمى في العالم.
ـ أمريكا، هي أيضاً في مقاعد الكاسبين، بل في المقعد الأول: أوقفت القوتين النوويتين الأوروبيتين عند حدودهما، واستفردت برأس هرم المعسكر الغربي، وكسبت (أو قل ورثت) عميلاً رخيصاً يضمن ويحمي مصالحها في كامل الشرق الأوسط بأقل التكاليف. ويجدر بنا هنا التذكير بما قاله موشي ديان إثر عودته من فيتنام، التي أمضى فيها شهراً كاملاً لدراسة أبعاد تحالفها مع فيتنام الجنوبية، وأساليب مواجهة أمريكا لمقاتلي الفيتكونغ، كما كتب في جريدة «معاريف» الإسرائيلية إثر عودته، بما معناه: ليس هناك تحالف ندي بين قوة عظمى ودولة صغيرة، فالواقع الحقيقي هو أن هناك قوة عظمى ودولة عميلة، لا أكثر.
نخلص من كل دروس هذا التاريخ الحديث الى السؤال الأهم: في أي اتجاه تهب رياح أحداث هذه الأيام المشبعة بالضحايا والأرواح، والدماء والدموع والجوع؟
في اعتقادي أنها تهب بما تشتهيه سفينتنا الفلسطينية وسفينة أمتنا العربية، رغم كل الوجع والألم والمعاناة التي يعيشها أبناء شعبنا في قطاع غزة، ورغم انفلات وجرائم المستوطنين/المستعمرين في الضفة الغربية، والقدس الشرقية منها، ومعاناة أبناء شعبنا في مناطق الـ48.
أحداث السابع من أكتوبر، بكل ما عليها، وبكل ما لها، كشفت حقيقة فقاعة القوة الإسرائيلية التي لا تُقهر، والعبقرية الإسرائيلية، والقدرة الإسرائيلية على حماية من يستجير بها ويتحالف معها، وبقدرة إسرائيل على القفز من فوق «الجسر الفلسطيني» وتجاوز كل (أو بعض) المستحقات المترتبة على الحقوق الفلسطينية المشروعة.
ثم، وهذا أمر بالغ الأهمية: أمريكا دولة براغماتية تماماً، قوية وتحب الأقوياء، فقط الأقوياء، وعندما كانت إسرائيل فتية قوية، تبنّتها، تحالفت معها، ومكنتها من الإنتصار المذهل في حرب حزيران/يونيو 1967، وحمتها من هزيمة 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، وفتحت لها أبواب مصر، وأوصلتها الى مؤتمر مدريد، وباركت أوسلو، وفتحت لها أبواب الأردن، وألحقت بذلك أبواب «اتفاقيات أبراهام» لسلام مقابل السلام مع دول لم تخض أي حرب أصلاً، ثم جاء 7 أكتوبر 2023 ليكشف الحقيقة. وأمريكا لا تحب ولا تتحالف ولا تحمي الضعفاء.
مشكلتنا الحقيقية المباشرة هي مع إسرائيل، مع الطبقة الحاكمة في إسرائيل، من بن غوريون حتى نتنياهو وحكومته، وهي أنها دولة غير سويّة. دولة بلا أعصاب: بهرها انتصارها في حرب حزيران/يونيو، ففقدت أعصابها بفعل نشوة الانتصار، فنبذت ورفضت كل خطوة حقيقية عملية على طريق التسوية والحل بشروطه المطالبة ليس بالعدل المطلق، وإنما الاكتفاء بالعدل النسبي المعقول، القائم على قاعدة «لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم». ثم جاء السابع من أكتوبر فأرهبتها الهزيمة وفقدت أعصابها بفعل الإحباط. وفي الحالتين: يبهرها النصر فتتصرف بحماقة، وترهبها الهزيمة فتتصرف بحماقة.
يبدو أن العلاج الوحيد لـ«الحالة الإسرائيلة» هو أن يوقظها من فلتان أعصابها، تولي قيادتها «جنرال ديغول إسرائيلي» ينقذها من حالتها المزرية، ينقذها من «لعنة فلسطين» كما أنقذ ديغول الفرنسي فرنسا من «لعنة الجزائر».
شكّل اندلاع العدوان الثلاثي يوم 29 أكتوبر 1956 النقطة الأولى في الدائرة الأمريكية الإسرائيلية، وشكل السابع من أكتوبر 2023 النقطة الأخيرة في رسم محيط هذه الدائرة. وتشهد هذه الأيام، بطبيعة الحال، وضع النقطة الأولى في دائرة جديدة.