النوستالجيا.. غزة... طولكرم... جنين

الكاتب: رامي مهداوي
في السياق الفلسطيني، ليست النوستالجيا ترفًا عاطفيًا أو مجرّد مشاعر وجدانية عابرة، بل هي أحد أهم المفاتيح لفهم الذات الجمعية لشعب ما زال يرزح تحت ثقل الاحتلال، ويكافح من أجل البقاء، ويتنقل بين المنافي والمخيمات والشتات. الحنين إلى الماضي، في التجربة الفلسطينية، لا يرتبط فقط بطفولة شخصية أو مشهد عائلي، بل هو حنين إلى الوطن، إلى البيت الذي هُدم، إلى الزاوية التي اختبأت فيها الجدة من القصف، إلى المدرسة التي أصبحت ثكنة عسكرية، وإلى البرتقال الذي كان يعبق في يافا ولم يعد.
في غزة، لا تعني الحياة مجرد النجاة من القصف، بل الحفاظ على جوهر إنساني وسط الركام. حين تتوقف الكهرباء وتعمّ العتمة، لا يختفي النور، بل يخرج من أعماق الذاكرة. يتذكّر الغزيون البحر حين كان يعني نزهة للعائلات لا مقبرة للغرقى، والمدارس حين كانت تعلّم الطموح لا النجاة.
وفي مخيمات غزة، التي كانت ذات يوم عناوين للنكبة الأولى، باتت اليوم رموزًا للنكبة المتجددة. مخيم الشاطئ، المغازي، جباليا، النصيرات، رفح، والبريج، ليست مجرد أسماء، بل فضاءات مكتظة بالحياة والصبر. سكانها يتذكرون تفاصيل حياتهم حين كانت الأزقة تُنظَّف بالأيادي، والملابس تُنشر على الحبال، والمناسبات تُحيى على السطوح. اليوم، يعيش هؤلاء بين فقدٍ متكرر وأمل لا يموت. في كل ركن من هذه المخيمات، تسكن ذاكرة مشبعة بالحياة، رغم الموت الذي يمر من كل بيت.
وفي جنين، المخيم الذي صار رمزًا عالميًا للصمود، تتداخل في ذاكرة الناس صور الحاضر والماضي. زقاق المخيم، التي كانت تعجّ بالأطفال ونداءات الباعة، تحولت اليوم إلى مسارح اقتحام واشتباك.
مخيم جنين تحديدًا ليس فقط بؤرة توتر، بل بؤرة ذاكرة. هنا يُصنع التاريخ الشعبي الفلسطيني من لحم ودم، ومن سرديات الجدات عن قرى مهجّرة وأبطال مجهولين. الناس يتداولون أسماء الشهداء كما لو كانوا أبطال روايات، ويقصّون على أطفالهم حكايات عن أيام الحصار في 2002، واللحظات التي واجه فيها المخيم جيشًا مدجّجًا بالكرامة. المخيم هنا ليس عبئًا على المدينة، بل قلبها النابض. الحنين في جنين ليس عاطفيًا فقط، بل مسيّس، مقاوم، ومتجذر.
أما طولكرم، المدينة التي تتكئ على سفوح الجبال وتنظر غربًا إلى البحر الممنوع، فهي تعيش على إيقاع الانتظار. طولكرم تُدمَّر مثل غزة، تُجتَح مثل جنين، لكنها تنزف صمتًا.
وإلى جوارها، يقف مخيم طولكرم شاهدًا صامتًا على هشاشة الجغرافيا وصلابة البشر. هذا المخيم الصغير في مساحته، الكبير في رمزيته، كان ملاذًا للفلسطيني الذي خسر قريته لكنه لم يخسر ذاكرته. الحنين في المخيم ليس للمكان القديم فحسب، بل للمخيم ذاته حين كان أكثر بساطة، أكثر دفئًا، أقل كاميرات وأكثر أغانٍ.
هناك أيضًا مخيم نور شمس، الذي كان يعرف بأزقته الضيقة التي تفوح منها رائحة الخبز والزيت، واليوم يعرف باقتحاماته الدامية. لكن حتى في ظل الدمار، تُروى الحكايات: عن الأعراس التي كانت تقام على صوت العتابا، عن الشهداء الذين رحلوا وهم يحلمون، وعن أطفال ما زالوا يلعبون كرة القدم في الشوارع المهدّمة.
الحنين، إذًا، ليس عاطفة سلبية. في فلسطين، هو شكل من أشكال الصمود. هو الاحتفاظ بالأصل وسط التزوير، بالجوهر وسط التشويه، وبالكرامة وسط المحو. حين تفقد المدن والمخيمات ملامحها بفعل القصف أو الاجتياح أو الإهمال، يبقى الحنين مرآةً تقول للفلسطيني: أنت لست نكرة، أنت ابن مكان له اسم، وله نكهة، وله سردية.
في غزة وجنين وطولكرم، ومعها مخيماتها، يتقاطع الحنين مع الحاضر، لا ليجعلنا نتحسر، بل لنذكّر أنفسنا أن ما نعيشه ليس طبيعيًا، وأن ما ننتظره ليس مستحيلاً. النوستالجيا هنا ليست هروبًا من الوجع، بل احتضانًا له وتذكيرًا دائمًا بأن لنا ما يستحق الحياة.
تُصبح النوستالجيا، في حالتنا، أكثر من حالة وجدانية، إنها فعل مقاومة للزمن والطمس. ولأن الفلسطيني يعيش في حاضر دائم التشظي، فإن الماضي لا يغدو مجرد ذكرى، بل هو مرجع أخلاقي وسياسي وثقافي. كل أغنية من زمن ما قبل النكبة، كل صورة لمدينة قبل الاحتلال، كل اسم شارع تغيّر قسرًا، كل تفصيل صغير من حياة قبل التشريد، يتحول إلى وثيقة إثبات، إلى جدار معنوي يصمد أمام محاولات الإنكار والإلغاء.
ولعلّ ما يجعل النوستالجيا الفلسطينية فريدة، هو تزامنها الدائم مع الحاضر المتفجر، ومع مستقبل مفتوح على الاحتمالات، لكنها تظل مصدر أمل. إن استعادة مشهد الطفولة في القدس، أو رائحة الخبز في نابلس، أو صوت المؤذن في مسجد قديم بغزة، لا تُعدّ فقط طقوسًا للذكرى، بل وسيلة لترميم الذات، والحفاظ على ما تبقى من توازن نفسي في وجه الانهيار الجماعي.
النوستالجيا ليست تأسيًا على الماضي، بل هي دليل على أننا ما زلنا نمتلك الإحساس، والقدرة على الحب، والتمسك بما فقدناه كأنه ما زال حيًا. إنها امتداد لحقنا، ووسيلتنا لترميم الأمل، ودافعنا للاستمرار. ففي عالم تحاول فيه قوى الطمس والنسيان أن تُحوّلنا إلى ظلال، يبقى الحنين ذاكرة مقاومة، وشعلة حياة.