في ذكرى النكبة... مراجعة عميقة واستخلاص للدروس والعِبَر

الكاتب: هاني المصري
رغم مرور ٧٧ عاماً على النكبة، لا يزال الشعب الفلسطيني صامدًا، متمسكًا بأرضه، ولا يزال نصفه متشبثًا بوجوده على تراب الوطن. ومع تعاقب العقود، تبقى القضية الفلسطينية حيّة، وقد أصبحت فلسطين رمزًا للحرية في العالم بأسره.
لم يأتِ معظم اليهود إلى ما يُسمّى "أرض الميعاد"، رغم كل التسهيلات والمغريات. فلا يزال سؤال الوجود يخيم فوق إسرائيل، على الرغم من كونها دولة نووية متقدمة ، ومدعومة من القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم، ومعترف بها من عدد من الدول العربية والإسلامية، بينما البقية في طريقها لذلك.
وكل ذلك يحدث رغم المخططات والحروب والمشاريع التي تهدف إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وطمس حقوقه، وتصفية قضيته و هويته الوطنية.
ورغم أهمية بقاء الشعب على أرضه، وبقاء القضية حيّة، يطرح كثير من الفلسطينيين سؤالاً جوهريًا: لماذا، رغم كل النضالات والتضحيات والبطولات والصمود الأسطوري والمقاومة الباسلة، لم تتمكن الحركة الوطنية من تحرير فلسطين، أو حتى إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال الدولة الفلسطينية على حدود 1967 كشكل من أشكال تقرير المصير؟
للإجابة على هذا السؤال التأسيسي، نحن بحاجة إلى جهد وطني جاد، خاصة من المفكرين والجامعات ومراكز الأبحاث وأصحاب الخبرة والتأهيل. وفي قراءة أولية، لا شك أن حجم الأعداء وتعقيد المؤامرات عامل رئيس في تفسير ما جرى، لكنه خارج عن إرادتنا ولا يمكننا تغييره. أما العوامل الداخلية، فهي العامل الحاسم، ويمكننا التأثير فيها.
فلو جرت مراجعة حقيقية وشجاعة للأخطاء الصغيرة والكبيرة، بل والخطايا التي ارتكبتها القيادة الفلسطينية والفصائل والأحزاب والنخب، منذ نشأة القضية وحتى اليوم، ولو تحققت المحاسبة وتحمل المسؤولية واستخلاص العِبَر، لكان بالإمكان التقدم خطوات على طريق التحرير.
لم نتوقف بما فيه الكفاية أمام جذور وأسباب النكبة لكي نعمل على تلافيها.
لم نُقيِّم كما يجب تجربة الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان، ولا سيّما خطأ حسابات القوة ومسؤولية التغيير في المنطقة العربية.
لم نتوقف أمام إخفاق الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحرية والاستقلال، رغم أن بشائر النصر كانت تلوح في الأفق، ثم سرنا في الاتجاه المعاكس بدءًا من اتفاق أوسلو.
لم نراجع بجدّية الانتفاضة الثانية، وكيف خضناها ولتحقيق أي أهداف وضخمنا "الانسحاب" من غزة، بينما كان في الحقيقة إعادة انتشار لقوات الاحتلال، وكان خطوة للوراء في غزة لبث الفتنة والتقدم عشر خطوات في الضفة.
تساهلنا مع الانقسام، واعتبرناه خلافًا عابرًا كغيره، ولم ندرك خطورته وعمق تداعياته.
تعاملنا مع المقاومة والكفاح المسلح مرة كصنم يُعبَد، ومرة كعبء يُدار له الظهر، دون مساءلة جادة لمن يقودها ويتحكم بأدواتها.
لم نتوقف كفاية أمام سلسلة العدوان المتواصل على غزة منذ 2008، والذي استُشهد خلاله أكثر من ٧ آلاف فلسطيني قبل "طوفان الأقصى".
تركنا السلطة تتحول من كيان انتقالي نحو الدولة، إلى غاية بحد ذاتها، تُدار وفق استراتيجية البقاء، رغم أنها أصبحت "سلطة بلا سلطة"، تلتزم باتفاق أوسلو من طرف واحد، في حين يتعامل الاحتلال معها كأداة أمنية واقتصادية، دون أن نسعى بجدية لتحويلها إلى أداة من أدوات التحرر الوطني وخدمة تحقيق الاستقلال.
للماذا خسرنا كوننا حركة تحرر وبالتالي خسرنا الكثير من حركات التحرر والتضامن العربي والعالمي.
ونحن اليوم، في ظل ما مثله طوفان الأقصى وتداعياته ورغم كونه ردة فعل على ما قام ويستعد للقيام به الاحتلال، مطالبون بالتوقف عنده، وما له وما عليه، وإمام جريمة الإبادة وجرائم الاستيطان والضم والتطهير العرقي، ونسأل: لماذا لم توحّدنا هذه الجرائم؟
إن اختلاف الرأي أو الموقف لا يمنع التقييم والنقد والمساءلة، بل يجعلها ضرورية من أجل استخلاص العِبَر، والتعددية والمنافسة والخلاف جذر استمرار القضية والكفاح لأجلها و مصدر المناعة الوطنية شرط أن تكون في اطار وطني موحد يحدد القواسم المشتركة والمبادئ والقيم والأهداف وكيفية حل الخلافات والحقوق الأساسية وأسس الشراكة الوطنية التي من ضمنها التوافق الوطني وأساسا الاحتكام للشعب في عقد انتخابات منتظمة على كل المستويات والقطاعات، بدون أن ننسى أن فلسطين تمر بمرحلة تحرر وطني وان أي مهمات تتعلق بالبناء الديمقراطي بسبب وجود السلطة يجب أن تنسجم مع طابع المرحلة وأن فلسطين كلها تحت الاحتلال .
يمكن القول، في هذه العجالة، إن الحركة الوطنية عانت من رؤيتين متناقضتين وخاطئتين:
الأولى: أمعنت في الواقعية حدّ الخضوع، وتجاهلت الحلم والطموح.
الثانية: أمعنت في الخيال، وتجاهلت الواقع ومتطلباته.
ونحن اليوم بحاجة إلى رؤية جديدة تجمع بين الواقعية والطموح، رؤية ترى الواقع كما هو، وتتعامل معه لا لتكريسه، بل لتغييره، والعمل على تحقيق الأمل والأهداف الوطنية والديمقراطية مهما بدت بعيدة.