الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 3:57 AM
الظهر 12:37 PM
العصر 4:17 PM
المغرب 7:45 PM
العشاء 9:16 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

إلى روح الدكتور عبد الرحمن الحاج إبراهيم... سلاماً أيها الحكيم

الكاتب: عمر رحال

في رحاب جامعة بيرزيت التي تفيض علماً ووطنية ، وفي فضائها الذي يصل إلى عنان السماء ، وفي أروقة كلية الحقوق والإدارة العامة ، خطّ الدكتور عبد الرحمن الحاج إبراهيم مسيرته في دائرة العلوم السياسية بكل وقار، لا كأستاذ جامعي فحسب، بل كقامة فكرية ووطنية سامقة، حملت على عاتقها مسؤولية التنوير والتغيير. هناك، حيث تتلاقى أنفاس الفكر بحرارة الانتماء، فكان الدكتور الحاج إبراهيم أحد أعمدة العلوم السياسية، مفكراً يُوقد في العقول وهج الأسئلة الحرة، ويزرع في النفوس شغف البحث عن الحقيقة، ويُعيد للمعرفة دورها في صياغة الوعي الوطني والنضال من أجل الكرامة والحرية . هو ليس مجرد أكاديمي بين الجدران، بل هو روح حرة تجوب فضاءات المعرفة ، تنقّب في دهاليز السياسة عن جوهر العدالة ، وتعيد صوغ المفاهيم بلغة الإنسان قبل لغة الدولة . في حضرته، لا تكون السياسة مجرد صراع على السلطة، بل بحثاً عميقاً في معنى الكرامة، والحرية، والحق في أن يكون الوطن أكثر من جغرافيا.

يقرأ طلبته في ملامحه ثبات الحكيم ، وفي كلماته إيمان العارف بأن العلم رسالة ، لا مهنة. صوته الذي يحمل نبرات الوقار يوقظ في القاعات الفكر النائم ، ويحرض العقول على العصيان النبيل ضد السطحية والتلقين . يجيد الإنصات بقدر ما يجيد الحديث ، فتجده يبني جسور الحوار كما يبني المعاني ، ويؤمن بأن الأفكار تزدهر حين تُروى بماء الشكّ وتُنقّى بنار النقد، فهو حامل رسالة العلم في زمن التيه ، ومؤمن بأن الأوطان تُبنى بالفكر قبل أن تُبنى بالحجر، وأن جيل اليوم إن لم يتعلم كيف يساءل ويجادل ، فلن يعرف غداً كيف يصنع مستقبله.

لم يكن الدكتور عبد الرحمن الحاج إبراهيم يوماً حبيس قاعات المحاضرات وحدها، بل كان جسراً حيوياً بين الجامعة والمجتمع ، بين النظرية والعمل ، بين الفكر والميدان . فإلى جانب كونه أستاذاً مرموقاً في العلوم السياسية بجامعة بيرزيت ، آمن دوماً بأن رسالته لا تكتمل إلا بالانخراط العميق في قضايا مجتمعه ، جنباً إلى جنب مع مؤسسات المجتمع المدني.

لقد كان له حضور لافت ومؤثر في مساحات  الحيّز العام ، حيث لم يتوانَ عن تقديم خبراته الأكاديمية ومهاراته التحليلية دعماً للمبادرات التي تتناول قضايا الانتخابات ، الحوكمة، الحقوق، المشاركة السياسية، وحماية الحريات العامة. فقد كان شريكاً فكرياً واستراتيجياً للعديد من المؤسسات، وأبعد من ذلك فقد أسس وقاد عدداً كبيراً من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية ، رئيساً حيناً، ونائباً للرئيس ، عضواً، مستشاراً ، داعماً ، ميسّراً للحوار حيناً آخر، ومرافِقاً علمياً في إعداد الدراسات والأوراق السياساتية التي تسعى لإحداث فارق ملموس في واقع الناس.

من خلال عمله مع مؤسسات المجتمع المدني، رسّخ الدكتور عبد الرحمن ثقافة النقد البنّاء والطرح الرصين، فكان داعماً لمبادرات الإصلاح ، مدافعاً عن الحريات الأكاديمية والعامة، وساعياً إلى تعميق وعي الشباب بأهمية الانخراط في الشأن العام وصناعة القرار. لقد مثّل، في كثير من الأحيان، صوت الحكمة الذي يوازن بين طموح التغيير وحسابات الواقع، إيماناً منه بأن بناء مجتمع ديمقراطي وعادل لا يتم إلا بالشراكة مع مؤسسات المجتمع الحية والفاعلة.

وفي زمن اشتدت فيه الحاجة إلى العقول النيّرة والمواقف الجريئة ، كان الدكتور عبد الرحمن من أولئك الذين اختاروا أن يكونوا في صفوف المجتمع ، لا على هامشه ، يؤمن بأن دور الأكاديمي لا ينتهي عند حدود قاعة الدرس ، بل يبدأ منها لينطلق إلى رحاب أوسع ، حيث تصنع القرارات ، وتُكتب السياسات ، وتُبنى جسور الثقة بين الناس ومؤسساتهم.

فقد كان صوت التقدّم الذي يرفض الإقصاء ، ويدعو إلى الشراكة ، ويؤمن بأن التغيير يبدأ من القاعدة ، من الناس أنفسهم ، لا من فوقهم . ساند قضايا الحقوق والحريات ، وكان مناصراً دائماً لمبادئ الشفافية والمساءلة ، مراهناً على وعي الناس وقدرتهم على الدفاع عن مكتسباتهم. ولم يكن التقدّم عند الدكتور عبد الرحمن الحاج إبراهيم مجرد موقف أكاديمي ، بل كان التزاماً أخلاقياً وفكرياً يعكس إيمانه بأن الشعوب التي لا تجرؤ على الحلم ، لا يمكن لها أن تصنع التاريخ.

في زمن تميل فيه العقول إلى الركون للواقع أو الانشداد إلى الماضي ، كان الدكتور عبد الرحمن الحاج إبراهيم استثناءً مضيئاً في سماء الفكر السياسي الفلسطيني . لم يكن التقدّم عنده شعاراً يرفع ، بل كان منهجاً راسخاً في الفكر والسلوك ، يتبدى في كل تفاصيل عطائه الأكاديمي والمجتمعي.

كان تقدميّاً بمعنى الإيمان العميق بضرورة التغيير، لكنه التغيير المدروس الواعي ، لا المغامرة العشوائية ولا الانقلاب على الثوابت . رأى أن السياسة لا تكتمل إلا عندما تصبح أداة لتمكين الإنسان ، وصوتاً للمهمشين ، ورافعة للعدالة الاجتماعية . لهذا حمل في رؤيته همّ الشباب، ودافع عن أحقية النساء في المشاركة الكاملة ، وآمن بأن الديمقراطية ليست ترفاً بل شرط وجود لأي مجتمع يريد أن يعيش بكرامة.

في قاعات التدريس، كان يحرّض طلابه على التفكير الحر، ويزرع فيهم قيم التمرد على الجمود ، ويشجعهم على المساءلة ، لا الانصياع . لم يكن أستاذاً يلقّن بقدر ما كان محفزاً للفكر النقدي ، يرى في كل سؤال بوابة نحو وعي أعمق ، وفي كل حوار فرصة لبناء جيل قادر على استشراف المستقبل.

لم يكن الدكتور عبد الرحمن الحاج إبراهيم مجرد أستاذ في العلوم السياسية ، بل كان قلباً نابضاً بالود ، وروحاً مفعمة بالتواضع والإنسانية . في كل من عرفه ، ترك أثراً لا يُمحى ، إذ كان صديقاً قبل أن يكون زميلاً ، وأخاً قبل أن يكون معلماً.

لم يكن يعرف في تعاملاته حواجز الألقاب أو مسافات المواقع ، بل كان دائماً الأقرب إلى القلوب ، بحضوره الجميل والكريم ، وابتسامته التي تنثر الطمأنينة فيمن حوله . كان مستمعاً جيداً، لا يقاطع حديث أحد ، ويمنح كل من يلجأ إليه أذناً صاغية وقلباً مفتوحاً ، سواء كان طالباً يبحث عن نصيحة ، أو زميلاً يطلب مشورة ، أو حتى صديقاً يشكو هموم الحياة.

عرفه الجميع بقدرته العجيبة على بناء العلاقات الإنسانية المتينة ، فقد كان يجيد صناعة الألفة ، ويُشعر من حوله بأنهم جميعاً جزء من عائلته الكبيرة . لم يكن يفرق بين صغير وكبير، أو بين طالب وزميل ، بل كان يؤمن أن احترام الإنسان لا يرتبط بموقعه ، بل بإنسانيته.

في اللقاءات والمناسبات ، كان الحضور الأجمل والأقرب ، يمازح هذا ، ويساند ذاك، وينثر حوله دفء الأحاديث العفوية التي تحوّل الجلسات إلى فسحة للودّ والضحك والمشاركة . وعندما يغيب، يترك فراغاً لا يُملأ، إذ أن وجوده كان رمزاً للترابط وروح الجماعة.

لقد أحب الجميع، وأحبه الجميع، لأنه كان يلتقي بهم من موقع القلب لا من موقع المنصب، ومن مكانة الصديق لا من برج العاج الأكاديمي. وهكذا، سيبقى الدكتور عبد الرحمن الحاج إبراهيم في ذاكرة من عرفوه عنواناً للمحبة ، ومثالاً للصديق الصادق الذي لا يخذل ولا يبتعد، مهما اختلفت الظروف وتبدلت الأيام.

كان وجه الدكتور عبد الرحمن الحاج إبراهيم مرآة لروحه الطيبة ، لا تكاد تراه إلا والبسمة تسبقه، تنثر الأمل وتكسر حواجز الرسمية والرتابة . لم يكن الضحك عنده زينة عابرة ، بل كان لغة يومية تشيع البهجة وتخفف وطأة الأيام ، حتى في أحلك اللحظات وأشدها صعوبة . كما كان يستمتع بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية ، يجد فيها ملاذاً هادئاً يرافقه في لحظات التأمل والتفكير، وكأنها تمتزج بأفكاره وتمنحها إيقاعاً من نوع خاص.

في قاعات الدرس، وبين طلابه الذين كان يرى فيهم بذور الغد ، كانت ابتسامته سر الحضور المشرق. كان يعلم أن العلم ليس عبئاً ثقيلاً على الأرواح ، بل رحلة ينبغي أن ترافقها البساطة والفرح ، فكان يجعل من النقاش العلمي متعة ، ومن أصعب المواضيع نزهة فكرية تبتعد عن الجفاف والجمود.

وفي الممرات والمكاتب والمناسبات العامة ، كان ضحوكاً بطبعه ، لا يترك فرصة إلا وزرع فيها طرفة ذكية ، أو تعليقاً خفيفاً ينزع عن اللحظة ثقلها. لم يكن الضحك عنده ترفاً، بل جسراً للتقارب، وسبيلاً لتقوية الروابط، وعلامة على نفس مطمئنة تعرف كيف توزّع الفرح بلا تكلّف.

حتى في أوقات الشدة، كان الحاج إبراهيم يعرف كيف يختار من الكلمات ما يُسكّن، ومن التعابير ما يُخفّف، ومن البسمات ما يُشعر من حوله أن الدنيا رغم قسوتها ما زالت تحتمل لحظات من الضوء والدفء. هكذا كان، ضحوكاً بلا إسراف ، مبتسماً بلا تصنع، يفيض إنسانيته على من حوله ، حتى أصبح حضوره مقروناً في الذاكرة بالبهجة والطمأنينة  ، ولذلك، لم يكن غريباً أن يفتقده الجميع لا كأستاذ فقط ، بل كرفيق يومي كان يجعل من العلم والعمل واللقاءات فسحة حب وابتسام ، وحياة تُعاش بلا غبار الكآبة ولا عبء العبوس.

سلاماً... أيها الحاضر الغائب يا من سكنت القلوب قبل أن تسكن الذاكرة، وأقمت في الوجدان مقام الحكيم الملهِم، نمْ قرير العين يا عبد الرحمن، فالكلمات لا تكفي لاحتواء سيرة عابقة بالمعنى، ولا الأسطر تفي ملامح حضورك الذي لن يغيب. ستظل جامعة بيرزيت وزملائك وزميلاتك في كلية الحقوق والإدارة العامة ودائرة العلوم السياسية تنطق باسمك في محاضراتها، وستظل العقول التي أيقظتها شاهدة على زمن كنت فيه النور في عتمة الأسئلة.

نمْ بسلام، فالحقول التي مشيت فيها ستنبت فكراً، والقلوب التي لمستها ستظل تنبض بامتنان. ستذكرك الجامعات كما تذكرك الأزقة، وسيحملك التاريخ كما حملتك اللحظة. فأمثالك لا يرحلون ، بل يتحولون إلى ضوء يُرشد ويهدي ويضيء الطريق لمن تبقى. سلاماً عليك في الغياب... كما كنت سلاماً في الحضور، سلاماً أيها الحكيم.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...