الدولة المؤجلة حتى إشعار لا يأتي!

الكاتب: أمين الحاج
بقرارها إقامة اثنتين وعشرين مستوطنة جديدة على امتداد الضفة الغربية المحتلة، لم تترك حكومة اليمين المتطرف مجالاً للشك في نواياها الحقيقية تجاه الأرض الفلسطينية، بل والمشروع الوطني برمته، فلم يعد الأمر مجرد توسع استيطاني، ولا ذرائع أمنية، بل هو إعلان واضح ومباشر بنسف فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، أياً كان شكلها وموقعها، بل وتحويل الضفة الغربية إلى ساحة نفوذ استيطاني دائم، تدار بعقلية ضم معلن لا تراجع فيه.
القرار الذي وصفه اليمين الحاكم في تل أبيب بأنه لا يتكرر إلا مرة واحدة خلال جيل كامل، أتى في ذروة العدوان على غزة، وفي وقت يتحدث فيه ما يسمى المجتمع الدولي عن ضرورة العودة إلى ما تسمى بـ"العملية السياسية"، وطاولة التفاوض، وخيار "حل الدولتين"، وبينما تتصدر الرياض وباريس مشهد الدعوة إلى مؤتمر دولي في حزيران لإحياء هذا الخيار، حزيران الذي يحمل ذكرى أليمة، ذكرى النكسة، وسقوط القدس وتهويدها، استبقت حكومة المستوطنين تلك المساعي، وها هي ترسم اليوم على الأرض واقعاً جديداً، لا مكان فيه لأي كيان فلسطيني مستقل، بل متاهة من المستوطنات، تتمدد كالسرطان من شمال الضفة إلى جنوبها، بغور الأردن، في خطة هندسية هدفها تقطيع أوصال الأرض الفلسطينية، وعزل مناطقها عن بعضها البعض.
المعنى العميق لما حدث لا يتوقف عند البعد الجغرافي أو الديمغرافي، بل يمتد إلى البنية السياسية والقانونية للاحتلال، ففي تل أبيب، لم يعد الحديث عن الأمن أو إملاء الشروط، بل عن "حق ديني" مزعوم، وعن استعادة "إرث الأجداد"، وفرض السيادة رسمياً على أرض محتلة، في تحد مباشر لكل القوانين والقرارات الدولية، بل والمنظومة الأممية قاطبة.
ففي ظل الدعم الواضح من اليمين الصهيوني، وتراجع الضغط الدولي الحقيقي، لم تعد حكومة نتنياهو تخفي نواياها، بل نراها تكشر عن أنيابها، وتعلن مشروعها، إنه تكريس الاستيطان، وجعله واقعاً معاشاً، ومنع أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ما يشكل ضربة استراتيجية لأي مسعى فلسطيني لإقامة الدولة، ويقود فيما يقود إلى جملة من المخاطر الكبرى، أولها ابتلاع الجغرافيا، والقضاء على أي فرصة لقيام الدولة الفلسطينية، من خلال تفتيت الأرض، وتحويلها إلى جيوب معزولة، ومحاصرة بالمستوطنات، والطرق الالتفافية.
كما يؤدي ذلك إلى تآكل فعلي لما بقي من دور للسلطة الفلسطينية، ما جعلها تبدو أقرب إلى إدارة خدماتية، تعمل تحت "السيادة" الإسرائيلية الفعلية، لا كقيادة وطنية تقود مشروع تحرير.
والمخاطر لا تتوقف عند هذا الحد، بل تمتد، كتكريس نظام الفصل العنصري في الضفة، حيث يُحكم المستوطنون بقوانين مدنية، بينما يُحكم على الفلسطينيين بقوانين عسكرية.
أمام هذا المشهد، لم تظهر السلطة الفلسطينية أي استراتيجية فاعلة للمواجهة، أياً كان شكلها، فمنذ سنوات، تراجعت فعلياً وتدريجياً، عن دعم المقاومة الشعبية السلمية، حتى لو ظل الخطاب العام يردد ذلك بلا توقف، بل وانزلقت نحو الارتهان الكلي للمنظومة الدولية، رافعة شعار التوجه إلى الأمم المتحدة، والمحاكم الدولية، والمجتمع الدولي، لكنها لم تعد خطة تراكمية لهذا المسار، ولم تطور أدوات ضغط حقيقية، بل استخدمت هذه الاوراق بشكل متقطع ومنفصل، حتى باتت لا تخيف تل أبيب، ولا تحرك المجتمع الدولي، ومع كل انتهاك جديد، تكتفي بإصدار بيانات الإدانة، والتهديد بمراجعة الاتفاقيات، دون أن تقدم على خطوات عملية على الأرض.
السلطة الفلسطينية اليوم تبدو بلا أنياب، بلا شرعية حقيقية، وبلا مشروع سياسي قادر على استنهاض الفلسطينيين، أو حتى مواجهة الاحتلال، ولو سلمياً، وإن تعويلها - المُفرط - على الخارج، أفرغ أدواتها من أي مضمون، فالمجتمع الدولي الذي تدعوه – صباح مساء – لنجدتها، مشلول، لا يملك الإرادة، ولا حتى الرغبة في فرض أي كلفة على الاحتلال، ومنظومة القانون الدولي باتت أعجز أمام ميزان القوى، واستخدام الفيتو الامريكي، والانتقائية في تطبيق القرارات الدولية.
فرهان السلطة على هذه المنظومة بات عبثياً، بل هو أشبه بانتظار سراب في صحراء، فالمستوطنات "الجديدة" ليست مجرد حلقة في جريمة مستمرة فحسب، بل هي نعي رسمي لحل الدولتين، ونسف للمشروع الوطني الفلسطيني بصيغته القائمة منذ أوسلو، ومع كل مستوطنة تُقام، يتوارى الحلم في متاهات الخطوط الوهمية، وما لم يتم الاعتراف بهذه الحقيقة بجرأة، وإعادة تعريف المشروع الوطني وأدواته، فإن ما سيتبقى من فلسطين سيكون ظلاً لوطن، وصدى لحلم، ومعها سلطة معلقة في الهواء، تحرس خريطة بلا أرض، تنهشها المستوطنات، ويغمرها صمت العالم ودماء الأبرياء